فتحُ العُقول

لقد كرَّم اللهُ الإنسانَ بنعمة العقل، وميَّزه عن سائر مخلوقاته بصناعة الأفكار ومرتبة الاختيار، ويكفينا أن نعلم أنَّ كلمة (العقل) بجميع اشتقاقاتها (يعقلون، تعقلون، عقلوه، يعقلها، نعقل) قد ذُكِرَت في القرءان الكريم (49) مرَّةً، ناهيك عن مئات الآيات التي تحضُّ على التَّفكير وتثني على أصحابه.

فلماذا كلُّ هذا التَّواتر في الذِّكر وهذه الكثافة في الطَّرح يا تُرى؟

والعربُ تقولُ: عَقَلَ الفتى إذا أدرك وفهم، ولا أنسى تلك الكلمةَ التي قالها لي أحد أساتذتي يوماً وقد سألته عن فلانٍ: كيف علمُه؟ فقال: يا بُني، لا تسأل: كيف علمُه؟ ولكن قل: كيف عقلُه؟.

وقد رُوي أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لخالد بن الوليد - رضي الله عنه - عندما أقبل مسلماً: "الحمدُ لله الذي هداك، لقد كنتُ أرى لك عقلاً رجوتُ أن لا يُسلمك إلَّا إلى الخير".

إنَّ الأممَ تختلفُ في نظرتها إلى ميزان القوَّة، فبعضها يرى القوَّة في التَّوسُّع وامتلاك الأرض فيبحث عن فتح الحصون، وبعضها يرى القوَّة في الاقتصاد وجمع المال فيبحث عن فتح البنوك، وبعضها يرى القوَّة في صناعة الإنسان فيبحث عن فتح العقول.

وأستطيعُ أن أقول دون تردُّدٍ: إنَّ الفتح الإسلاميَّ كان فتحاً للعقول قبل أن يكون فتحاً للحصون، وإنَّ الإسلام هو الدِّين الوحيد الذي قدَّم قراءةً متكاملةً لصفحة: (الوحي) عن طريق منهجٍ قويمٍ وتشريع حكيمٍ، وصفحة: (الكون) عن طريق تعميق النَّظر للوصول إلى الخالق، وبذل الجهد لفهم قانون التَّسخير.

يقول د. عماد الدِّين خليل: "إنَّ هذه الأمَّة وقد تكالبت عليها الأمم، وتداعت عليها الكوارث أحوج ما تكون اليوم إلى القراءتين - الوحي والكون - لتستأنف مسيرتها، وليَصْلُحَ آخرها بما صلح به أوَّلها، ولن تستطيع ذلك ما لم تُعِد تشكيل عقلها، وبناء عالم أفكارها، وترميم نسقها الثَّقافي ...".

إنَّ أصعب مرضٍ يصيبُ الإنسان هو مرض: (إغلاق العقل وانسداد أوعية التَّفكير)، وبوسعي أن أذكر من أعراض هذا المرض على سبيل المثال لا الحصر: الجهل والتَّعصُّب ورفض الآخر ومقاومة التَّغيير ومحاربة المصلحين ووو.

لقد لفت انتباهي وأنا أدرسُ التَّجرِبة التُّركيَّة مشروع ترقيم التَّعليم الذي أطلقته الحكومة التُّركيَّة (8/2/2012) ليطبَّقَ على جميع المدارس الحكوميَّة بتكلفةٍ تصل إلى (7 مليار دولار) وكان شعاره: "لنفتح الغد من اليوم"، وكخطواتٍ عمليَّةٍ تمَّ توزيع (260000) شاشة ذكيَّة (Smart board)على فصول المدارس، و (15) مليون جهاز (آيباد) على الطُّلَّاب و(مليون) على المعلِّمين.

وكان من اللفتات الجميلة في هذا المشروع: تسميته بمشروع: (الفاتح) تيمُّناً بشخصيَّة القائد محمَّد الفاتح، وإشارةً إلى فتح العقول بالعلم.

وأعتقدُ أنَّ تركيَّا تسير على الطَّريق الصَّحيح ولكنَّها البداية...

وعندما أراد الإمامُ المجاهدُ الجزائريُّ: عبد الحميد بن باديس أن يُنقِذَ الجزائر من الاحتلال الفرنسي يمَّمَ وجهه شطر التَّربية والتَّعليم، وكان من أهمِّ أعماله:

- الدُّروس المكثَّفة في علوم الدِّين وفنون الدُّنيا، حتَّى كان يدرِّسُ طلَّابه في (قُسنطينة) وغيرها في اليوم الواحد خمسة عشر درساً.

- أنشأ جمعيَّة: (العلماء المسلمين) لتكوين العلماء ورعاية طلبة العلم، وكان من أبرز أعمالها افتتاح (400) مدرسةٍ تدرِّس باللغة العربيَّة شتَّى أنواع العلوم.

لقد أدرك ابن باديس أنَّ ما فعلته فرنسا بالشَّعب الجزائريِّ من تجهيلٍ وفرنسةٍ لا يمكن أن يُرفع إلا بسياسة: (فتح العقول) والنُّقَّاد مجمعون على أنَّ وقود الثَّورة الجزائريَّة كان من تلامذة عبد الحميد بن باديس وممَّن تخرَّجوا من مدارسه وتأثَّروا بفكره وهمَّته.

إنَّها دعوةٌ حارَّةٌ إلى جميع شبابنا وفتياتنا: افتحوا عقولكم لكي تستطيعوا فتح عقول الآخرين، واطلبوا العلم بلا مللٍ ولا كللٍ، وكلَّما وصلتم إلى مرحلةٍ علميَّةٍ تطلَّعوا إلى ما فوقها، وادرسوا علوم الدِّين والدُّنيا فكلاهما مع الإخلاص عبادة، وتعمَّقوا في علم السُّنن والمقاصد، وحركة الكون والحياة، وفقه الواقع وقوانين الاجتماع.

جاء عتبةُ بن ربيعة إلى النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلم - فتكلَّم طويلاً والنَّبيُّ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - يسمع، ثمَّ قال له: "أقد فرغت يا أبا الوليد"؟ قال: نعم، قال: "فاسمع منِّي".

لقد كان عتبةُ كافراً معانداً ومع ذلك عامله النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلم - بمنهج: فتح العقول. إنَّ كلمة (اسمع منِّي) ينبغي أن يتَّخذها المسلمون منهجاً في دعوتهم وعرض دينهم ومبادئهم، وما أكثرَ (أبا الوليد) في زماننا!!.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين