الغزو الثقافي في المجال التاريخي (1)

 

أسباب الغزو الثقافي في تاريخنا:

كثيرة هي الغارات التي شنت ولا تزال على تاريخنا الإسلامي، وقديمة – أيضاً – هي هذه الغارات وموصولة تتدافع حلقاتها في سلسلة يأخذ بعضها في خناق بعض... وتعود هذه الغارات قديمها وحديثها لأخطاء أساسية...

وأخطاء تتصل بسيطرة (المذهب) على (المنهج) و(الولاء المسبق) على (الحقيقة الموضوعية).

وأخطاء تتصل (بمخططات موصولة) تهدف إلى القضاء على عظمة تاريخ هذا الدين وعظمة حضارته.

وأخطاء تتصل (بأحقاد موروثة) نشأت منذ ظهر الإسلام على هذه الأرض واستطاع ببساطته وملائمته للفطرة ووضوح حقائقه العقيدية والتشريعية والأخروية أن يغير مجرى التاريخ وأن يعيد رسم خريطة العالم، وأن يتسم ذووه ذروة الحضارة، ولقد قام تاريخ هذا الإسلام وقامت حضارته فوق الساحة نفسها التي كانت لعقائد أخرى – بطبيعة الحال – فكان هذا مبعث أحقاد لدى أصحاب هذه العقائد.

وأخطاء تتصل بأسباب أخرى كثيرة لكنها – في معظمها – تلتقي عند نقطة (الصراع الحضاري) الذي يعني (تشويه) تاريخ هذه الأمَّة والانتقاص من قدر تجربتها في التاريخ ودورها في الحضارة ويعني – أيضاً – طمس (العوامل) التي جعلت هذه الأمَّة تثب هذه الوثبة العظمى في التاريخ... حتى أصبحت مكتبة الحاكم المستنصر بالله بن عبد الرحمن الناصر تضم أربعمائة ألف مجلد بينما كانت أكبر كنيسة في أوروبا – أو مكتبة عامة – لا يزيد ما تمتلكه من الكتب عن (192) كتاباً!!.

فكيف حدث هذا القفز الحضاري الهائل؟

وكيف استطاع جيل الصحابة رضي الله عنهم الذي نشأ في صحراء العرب الوثنية بصفة عامَّة أن يصنع هذا التحول الحضاري الخطير الذي لم يتكرر في التاريخ!!

لقد كانت أحداث المائة الأولى من عصور الإسلام من معجزات التاريخ والعمل الذي عمله أهل المائة الأولى من ماضينا السعيد لم تعمل مثله أمَّة الرومان ولا أمَّة اليونان قبلها ولا أمَّة من الأمم بعدها... أما جيل الصحابة الكرام – فإنهم جميعاً كانوا شموساً طلعت في سماء الإنسانية مرة ولا تطمع الإنسانية بأن تطلع في سمائها شموس من طرازهم مرة أخرى. [المصدر: العواصم من القواصم المقدمة بقلم العلامة محب الدين الخطيب.].

إن تلك المعجزة التي صنعها (القرآن) و (التربية المحمدية) لحريةٌ في نظر أعداء الإسلام، بحرب دائمة لمحو إشعاعاتها، ولصرف المسلمين عن التعلق بها والدوران في فلكها، وعن الاعتقاد بأن آخرهم لن يصلح إلا بما صلح به أولهم.

إن نماذج أبي بكر وعمر وعثمان وخالد والزبير وطلحة وأبيّ وعمرو بن العاص رضي الله عنهم يجب أن تفسر مواقفها تفسيراً يجعل وراء ظاهرها باطناً سيئاً يجردها من عنصر (الإخلاص) ويجب أن تكون فترة (السيرة) كلها بدءاً من صاحب الرسالة العظمى صلى الله عليه وسلم، هدفاً رئيسياً للشبهات والطعنات والتماس التبريرات المغلوطة لكل المواقف الاجتهادية.

وبعد الراشدين يأتي الأمويون الذين تلقفوا الراية، وساحوا بها في الأرض فاتجهوا غرباً حيث أتموا فتح المغرب (86هـ) الذي كان قد توقف بعد معركة ذات الصواري (35هـ) وفتحوا الأندلس (92هـ) واتجهوا شرقاً ففتحوا ما وراء النهر بقيادة المهلب بن أبي صفرة ومحمد بن القاسم الثقفي ومسلمة بن عبد الملك.

وكما لم تنج السيرة والعصر الراشدي من ترصد هؤلاء وكما لم ينج الأمويون من باب أولى، فقد نالت سهام هؤلاء من العباسيين وكانت السهام الموجهة إليهم أكثر...، لأن عمرهم قد امتد، وخلفائهم كانوا كثراً، وبالتالي فإمكانية التصيد والتشويه تمتد إلى أطول مساحة ممكنة!

وهكذا تتوالى الحلقات، بحيث يُراد لأمتنا أن تنتهي إلى الاقتناع بأن تاريخها وحضارتها لا يَستحقان منها كلَّ هذا الولاء، وبأن الانتماء إلى غيرهما لن يؤدي إلى خسارة كبيرة بل ربما يؤدي إلى بعض مكاسب (الحداثة) و (المعاصرة)!.

[وللمقالة تتمة، تبدأ بالحديث عن المنهج المنحرف في معالجة تاريخنا]

المصدر: مجلة المسلم المعاصر، رجب، شعبان و رمضان 1406 - العدد 47

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين