عقولنا تحت القصف (2)

 تحدثتُ فيما سبق عن توصيف الحالة التي يمر بها بعض الشباب من أبناء هذا الجيل، والملابسات التي أفرزت ذلك، أما الآن فسوف أتحدث عن واجبنا جميعًا تجاه هذا الجيل، دولةً وعلماءَ وطلابَ علم.

أولاً: دور العلماء في صيانة عقول الشباب:

مما يحزنني حزنًا شديدًا، أنه حينما يسعى بعض العلماء لتنبيه العلماء وطلاب العلم إلى وجود تلك الحالات، وما يترتب على انتشارها من خطر، في ظل غياب دورهم المهم في دفعه، يُواجَهون - للأسف - ببرود وتجاهل، وتكرار عبارة: نحن بلد التوحيد!

هذا صحيح، لكننا نتعاطى مع بشر، ومع شبابٍ ومراهقين، قد طمعت فيهم الجهات المشبوهة، والمنظمات الدولية، وربما بعض (الطوائف والفرق)، وغفل عنهم الرقيب، وغاب المثال الصالح، وتصارعت الأفكار أمامهم، وتساقطت الرموز، وقَصَفَتْ عقولَهم الأفكارُ الخارجية، مع لين العود، وحداثة السن، وقلة المحصول الشرعي، فماذا تنتظرون من هؤلاء؟

إن الأفكار عند هؤلاء الشباب الطريين تبدأ بشكل وساوس عابرة، ومع تجاهلنا لهم، بل وخوفهم منا، تزداد تلك الوساوس والإيرادات، لتصبح إرادات، ثم اعتقادات راسخة.

والحديث هنا ليس عن بعض الكتبة المفتونين، من أرباب الشهوات، وطالبي الشهرة، الذين يُلبِسون شهواتِهم ونزواتهم لباسَ الفكر والفلسفة، وإنما حديثي عن شبابٍ نابهين صادقين مع أنفسهم، غير أن الحيرة تحيط بهم، وتزعزع تصوراتهم، وغالبًا ما يتصفون بالذكاء والنباهة، والرغبة في اقتحام كل مجالٍ فكريٍّ يشرعُ أمامهم، فورود الإشكالات الفكرية والشبهات العقدية على أمثال هؤلاء أصبح أمرًا مألوفًا في هذا العصر، يتعرض له المؤمن المثقف، فضلاً عن الشاب الغر السطحي، وإن من أقل واجبات العالم حمايةَ هذا الجيل من مخاطر تلك الأفكار المسمومة.

قال شيخ الإسلام ابن تيميه: "وأما المؤمن المحض فيعرض له الوسواس، فتعرض له الشكوك والشبهات وهو يدفعها عن قلبه، فإن هذا لا بد منه".

وكيف يستطع هؤلاء الأغرار أن يدفعوا شبهات الإلحاد عن أنفسهم، وفاقد الشيء لا يُعطيه؟ وكيف لهم أن يدفعوها بواسطة العلماء وهم يُخوَّفون منهم، فيحال بينهم وبين الوصول إليهم؟!

لقد حدثني أحد الشباب - الذين تأثروا ببعض الشبهات - أنه ذهب إلى أحد العلماء الكبار؛ كي يدفع عنه آثار تلك الشبهات بالحجج العقلية والنقلية، فإذا به يُصدم بهذا العالم الجليل وهو يطرده من مجلسه، ويُهدده باستدعاء الشرطة!

لقد بيَّن ابن القيم - رحمه الله - أن الناس حينما تتخبطهم الشبهات والشكوك، وتحيط بهم الطوائف المتعددة والمختلفة، البعيدة عن الهدى، ويغيب العالم الرباني الذي يَهدي الناسَ إلى مسالك الأنوار، ولا يجدون من يُنقذهم منها، فإن عقولهم تضطرب بالشبهات، وتتأصل فيها، وخصوصًا الأذكياء.

يقول ابن القيم واصفًا واقعًا شبيهًا بما أتخوفه على شبابنا: "فعظُمت البلية، واشتدت المصيبة، وصار أذكياء العالم زنادقةَ الناس، وأقربهم إلى التدين والخلاص أهل البلادة والبله".

هذه الكلمات من ابن القيم تُعد أمرًا عظيمًا يستحق التوقف عنده كثيرًا ؛ من أجل رسم منهجية في التعامل مع العقليات الذكية والمتميزة، التي قد تنحرف بسبب الآراء الضالة - إرهابيةً كانت أم إلحادية - في ظل غياب الرموز والأعلام الهادية.

إن تقصير العلماء والدعاة اليوم كبيرٌ في دفع تلك الشبهات عن الشباب، وقد فقد كثير من الشباب ثقتَهم في بعض العلماء؛ لأن بعضهم يمثل بحد ذاته مشكلة في طريقة تعامله مع هؤلاء الشباب، وبعض آخر يمثل مشكلة أخرى أكبر بسبب الآثار المدمرة للصراع الداخلي الذي حصل ويحصل بينهم.

إن حاجة الناس في عصرنا الحاضر للعلماء وطلبة العلم، و المعالجة الناجعة لتلك المواضيع المتصلة بتلك الإشكالات الجديدة - حاجةٌ ملحة وضرورية، وهي معالجة يجب أن تتسم بالحكمة، واتباع النص، وموافقة العقل السليم، وإشباع رغبة النفس باليقين والاطمئنان.

ومما نحمد الله عليه، أن دِيننا متينٌ، وأنه لا تعارض بينه وبين العقل أو العلم السليمين، بل ثبت أن ما يأتيان به إنما هو في حكم التابع للدين، الجاري مجراه؛ وإنما الخلل ينبع من أفكارٍ وافدةٍ نشأتْ في بيئة يشيع فيها الإلحاد، فتغلغلت في عقول هشة، فوجب على العلماء وحراس العقيدة أن يبينوه للناس.

قال ابن تيمية: "ما عُلم بصريح العقل لا يتصور أن يعارضه الشرع البتة؛ بل المنقول الصحيح لا يعارضه معقول صريح قط. وقد تأملتُ ذلك في عامة ما تَنازع الناسُ فيه، فوجدت ما خالف النصوصَ الصحيحة الصريحة شبهاتٍ فاسدةً يُعلَم بالعقل بطلانها؛ بل يعلم بالعقل ثبوت نقيضها الموافق للشرع".

وقال: "والقول كلما كان أفسد في الشرع، كان أفسد في العقل، فإن الحق لا يتناقض".

يأيها العلماء الكرام، إن القنوات الفضائية المخالفة، والمواقع المعادية عقديًّا تشن حربًا لا هوادة فيها على الدين، وتواصل بثها للشبهات حول آيات القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة الصحيحة، وحول التفاسير، وتنشر ما علق بالتراث من الغث والضعيف، والموضوع والخرافي، زاعمةً أن هذا هو ديننا، وموردةً الشبهاتِ بوسائل حديثة، وتقنيات خطيرة.

والشباب كما هو معلوم، وهم الأكثرية الغالبة في مجتمعنا اليوم، وهم في الوقت نفسه الشريحة التي تدمن مطالعة الإنترنت (تشير الدراسات أن 90 % من متصفحي الإنترنت من الشباب) ومشاهدة القنوات - صاروا بهذا ضحية للشبهات السياسية والدينية. ولاشك أن اهتزاز هذين الأمرين في الشريحة الشبابية، يعني تغيرات جذرية في الخارطة الفكرية بشقيها السياسي والديني لا قدر الله.

هذا هو الواقع، وهذه هي ضريبة التقنية، التي لا يمكن مواجهتها بالمنع، أو سياسة التكتم، أو وضع الرأس في التراب. لا بد من مواجهة الفكر بمثله؛ لمقاومته وصده، ولا بد من الاستفادة من التقنية؛ لكبح شر الجانب السلبي فيها أو تخفيفه.

إن سياسة التكتم أو المنع أو الحجب قلَّت فاعليتُها، وضعفت جدواها، وعُزلة العلماء وصدودهم لم يعد أمرًا مقبولاً، وتنازعهم فيما بينهم أصبح اليوم أكثر قبحًا ودمامة. لقد أخذ الله على العلماء العهد والميثاق بالبيان والتوضيح للناس، توضيح أمر الدين الصحيح، والذب عنه وحراسته، ولا بد لهم من مواكبة الأحداث ومتابعة المستحدثات من الشبهات والرد عليها.

ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية، حينما قام أحد الحائرين - من أمثال بعض شبابنا - بإرسال مجموعة من الأبيات الشعرية، يشكك بها في القدر، إلى مجلس شيخ الإسلام ابن تيمية، ومنها قوله:

إِذَا مَا قَضَى رَبِّي بِكُفْرِي بِزَعْمِكُمْ --- وَلَمْ يَرْضَهُ مِنِّي فَمَا وَجْهُ حِيلَتِي

دَعَانِي وَسَدَّ البَابَ عَنِّي فَهَلْ إِلَى --- دُخُولِي سَبِيلٌ بَيِّنُوا لِي قَضِيَّتِي

قَضَى بِضَلاَلِي ثُمَّ قَالَ ارْضَ بِالقَضَا --- فَمَا أَنَا رَاضٍ بِالَّذِي فِيهِ شِقْوَتِي

فَهَلْ لِي رِضَا مَا لَيْسَ يَرْضَاهُ سَيِّدِي --- فَقَدْ حِرْتُ دُلُّونِي عَلَى كَشْفِ حَيْرَتِي

فما كان من شيخ الإسلام إلا أن نظم في ذلك المجلس قصيدةً يرد فيها بإحكامٍ على قصيدته، وهي قصيدة طويلة فصَّل فيها الشيخ الردَّ، وأبان الأمر، ومنها:

سُؤَالُكَ يَا هَذَا سُؤَالُ مُعَانِدٍ --- مُخَاصِمِ رَبِّ العَرْشِ بَارِي البَرِيَّةِ

وَهَذَا سُؤَالٌ خَاصَمَ المَلأَ العُلاَ --- قَدِيمًا بِهِ إبْلِيسُ أَصْلُ البَلِيَّةِ

وَمَنْ يَكُ خَصْمًا لِلْمُهَيْمِنِ يَرْجِعَنْ --- عَلَى أُمِّ رَأْسٍ هَاوِيًا فِي الحَفِيرَةِ

وَأَصْلُ ضَلاَلِ الخَلْقِ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ --- هُوَ الخَوْضُ فِي فِعْلِ الإِلَهِ بِعِلَّةِ

فَقَوْلُكَ لِمَ قَدْ شَاءَ مِثْلُ سُؤَالِ مَنْ --- يَقُولُ فَلِمَ قَدْ كَانَ فِي الأَزَلِيَّةِ

وَذَاكَ سُؤَالٌ يُبْطِلُ الْعَقْلُ وَجْهَهُ --- وَتَحْرِيمُهُ قَدْ جَاءَ فِي كُلِّ شِرْعَةِ

وبغض النظر عن فاعلية الجواب من عدمه، إلا أن موجب الإيراد لهذا المثال هو تبيان سرعة استجابة العالم الرباني لمقتضيات الحال، أفلا يجب علينا أن نتحلى بمثل تلك المبادرة السريعة، والاستجابة الفورية للمستجدات الحديثة، كما كان يتحلى بها العلماء الكبار؛ أمثال ابن تيمية وغيره؟

ثانيًا: دور الدولة في حراسة العقيدة:

دور الدولة مهم جدًّا في صيانة الفكر، وحراسة العقيدة، ورعاية الملة، ومراقبة الأفكار الوافدة، وأي دولة مهما كانت - ومنها الدول الغربية المتقدمة - فإنها تقوم على أسسٍ فكرية وعقائدية، قبل أن تقوم على أسسٍ سياسية، والفكر والعقيدة هي البنية التحتية، والقواعد الأساسية للاستقرار والثبات، ولا تخلو دولة من قيمٍ فكريةٍ ترعاها وتحرسها، وتُقاس قوتها بقوة تلك الأرضية الفكرية.

ومتى ما اختُرق النطاق الفكري لأي دولة، أو زُعزع أمنُها الفكري، أو فكِّكت منظوماتها القيمية، فإنها تفقد (قوتها الناعمة)، التي هي في الحقيقة مبدأ تماسكها وترابطها.

وضع وزير الدفاع الأمريكي "رامسفيلد" قواعدَ مهمةً في السياسة والقوة، ومن أهم تلك القواعد قوله: "إن الضعف يحرض عليك الآخرين".

وإن أخطر أنواع الضعف هو الضعف العقدي والفكري، والذي سوف يُحرض جميع أشكال وأنواع الأفكار الأخرى المعادية لك، لاختراق نطاقك الفكري ومنظومتك الأمنية، لتفقد المنظومة تماسكها وجوهريتها، وجاذبيتها وقوتها.

إن الأحداث الإرهابية التي حدثت في السعودية سُبِقت باختراقٍ فكريٍ خارجي وافد (ليس المجال لإيراد الأدلة والوقائع حوله)، وسهَّل تلك المهمةَ وجودُ التقنيات الحديثة، وتم تجنيد مئات الشباب في هذا المسلك الإرهابي، عن طريق إقناعهم بواسطة الفكر أو (القوة الناعمة للتكفيريين)، لقد أثاروا القتل والدمار أينما حلُّوا، وكانت بدايتهم مجرد فكرة!

وإن المواجهة الفكرية اليوم مواجهة الأفكار الإلحادية، التي لا تقل خطرًا عن مواجهة الإرهاب والأفكار التي تقف خلفه؛ لأن هذه المواجهة تُهدد ديننا وأمننا الفكري ووطننا؛ لأنها في حقيقتها انقلاب فكري له تبعاته المتشعبة سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا... إلخ.

لقد ذكر "جوزيف ناي" - مدير مجلس المخابرات الوطني الأمريكي، ومؤلف كتاب "القوة الناعمة" - أن جدار برلين كان قد تم اختراقه بالتلفاز والأفلام السينمائية، قبل زمن طويل من سقوطه في عام 1989م؛ لأن مطارق الثقافة اخترقته قبل أن يسقط!

وهذه حقيقة واقعية، يشهد لها أنني شخصيًّا قد قُدرَ لي أن أكون حاضرًا في إحدى المحاضرات خارج بلدي، وكان المحاضِر يتحدث عن التأثير الفكري للقيم والأخلاق، ومما قاله: "إننا الآن نُركز على السعودية لاختراق مجالها الفكري، ولم يَعد الأمر صعبًا؛ لأن التقنية تخدمنا في ذلك، ويمكننا أن نصل لعقول الشباب هناك بسهولة"!

ولعل المراقب للمشهد السعودي المحلي يلحظ المتابعة الدقيقة، والاهتمام المتزايد للغرب بالخارطة الفكرية السعودية، وإجراءهم العديد من استطلاعات الرأي العام حول مختلف القضايا الفكرية في المملكة.

إن واجب الدولة تجاه هذا الأمر مُهم جدًّا، فإن ((الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن))، وإن الحصانة الفكرية، بتمحيص الأفكار، وصيانةِ عقول الشباب، وفتحِ الحوار معهم - واجبٌ شرعي وعقلي، يُحتمه الشرع والواقع، وإن ترك تلك الأفكار الدخيلة والعقائد الفاسدة تسرح وتمرح في عقول الشباب، لَمهدِّدٌ بضمور القوة الناعمة التي تمتلكها الدولة، والتي تمثل شرعيتها الدينية والسياسية، فإذا فسد الشباب فمن للوطن؟!

إن من أهم واجبات ولي الأمر - وفقه الله - محاسبةَ القنوات الفضائية التي تبث ما يُفسد العقائدَ، ويفكك المنظومة الفكرية، ويُخل بالأمن الفكري، أو على الأقل منعها من ممارسة نشاطها داخل الحدود وباسم الوطن والوطنية، وكذلك محاسبة الصحف والمجلات والمطبوعات والمواقع التي تنشر الإلحاد، أو تحارب الدين، أو تستخف بقيم مجتمع أرضِ الرسالةِ والوحي ودولة التوحيد؛ بل لا بدَّ أن يكون للصحافة الوطنية دورها القوي والحاضر في صد تلك الانحرافات الفكرية الوافدة، لا أن تكون قناةً للترويج لها، وكم أتمنى أن تضع الدول الإسلامية الأنظمة واللوائح الصارمة لمحاسبة المحرضين على العقيدة والدين، كما هو الحال بالنسبة للأمور السياسية.

لقد نشر موقع (BBC) على الشبكة قبل أربع سنوات دراسة حول "تأثير الإنترنت على المجتمع"، ومما جاء في هذه الدراسة؛ ما يلي: "تعتزم جامعة أكسفوردالبريطانية افتتاح معهد مكرس كليًّا لدراسة تأثير الإنترنت على المجتمع، ومن المؤمل أن تكون بريطانيا بفضل المعهد في مقدمة الدول التي تبحث في تأثيرات الإنترنت على المجتمع ككل. وتقول جامعة أكسفورد: إن المعهد سيكون أول مركز أبحاث متعدد التخصصات والتوجهات في العالم، وأنه سيجري أبحاثًا، ويقدم توصيات واستشارات حول السياسات الحكومية في المجالات التي يتوصل فيها إلى نتائج يمكن الاعتماد عليها".

إنه مما يؤسف له أن تهتم بعض الدول بمثل هذا الأمر، وترصد له الأموال الطائلة، ويغفل بعضنا عنه - لعلمي بوجود بعض الدراسات المحدودة التي لم يتم تفعيل نتائجها - فبلدنا اليوم يتعرض لهجمة شرسة من قِبل جهات مشبوهة، عَبر وسائل الاتصال الحديثة - وخصوصًا الإنترنت - وهذه الهجمة هي محاولة للسيطرة على المنظومات الفكرية، وعلى عقول وقلوب الناس، وإن الهزيمة السياسية والاقتصادية والثقافية - بل والعسكرية - يسبقها عادةً هزيمةٌ فكرية في العقول.

لقد حكى قديمًا "الصلاح الصفدي" أن الخليفة العباسي المأمون لما هادن ملك قبرص، كتب يطلب منه خزانة كتب اليونان الفلسفية، وكانت عندهم مجموعة في بيت لا يظهر عليه أحد، فجمع الملك القبرصي خواصَّه من ذوي الرأي، واستشارهم في ذلك، فكلهم أشار عليه بعدم تجهيزها إليه، إلا أن أحد رجاله الحذاق خالفهم جميعًا، وقال: جهزها إليهم، فما دخلت هذه العلوم على دولة شرعية إلا أفسدتها، وأوقعت بين علمائها. فتأمل كيف كان أثر ذلك على واقع الخريطة الفكرية في ذلك الزمان!

إن هذه القصة تدل أن الحرب الفكرية قديمة، وليست بالجديدة، وإن إفساد الوطن يبدأ بإفساد الشباب فكريًّا.

قال العلامة ابن خلدون: "إن كتب أولئك المتقدمين - الفلسفة - لما ترجمها الخلفاء من بني العباس من اللسان اليوناني إلى اللسان العربي، تصفَّحها كثير من أهل الملة، وأخذ من مذهبهم مَن أضله الله من منـتحلي العلوم"، وقال: "وهذه العلوم عارضة في العمران، كثيرة في المدن، وضررها في الدين كثير، فوجب أن يصدع بشأنها، ويكشف عن المعتقد الحق فيها".

وهذه المخاطر القديمة ليست حكرًا على الماضي البعيد؛ بل هي مخاطر متجددة وحديثة، والدول العظمى تسلك نفس السياسات القديمة، سياسة فرض القوة الناعمة(الفكر والقيم)، ولم تتغير أهمية الفكر وخطورته، فالفكر يبقى هو القوة الحقيقية لأي أمة، واختراقه من الداخل اختراق للأمة والدولة.

يذكر "جوزيف ناي" صاحب كتاب "القوة الناعمة": "إن قوتنا الناعمة قُيض لها أن تساعد على تحويل الكتلة السوفييتية من الداخل".

ويشرح هذا الكلام باستفاضة، فيقول: "برغم أن الاتحاد السوفييتي قد فرض قيودًا ورقابة على الأفلام الغربية، فإن الأفلام التي نفذت عبر مصفاة القيود والرقابة، كانت مع ذلك قادرة على أن تُحدِث آثارًا سياسية مدمرة، وكانت بعض الآثار السياسية مباشرة أحيانًا، ولو غير مقصودة".

ثم يفسر ويعرف "جوزيف ناي" القوة الناعمة: بأنها الجاذبية التي تنشأ عن قيم وأخلاق وثقافة بلد ما. أي بمعنى آخر أن مدى هذه القوة الناعمة (الفكر) تقاس بمدى جاذبيتها، وإمكانية اختراقها للآخر، وتأثيرها في قيمه وثقافته.

ويؤيده السناتور الأمريكي "تشاك هاغل" بقوله: "تعتمد القيادة الأمريكية على قدرتنا على الإقناع والاجتذاب، إن قوة أمريكا الناعمة؛ أي قوة ثقافتنا وقيمنا وجاذبيتنا، يجب أن تنعكس بوضوح في سياستنا الخارجية ودبلوماسيتنا"، فما بال القارئ إذا اجتمع غزو عسكري معزز بغزو فكري للمنطقة؟!

ويؤكد السناتور الأمريكي "تشاك هاغل" على أهمية "القوة الناعمة"، فيقول: "لا يمكن تبديد القوة الناعمة، و إلا فقدْ نفقدُ الجيل القادم".

نعم، هذا صحيح، لا يمكن لأي دولة حكيمة وعاقلة أن تبدد وتفرط في جاذبيتها العقدية، وقوتها الفكرية، إلا إذا أرادت أن تفقد جيلها القادم.

وإن حال الواقع - الموصوف بالانفتاح الثقافي غير المحدود - دون قدرة ولاة الأمر - وفقهم الله - على الضبط التام لتلك القنوات والمواقع الآثمة، التي تنشر الإلحاد، وتزين الكفر، وتثير الشبهات العقائدية والسياسية، فحينها لا أقل من وجود القنوات المتخصصة التي تدافع عن العقيدة، وكل ما يدخل ضمنها من سياسي وديني، وتبينها بأسلوب حديث وعصري، وهذا - والله - من أهم الواجبات في هذا العصر على أهل القدرة وصناع القرار، فإنه عصر تلاطمت فيه الفتن، وفُتن الشباب بالشبهات الإلحادية وتبعاتها الدينية والسياسية، وكثرت القنوات المفسدة، ولم يوجد حتى الآن البديل المتخصص القادر بتقنية ومهنية على حماية الهوية الثقافية، ومواكبة روح العصر، وإذا وجد - وهو ممكن - فهل يتفضل أصحاب القرار بتبنِّيه وتفعيله؟

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين