الغزو الثقافي في المجال التاريخي (2)

المنهج المنحرف في معالجة تاريخنا:

والغريب أنَّ هؤلاء يَضعون لتشريح تاريخنا (منهجاً خاصاً) وصولاً إلى إدانته، فبينما يُعالجون تاريخهم، وتاريخ كلِّ الأمم الأخرى بمقياس قريب من (الواقعيَّة) و(الموضوعيَّة) لدرجة أنَّهم تواضعوا على التفرقة بين الالتزام العام والحياة الشخصيَّة، فإنهم يَعْمدون إلى محاكمة تاريخنا وكأنه تاريخ ملائكة ليسوا من البشر إنهم يريدون منهم أن لا يختلفوا في الرأي، ولا يجتهدوا في الوصول إلى ما يؤمن كل منهم أنه الحق. إنهم يريدونهم قوالب مصبوغة في قالب واحد دون أدنى تعبير عن العقل الخاص والرؤية الخاصَّة. والحقيقة أننا نحن المسلمين ساعدنا على شيوع هذا المنهج... فقد تحدث كثير منا عن هذا التاريخ بطريقة أسطورية فبدأ هذا التاريخ وكأن الذين عاشوه يجب أن لا تكون لهم أية اجتهادات مرجوحة، بل كلهم يجب أن تكون كل اجتهاداتهم راجحة – وهو أمر لا يستقيم ومنطق الحياة – ولقد صرفنا هذا المنهج عن التحليل الموضوعي الكريم في إطار الأدب الإسلامي الذي علمنا إياه نبينا عليه الصلاة والسلام.

وقد أدى هذا إلى موقفين: موقف قبول كامل لهذا التاريخ دون الاستفادة من بعض الجوانب السلبية البشرية التي هي ضرورة في الاجتماع البشري...وموقف آخر تمثل في رد فعل يذهب إلى رفض هذا التاريخ مستجيباً إلى أية دراسات تتلفع برداء العلمية والعملية في تحليل التاريخ، وتعمد إلى بث الشبهات والافتراءات... وتضخم الاجتهادات البشرية المخلصة، فتحولها إلى أخطاء وكبائر...!!

وأيَّاً كان الأمر – فقد كان هذا الموقف – من الأعداء والبسطاء مظهراً من مظاهر المنهج المنحرف في معالجة تاريخنا، وهو مظهر سار في تاريخنا كله حتى اليوم... فنحن لا زلنا ننظر إلى مصلحينا وأئمتنا في العصر الحديث بالمنظار نفسه... فجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده – مثلاً – يتواطأ كثيرون على إدانتهما وقد بذل أحدهم عمره – عن حسن قصد – وهو الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله في ترصد حياتهما وتأويلها دائماً لغير صالحهما.... وكان على رأيه آخريه، من المفكرين، ومنهم الدكتور علي سامي النشار، والأستاذ محمد عطية خميس المحامي، رحمهما الله تعالى، ولا زال على هذا الرأي كثيرون في الجزيرة العربية ومصر حتى اليوم!!

وقد التقى مع هذا الرأي (واستثمر الكتابات الإسلامية فيه) الدكتور لويس عوض الذي يمثل قلعة من قلاع الصليبية في مصر...والرجل الذي يرفض كل ما هو إسلامي وعربي، ويحارب على صفحات صحفنا المصرية والعربية في سبيل هدفه، ويأخذ من أموالنا مكافآت سخيَّة كفاء عمله الآثم، وهكذا التقى البسطاء مع الأعداء... في نموذج حديث كذلك.

وفي المقابل وجد آخرون لا يسمحون بتشريح حياة الأفغاني ومحمد عبده بالمبضع البشري الذي يرصد الحسنات والسيئات ويوضح الظروف المحيطة بالاجتهادات الخاطئة!!

وإذا ما تركنا هذا المظهر من مظاهر الانحراف – فإننا نجد مظاهر أخرى ساعدت على الانحراف عن المنهج الصحيح في معالجة تاريخنا.

ومن هذه المظاهر الاختلاف الأساسي في النظرة إلى الإنسان ومقوماته بين المسلمين وغير المسلمين... فغير المسلمين قد ألفوا النظر إلى الإنسان وحركته وحروبه وتضحياته وإقامته للمذاهب والدول بمنظار مادي بحت، انطلاقاً من تركيزهم على الجانب المادي في الحياة واستهانتهم بالجانب الروحي والأخلاقي فيه، ولهذا فهم يفسرون حركة الحياة بالعامل الواحد المادي أو الاقتصادي ويكادون يغفلون دور العناصر الأخرى.

وبعضهم يدين (شبنجلر) و (توينبي) لاعتمادهما نزعة غيبية في تفسير التاريخ ولا يتصور هؤلاء كيف أن أبا بكر رضي الله عنه يتبرع بكل ماله وكيف أن صهيباً رضي الله عنه ترك مكة كل ثروته وقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ربح البيع...

فهم من عالم آخر بعيد لا يستطيع منه أن يدركوا هذا المستوى الغريب، وهم لذلك يلتمسون كل ما يظنونه يخدمهم لتغيير حركة الفتوحات الإسلامية تغيرات مادية أو اقتصادية بل إنهم أرادوا لظهور الإسلام نفسه أن يكون قد ظهر لعوامل اقتصادية أو لإنصاف بعض الطبقات!!

وهذه الاستجابة الناقصة هي أول ظاهرة تتسم بها البحوث الغربية عن الموضوعات الإسلامية ذلك أن هناك عنصراً ينقص الطبيعة الغربية – بصفة عامَّة – لإدراك الحياة الشرقية بصفة عامَّة والحياة الإسلامية على وجه الخصوص... عنصر الروحية الغيبية وبخاصة في العصور الحديثة بعد غلبة النظريات المادية والطريقة التجريبية على وجه أخص – وكل ما كانت هذه الموضوعات الإسلامية ذات صلة وثيقة بالفترة الأولى من حياة الإسلام كان نقص الاستجابة إليها أكبر في العقلية الغربية الحديثة. [المصدر: الشهيد سيد قطب: في التاريخ فكرة ومنهاج ص 161 – دار الشروق.]

وبالإضافة إلى هذا فقد درج أكثر المستشرقين الباحثين في التاريخ الإسلامي على الخضوع لميزان الهوى، واللجوء إلى كتابات من سبقوهم من المستشرقين وكأنها (المصادر الأصلية) والاعتماد على الأفكار الكنسية عن الإسلام، تلك التي سيطرت على الفكر الغربي في العصر الوسيط والحديث وأكثرهم يعمل في دوائر مهمتها الحرب على الإسلام والمسلمين ويقومون بأبحاث موجهة أصلاً لتحقيق أهداف هذه الدوائر، وبالتالي فهم يصنعون في أذهانهم فكرة معينة ويبدأون في تصيد الأدلة لا تهمهم صحتها بمقدار ما يهمهم إمكان الاستفادة منها لدعم آرائهم الشخصية، وكثيراً ما يستنبطون الأمر الكلي من حادثة جزئية، أو أنهم يدخلون بشخصياتهم وآرائهم وأهوائهم الخاصَّة فيفسرون الحوادث ويناقشون النصوص، ويحللون القضايا والشخصيات الإسلامية على ضوء وجهة نظرهم، ويطلون من نافذتهم الخاصَّة فيلقون ظلالاً معينة تغير معالم الصورة الأصلية، ومن هنا يضربون في متاهات أملاها عليهم الهوى والغرض رغم ما توفر لهم من الإمكانات العلمية بالحصول على المخطوطات الثمينة من تراث الإسلام، التي كان من شأنها أن تهديهم إلى الفكرة السليمة عن الإسلام والمسلمين. [المصدر: عماد الدين خليل: دراسات تاريخية ص 161 نشر المكتبة الإسلامية.]

ويشير الدكتور جواد علي إلى أن المستشرق (كيتاني) كان يعتمد منهجاً معكوساً في البحث يذكرنا بكثير من المختصين الجدد في حقل التاريخ الإسلامي والذين يعملون وفق منهج خاطئ من أساسه إذ أنهم يتبنون فكرة مسبقة ثم يجيئون إلى واقع التاريخ لكي يستلوا منها ما يؤيد فكرتهم ويستبعدوا ما دون ذلك، فلقد كان (كيتاني) ذا رأي وفكرة، وصنع رأيه وكونَّه في السيرة قبل الشروع في تدوينها فلما شرع بها استعان بكل خبر من الأخبار ظفر به ضعيفها وقويها، وتمسك بها كلها ولاسيما ما يلائم رأيه، ولم يبادر بالخبر الضعيف بل قوَّاه وسنده وعدّه حجة، وبنى حكمه عليه، ومن يدري فلعله كان يعلم بسلاسل الكذب المشهورة والمعروفة عند العلماء ولكنه عفا عنها وغض نظره عن أقوال أولئك العلماء فيها لأنه صاحب فكرة يريد إثباتها بأية طريقة كانت، وكيف يتمكن من إثباتها وإظهارها وتدويننها إن ترك تلك الروايات وعالجها معالجة نقد وجرح وتعديل على أساليب البحث الحديث؟! [المصدر: عبد الكريم باز: افتراءات فيليب حتى وكارل بروكلمان ص 25 نشر دار تهامة – السعودية.].

وترد في ختام كتاب (أيتن دينيه) الشرق كما يراه الغرب بعض الآراء حول هذا المنهج حيث يقول:

لقد أصاب الدكتور سنوك هير غرنجة بقوله: (إن سيرة محمد الحديثة تدل على أن البحوث التاريخية مقضي عليها بالعقم إذا سخرت لأية نظرية أو رأي سابق).

ويعقّب صديقنا الدكتور عماد الدين خليل على هذا الاتجاه الملحوظ في الفكر الاستشراقي بقوله: ونحن نستطيع أن نحصل على عشرات بل مئات من هذا (الانتفاء الكيفي) أو التفسير الاختياري للنصوص التاريخية في كير من كتب المستشرقين وبخاصة أجيالهم السابقة. 

فبرو كلمان على سبيل المثال لا يشير إلى دور اليهود في تأليب الأحزاب على المدينة ولا إلى نقض بني قريظة عهدهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم في أشد ساعات محنته، ولكنه يقول: (ثم هاجم المسلمون بني قريظة الذين كان سلوكهم غامضاً على كل) ويتقاضى لإسرائيل ولفنون عن حادثة نعيم ابن مسعود في معركة الخندق كسبب انعدام الثقة بين المشركين واليهود ولعله يريد أن يوحي بذلك أن اليهود لا يمكن أن يخدعوا!!

ومثل هؤلاء أيضاً وأولئك الذين يسقطون على التاريخ الإسلام أهواءهم المذهبية فهم منطلقون أيضاً من خلفية فكرية قهرية معتسفة تلوي عنق الحقائق كرهاً حتى تصبح هذه الحقائق خادمة في بلاط (الاشتراكية) مرة و (الليبرالية) مرة أخرى ويصبح عمر وأبو ذر يساريين وعثمان وعبد الرحمن بن عوف يمينيين اقطاعيين ويصبح هناك صراع بين اليمين واليسار في الإسلام. [المصدر: مقالات لكاتب شيوعي يدعى أحمد عباس صالح نشرت بمجلة الكاتب تحت هذا العنوان.] 

وقد لجأوا – في سبيل تكييف الوقائع حسب أهوائهم – إلى الاعتماد على الآراء والتحليلات الضعيفة، وعمقوها وجعلوها هي الحق، وسواها باطل كما رجحوا آراء المارقين والمنحرفين واعتبروهم الفلاسفة والمفكرين الممثلين للإسلام، وفي مجال التاريخ رجحوا آراء أصحاب الوفد الباطنية وأصحاب النزعات الفوضوية، والإلحادية، وجعلوها (المعارضة الفورية) لسيادة التيار الإسلامي المحافظ، الممثلة للشعب المسلم.

ومن مظاهر المنهج المنحرف الذي يلتزم به أقطاب الغزو الثقافي لتاريخنا ما يعمد إليه أكثر المستشرقين من إسقاط المنطق الوصفي العلماني، والرؤية البيئية المعاصرة للمناهج الغربية على الوقائع والأحداث الإسلامية الماضية فلقد رأى المستشرق المسلم دينه – على سبيل المثال -أنه من المتعذر إن لم يكن من المستحيل، أن يتحرر المستشرقون من عواطفهم وبيئتهم ونزعاتهم المختلفة وأنهم لذلك قد بلغ تحريفهم لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم مبلغاً يغشى على صورتها الحقيقية من أتباعهم لأساليب النقد البريئة ولقوانين البحث العلمي الجاد فإنا نلمس من خلال كتاباتهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم يتحدث بلهجة ألمانية، إذا كان المؤلف ألمانياً، وبلهجة إيطالية إذا كان الكاتب إيطالياً، وهكذا تتغير صورة محمد بتغير جنسية الكاتب، وإذا بحثنا في هذه السير عن الصورة الصحيحة فإنا لا نكاد نجد لها من أثر. 

إن المستشرقين يقدمون لنا صوراً خيالية هي أبعد ما تكون عن الحقيقة وهكذا تعدد (المظاهر) التي أدت إلى انحراف المنهج لدى طبقات كثيرة من هؤلاء الذين يشتغلون بمعالجة قضايا تاريخنا الإسلامي وحضارتهم الإسلامية.

وكلها مظاهر منبعها الجهل في الأقل، والحقد في الأكثر، والبعد عن المنهج العلمي السليم في كلا الحالين.

[وللمقالة تتمة، تتحدث عن الغزو التنصيري والعلماني]

المصدر: مجلة المسلم المعاصر، رجب، شعبان و رمضان 1406 - العدد 47

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين