زراعةُ السُّرور

تتوقُ هممُ كثيرٍ من النَّاس إلى وصل حبالهم مع خالقهم فيسألون: ما هي أحبُّ الأعمالِ إلى الله تعالى بعد أداء الفرائض حتَّى نلتزمَ بها ونعضَّ عليها بنواجذ الجدِّ والمداومة؟

ونشيرُ في البداية إلى أنَّ الجواب عن هذا السُّؤال يتغيَّرُ بتغيُّر الزَّمان والمكان وظروفهما، ذلك أنَّ العلماء يعدُّون في سياق تأصيلهم وتحليلهم لمفهوم (الواجب) نوعاً منه يُسمُّونه: (واجبَ الوقت)، ويقولون: إنَّ هذا النَّوع من الواجب يُقرَّرُ ويُحدَّدُ على حسب حاجات النَّاس ومتطلَّباتهم في كلِّ وقتٍ من الأوقات، وعلى سبيل المثال: من وُجد في زمانٍ ومكانٍ يعاني فيهما النَّاس من الجهل والتَّخلُّف فواجبُ الوقت: تعليمُ النَّاس، ومن وُجد في زمانٍ ومكانٍ يعاني فيهما النَّاس من الجوع فواجبُ الوقت: إطعامُ الطَّعام، وهكذا.

نعم من حقِّكم أن تقولوا: لقد أطفأتَ لهيبَ سؤالٍ وأشعلتَ لهيبَ أخيه فما هو واجب الوقت في أيَّامنا؟

في الحقيقة قد تختلفُ آراؤنا في تفاصيل الجواب لكنَّها ستتَّفقُ دون شكٍّ في أنَّ النَّاس قد أرَّقتهم الهموم، وأرخت المصائبُ على أيَّامهم سدولَ سطوتها وشدَّتها، فهذا بيتٌ فقد أهله، وهؤلاء أهلٌ فقدوا بيتهم، حُزْنٌ وحَزْن ... فرقةٌ وحُرقة ... فاقةٌ وإعاقة ... نصَبٌ ووصَب ... نزوحٌ وجروح ... يأسٌ وبأس.

هل تريدون الاختصار حتَّى لا أزيد الألمَ ألماً: إنَّ واجب الوقت في زماننا ومكاننا هو: (زراعةُ السُّرور).

نعم زراعة السُّرور، ومخطئٌ من يظنُّه واجباً سهلاً أو رخيصاً، فإنَّه - والله - أمرٌ لا تتقنه إلَّا النُّفوس العظيمة الطَّاهرة.

وبوسعي أن أدَّعي دون مبالغةٍ بأنَّ عظمة الأنبياء والمصلحين أتت من كونهم أتقنوا فنَّ زراعة السُّرور.

يقول نبيُّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "إنَّ أحبَّ الأعمال إلى الله تعالى بعد الفرائض: إدخالُ السُّرور على المسلم، كسوتَ عورته، أو أشبعتَ جوعته، أو قضيتَ حاجته" (الطَّبراني).

قرأتُ في سيرة أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - أنَّ صاحباً له كان يدعوه في كلٍّ يومٍ إلى بُستانه فيطعمه من عنبِ هذا البستان فيأكلُ ويشكرُ ويخرجُ، وفي يومٍ من الأيَّام وُضع العنبُ لكنَّ صاحب البستان تذوَّق لأوَّل مرَّةٍ حبَّةً من العنقود فوجدها حامضةً!! ما القصَّة؟؟ لقد كان أبو ذرٍّ يصبرُ على حموضة العنب ويكتمُ عيبه طوال هذه الفترة ولا يصرِّح لصاحبه بشيءٍ من ذلك، وعندما سأله صاحبُ البستان عن سبب كتمانه للأمر؟ قال: لقد رأيتكَ فرحاً بإطعامي فلم أشأ أن أمنعَ عنك سروراً دخل قلبك.

لقد أطفأ الصَّحابيُّ السِّراجَ حتَّى يأكل ضيفُه دون إحراج فنزل قرءانٌ كريمٌ في الثَّناء على موقفه، وقطع ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه - اعتكافه ليقضي حاجة مدينٍ معسر. 

وقد كان الواحد من السَّلف يتفقَّدُ عيال أخيه أربعين عاماً، وكان العيالُ يرون من صاحب أبيهم ما لم يروه من أبيهم في حياته، حتَّى كأنَّهم لم يفقدوا من أبيهم إلَّا عينه.

وسُئل الإمام مالك: أيُّ الأعمال تحبُّ؟ فقال: "إدخالُ السُّرور على المسلمين، وقد نذرتُ نفسي لتفريج كربات المسلمين".

والآن تأمَّلوا معي: سفينةٌ تُخرق، وغلامٌ يُقتل، وجدارٌ يُبنى!!! 

لماذا كلُّ هذا؟ ولماذا يؤمر موسى - عليه السَّلام - بالسَّفر ليتعلَّم هذه المسائل؟ ولماذا في سورة الكهف بالتَّحديد؟ ولماذا يُسنُّ لنا قراءتها في كلِّ أسبوعٍ مرَّة؟ أسئلةٌ هامَّة!!!

إنَّ هذه المسائل الثَّلاث - وأرجو ألَّا أكون مبالغاً - تؤصِّلُ بوضوحٍ لعبادة إدخال السُّرور:

الأولى: على مساكينَ كادحين، والثَّانية: على أبوين مؤمنين، والثَّالثة: على غلامين يتيمين.

وكأنَّها رسالةٌ من النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (اقرؤوا هذه السُّورةَ في كلِّ جمعةٍ حتَّى لا تغفلوا عن هذه العبادة ولا تفرِّطوا بها).

- هل نريدُ أنفعَ طريقٍ في الدَّعوة إلى الله؟

نطعم جائعاً ... نعلِّم جاهلاً ... نزرع أملاً ... نرفع ظلماً ... ننفِّس كرباً ... نجبر كسراً ... نقضِ ديناً ... نمسح رأساً ... نطيِّب خاطراً ... نرشد حائراً.

- هل نريدُ أقصرَ طريقٍ للوصول إلى سعادة الدُّنيا؟

اسألوا من وقف حياته على البذل والعطاء: هل هناك في كلِّ متاع الدُّنيا نعمةٌ أو فرحةٌ تعادل صورة الابتسامة وقد ارتسمت خطوطُها على وجه محتاجٍ أو مظلومٍ أو مدينٍ أو يتيمٍ أو مشرَّدٍ أو مكروب؟

إنَّها لوحةٌ فنِّيَّةٌ من أعظم اللوحات التي رسمتها أنامل العلاقات البشريَّة الرَّاقية، وقد سئل أحدهم مرَّةً: من أسعدُ النَّاس؟ فقال: من أسعدَ النَّاس.

قلتُ مرَّةً لطلَّابي: أعطيكم ما تطلبون بشرط أن تصفوا لي شعور موسى عليه السَّلام وقد سقى للفتاتين ثمَّ تولَّى إلى الظِّلِّ فقال: (ربِّ إنِّي لما أنزلت إليَّ من خيرٍ فقير) (القصص: 24).

لقد زرع موسى عليه السَّلام الابتسامة على وجه امرأتين فنال السَّكن والسَّكينة والزَّواج والوظيفة والثَّروة.

وصدق من قال: "جلَّ ربُّنا أن يعامله العبدُ نقداً فيجزيه نسيئةً".

- هل نريدُ أقصرَ طريقٍ للوصول إلى سعادة الآخرة؟

تأمَّلوا هذه الآية: (فوقاهمُ اللهُ شرَّ ذلك اليوم ولقَّاهم نضرةً وسروراً) (الإنسان: 11).

ماذا فعل هؤلاء حتَّى كافأهم الله بسرور الآخرة؟ نرجع إلى الخلف آياتٍ لنرى: (ويُطعمونَ الطَّعامَ على حبِّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً - إنَّما نطعمكم لوجه الله لا نريدُ منكم جزاءً ولا شكوراً - إنَّا نخاف من ربِّنا يوماً عبوساً قمطريراً - فوقاهمُ اللهُ شرَّ ذلك اليوم ولقَّاهم نضرةً وسروراً). (الإنسان: 8 إلى 11).

أيَّها المسلم المـــُصلح: لقد مسخ الله قلوب أقوامٍ حتَّى صارت وظيفتهم رسمَ الحزن والأسى على وجوه الضُّعفاء والأبرياء، واصطفاك الله تعالى لتمسح الألم والحزن وترسم محلَّهما البسمةَ والسُّرورَ فهنيئاً لك المهمَّة، وطوبى لك وحسن مئاب.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين