الْمُلْكُ عَارِيَةٌ مُسْتَرَدَّةٌ

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: الآية/ 26

تأمل قوله تعالى: {تُؤْتِي الْمُلْكَ}، و {وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ}. لتعلم أن الأمر كله بيد الله تعالى، الإيتاء والنزع، العطاء والمنع، فمهما كان الإنسان حريصًا على الخمول، بعيدًا عن أسباب الملك ساقه الله إليه سوقًا، وهيئ له أسبابه، خاف عمر بن عبد العزيز رحمه الله من الخلافة، وتوارى عنها فقادها الله إليه.

حتى هذا الذي سفك الدماء وأزهق الأرواح، وأتى على الجماجم والأشلاء، الله هو آتاه الملك، فلا يقع شيء في ملك الله إلا بإذنه وتقديره. 

ولا تلازم أبدًا بين تمكين الله تعالى له، ومحبته إياه أو صلاحه، فقد يمكن الله تعالى لكفارٍ أثيمٍ، أو فاجرٍ لئيمٍ؛ أليس الذي قال أنا ربكم الأعلى قد آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ؟

أليس الذي قَالَ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ. قد آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ؟

قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ}. سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الآية/ 258 

أما قول القائل كيف آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ على كفره وفجوره؟

فاللَّهُ تَعَالَى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}. سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ: الآية/ 23

وَاللَّهُ تَعَالَى فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ}. سُورَةُ الرَّعْدُ: الآية/ 41

وَتأمل قوله تعالى: {وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ}، لتعلمَ أنَّ الْمُلْكَ عَارِيَةٌ مُسْتَرَدَّةٌ، مهما كان العبدُ حريصًا عليه. 

وكم ممن انتزع منه الملك انتزاعًا، فقاسى من مرارة انتزاعه أضعاف ما ذاقه من حلاوة بقائه، وعانى من ألآم فقده أشد مما يعانيه الرضيع عند الفطام.

فاحذر يا عبد الله أن تغبطَ أحدًا على ملكٍ آتاه اللهُ إياه؛ واحمد الله على العافية. 

فإنه مِحْنَةٌ في صُورةِ مِنْحَةٍ، وبليةٌ في صُورةِ عطيةٍ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الْإِمَارَةِ وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَنِعْمَ الْمُرْضِعَةُ وَبِئْسَتِ الْفَاطِمَةُ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

وما أكثر أولئك الذين تغرهم المظاهر الخداعة، وتغريهم المناظر الخلابة، ويخدعهم البريق الزائف، فلا يرون في الملك إلا تحصيل الملذات، ومعاقرة الشهوات، فيود أحدهم لو ينال الملكَ ولو بقسطٍ من عمره، ولو بذلَ في سبيلِهِ دينَهُ، لسانُ حالِهِ: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}. سُورَةُ القَصَصِ: الآية/ 79 

وصدق القائل: 

ذَلَّ مَنْ يَغْبِطُ الذَّلِيْلَ بِعَيشٍ ... رُبَّ عَيْشٍ أخَفُّ مِنْهُ الحِمَامُ

ولو تكلم مَلِكٌ عند احتضاره بما في نفسه لقال مخاطبًا مُلْكَهُ: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ}. سُورَةُ الزُّخْرُفِ: الآية/ 38 

لما حَضَرَتِ الْمُعْتَضِدَ الْوَفَاةُ أَنْشَدَ لِنَفْسِهِ:

وَلَا تَأْمَنَنَّ الدَّهْرَ إِنِّي أَمِنْتُهُ فَلَمْ*****يُبْقِ لِي حَالًا وَلَا يَرْعَ لِي حَقَّا

قَتَلْتُ صَنَادِيدَ الرِّجَالِ وَلَمْ أَدَعْ*****عَدُوًّا وَلَمْ أُمْهِلْ عَلَى طَغْيِهِ خَلْقَا

وَأَخْلَيْتُ دَارَ الْمُلْكِ مِنْ كُلِّ نَازِعٍ*****فَشَرَّدْتُهُمْ غَرْبًا وَمَزَّقْتُهُمْ شَرْقَا

فَلَمَّا بَلَغْتُ النَّجْمَ عِزًّا وَرِفْعَةً*****وَصَارَتْ رِقَابُ الْخَلْقِ أَجْمَعَ لِي رِقَّا

رَمَانِي الرَّدَى سَهْمًا فَأَخْمَدَ جَمْرَتِي*****فَهَا أَنَا ذَا فِي حُفْرَتِي عَاجِلًا أُلْقَى

وَلَمْ يُغْنِ عَنِّي مَا جَمَعْتُ وَلَمْ أَجِدْ*****لِذِي الْمُلْكِ وَالْأَحْيَاءِ فِي حُسْنِهَا رِفْقَا

فَأَذْهَبْتُ دُنْيَايَ وَدِينِي سَفَاهَةً***** فَمَنْ ذَا الَّذِي مِنِّى بِمَصْرَعِهِ أشْقَى؟

ثُمَّ جَعَلَ يُكَرِّرُ هَذِهِ الْآيَةَ {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ}. [الحاقة: 28] إِلَى أَنْ مَاتَ. البداية والنهاية (15/ 414)

{إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ}. سُورَةُ سَبَأٍ: الآية/ 37

اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، اللهم ول أمورنا خيارنا ولا تول أمورنا شرارنا.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين