الاستدلال الخاطئ بحديث علي رضي الله عنه:(لا يحبني إلا مؤمن ولايبغضني إلا منافق)

بعض صوفية عصرنا - ممّن تأثر بالمحدث أحمد الغماري وغيره - يلومون السلفية على نبذهم أفهام كبار علماء الأمة وإعراضهم عن تأويلات الأئمة- في بعض القضايا - وسلوكهم طريق اللامذهبية ثم يدخلون جحرهم ويسيرون على منوالهم!!

يلومونهم على الظاهرية في الفهم ثم يقعون في مثل ما عابوهم عليه!!

فيقفون مثلاً من حديث رواه مسلم 78) عن سيدنا علي رضي الله عنه قال: ( والذي فلق الحبة وبرأ النسَمة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إليَّ: أنْ لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق) موقفا غريبا يتشبثون بظاهره ويبنون عليه الحكم على معاوية وعمرو ومن معهما من الصحابة الكرام رضي الله عنهم ممن ناوأ عليا وقاتله بأنهم منافقون من أهل النار فلا يترضون عنهم، ولا يعرفون لهم قدر الصحبة، ولا يلتفتون إلى محاسنهم وفضائلهم.

ولو عادوا كما نفعل إلى كبار علماء الأمة لوجدوا أن هذا الحديث لا يؤخذ بظاهره على إطلاقه.

بل لو تأنوا ولم يقعوا في أسر العاطفة الجياشة لأدركوا أن أول من لم يأخذ بظاهره على إطلاقه هو سيدنا علي رضي الله عنه نفسه ورجاله الأُول.

فقد روى عبد الرزاق (10/150 ) وابن أبي شيبة ( 39097 وهو ثاني آخر حديث في المصنف) وابن نصر في تعظيم قدر الصلاة 591-594 ) والبيهقي ( 8/174 ) عن طارق بن شهاب -بإسناد رجاله ثقات - قال:( كنت عند علي فسئل عن أهل النهر( النهروان) أهم مشركون؟ قال: من الشرك فروا قيل: فمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا قيل: له فما هم؟ قال قوم بغوا علينا).

وأهل النهروان هم الخوارج المتفق على فسقهم وضلالهم والمختلف في كفرهم والذين وردت فيهم الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمروقهم من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية وبأنهم شر الخلق والخليقة وباستئصالهم وقتلهم قتل عاد وغير ذلك.

وروي عن سيدنا علي أنه أجاب بمثل ذلك في أهل الجمل ولكنه قال: (إخواننا بغوا علينا) رواه ابن أبي شيبة (38918) بإسناد ضعيف لكن قال شيخنا العلامة المحدث محمد عوامة: هذا كالمقطوع به من مواقف أخرى لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وانظر سنن البيهقي(8/174،184). انتهى.

وهذا ابن عباس تلميذ علي وأحد رجاله يعتبر خلاف معاوية الفقهي ويصرح بأن لقوله ورأيه وزنا وقيمة، روى البخاري(3764) عن ابن أبي مليكة قال: أوتر معاوية بعد العشاء بركعة وعنده مولى لابن عباس، فأتى ابن عباس، فقال: دعه فإنه صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وروى البخاري( 3765) عن ابن أبي مليكة: قيل لابن عباس: هل لك في أمير المؤمنين معاوية فإنه ما أوتر إلا بواحدة؟ فقال: إنه فقيه.

وهذا عمار بن ياسر يرد على من كفر أهل الشام قائلاً: لا تقولوا ذلك، نبينا ونبيهم واحد، وقبلتنا وقبلتهم واحدة، ولكنهم قوم مفتونون، جاروا عن الحق، فحق علينا أن نقاتلهم حتى يرجعوا إليه. رواه ابن أبي شيبة (38996) وفي إسناده الحسن بن الحكم صالح الحديث.

هذا، وكما لا يصير الرجل مؤمنا صحيح الإيمان كامله بمجرد حب علي من غير مراعاة شعب الإيمان الأخرى والتحلي بها، فكذلك لا يصير منافقا خالص النفاق بمجرد بغض علي من غير التلبس بالصفات الأخرى للمنافقين ومن غير زيغ ومرض في القلب يتعلق بأصل الإيمان بالله ورسوله وشريعته ودينه.

ألم يكن فيمن أحب عليا من غلا في حبه حتى ادعى ألوهيته فحرقهم علي رضي الله عنه بالنار( انظر فتح الباري الجزء الثاني عشر في شرح الحديث رقم 6992) فكيف يقال: إنهم مؤمنون بمجرد حبهم عليا رضي الله عنه وأرضاه؟!

فكيف نفهم الحديث إذاً؟

تعال معي وأصغ بقلبك وعقلك لكلام علماء الأمة الأجلة لتنهل من معينهم الصافي.

-قال الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر في (فتح الباري) ( رقم الحديث:17) في شرح حديث: آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار):

(الحصر في مثل هذا الحديث ليس حقيقيا بل ادّعائيا للمبالغة، أو هو حقيقي لكنه خاص بمن أبغضهم من حيث النصرة ...

فإن قيل: فعلى الشق الثاني هل يكون من أبغضهم منافقا، وإن صدق وأقر؟

فالجواب أن ظاهر اللفظ يقتضيه لكنه غير مراد فيحمل على تقييد البغض بالجهة، فمن أبغضهم من جهة هذه الصفة وهي كونهم نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أثر ذلك في تصديقه فيصح أنه منافق ...

ويحتمل أن يقال: إن اللفظ خرج على معنى التحذير فلا يراد ظاهره، ومن ثم لم يقابل الإيمان بالكفر الذي هو ضده، بل قابله بالنفاق إشارة إلى أن الترغيب والترهيب إنما خوطب به من يظهر الإيمان، أما من يظهر الكفر فلا؛ لأنه مرتكب ما هو أشد من ذلك.

ثم أكمل الحافظ رحمه الله كلامه فقال: وقد ثبت في صحيح مسلم عن علي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق. وهذا جارٍ باطراد في أعيان الصحابة لتحقق مشترك الإكرام، لما لهم من حسن الغَناء في الدين. قال صاحب المفهم: وأما الحروب الواقعة بينهم فإن وقع من بعضهم بغضٌ فذاك من غير هذه الجهة، بل للأمر الطارئ الذي اقتضى المخالفة، ولذلك لم يحكم بعضهم على بعض بالنفاق، وإنما كان حالهم في ذاك حال المجتهدين في الأحكام، للمصيب أجران وللمخطيء أجر واحد. والله أعلم) انتهى كلام الحافظ.

- و قال الإمام المحدث القرطبي في كتابه الجليل(المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم):

(حب الأنصار من حيث كانوا أنصار الدين ومظهريه، وباذلين أموالهم وأنفسهم في إعزازه وإعزاز نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وإعلاء كلمته، دلالة قاطعة على صحة إيمان من كان كذلك، وصحة محبته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبغضهم لذلك دلالة قاطعة على النفاق. 

وكذلك القول في حب علي وبغضه ـ رضي الله عنه وعنهم أجمعين ـ فمن أحبه لسابقته في الإسلام، وقدمه في الإيمان، وغنائه فيه، وذبه عنه وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولمكانته منه صلى الله عليه وآله وسلم وقرابته ومصاهرته، وعلمه وفضائله، كان ذلك منه دليلا قاطعا على صحة إيمانه ويقينه ومحبته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن أبغضه لشيء من ذلك، كان على العكس .. وهذا المعنى جار في أعيان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كالخلفاء، والعشرة، والمهاجرين ـ بل وفي كل الصحابة؛ إذ كل واحد منهم له سابقة وغناء في الدين، وأثر حسن فيه، فحبهم لذلك المعنى محض الإيمان، وبغضهم له محض النفاق، وقد دل على صحة ما ذكرناه قوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما خرجه البزار في أصحابه كلهم: فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم. اهـ. 

- ذكر الذهبي هذا الحديث في (سير أعلام النبلاء) فقال: معناه: أن حب علي من الإيمان، وبغضه من النفاق، فالإيمان ذو شعب، وكذلك النفاق يتشعب، فلا يقول عاقل: إن مجرد حبه يصير الرجل به مؤمنا مطلقا، ولا بمجرد بغضه يصير به الموحد منافقا خالصا، فمن أحبه وأبغض أبا بكر، كان في منزلة من أبغضه وأحب أبا بكر، فبغضهما ضلال ونفاق، وحبهما هدى وإيمان. اهـ. 

هذا هو فهم كبار علماء الأمة، وهذا ما عليه جماهير أهل التصوف، ومنهم الشيخ محمدبن عبدالكبير الكتاني، يقول في كتابه(خبيئة الكون شرح الصلاة الأنموذجية في المعارف الإلاهية والأحمدية):

(الجواب الثاني: أن الله جل جلاله وعز كبريائه وتقدس مجده أراد إظهار شفوف أصحاب سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم وآله وإعلاء كعبهم في الرسوخ والتمكين، وأنهم كانوا من الله تعالى على حالة عظيمة في الفتح، والكشف، والمعاينة، والتمكين، وثبوت الأقدام عند بدء صدمات التجلي، والولد سر أبيه، فكان الصحابة الكرام مظهر رسول الله في تمكينه, إذ هو مرآة الله الكبرى, وطور التجليات الإحسانية, ومظهر التجلي الأعظم، فصرت إذا أصابتهم سهام تكسرت النصال على النصال، وأي فتح أعظم من مشاهدة الذات المحمدية بالبصر، بل وتكرر النظر إليها وتجدده ومراجعتها، ومكالمتها والسفر معها والصلاة خلفها الآنات الزمانية، والوقوت الدهرية، ومن وقعت له الرؤية اليقظية من أكابر أهل الفتح من هذه الأمة المحمدية ضرب بحديثهم الطبل، وأشير إليهم بالبنان، فليت شعري ما يحصل لمطلق الصحابة من شفوف الرقية(كذا) وإعلاء أدراج مجاهداتهم وارتقاء سرادقات مكاناتهم عند ربهم جل سلطانه. 

ويرحم الله تعالى عبد الله بن المبارك لما سئل عن التفاضل بين سيدنا معاوية رضي الله عنه وبين عمر بن العزيز رضي الله عنه، فقال: لَلغبار الذي يخرج من أنف فرس معاوية خير من كذا وكذا من عمر بن عبد العزيز، وهل أدرك عمر بن عبد العزيز أن يقول: ربنا ولك الحمد خلفه عليه الصلاة والسلام في الصلاة لما يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: سمع الله لمن حمده.

مَا لِمُوسَىَ وَلاَ لِعِيسَى حَوَارِيُونَ

فِي مِثْلهِم وَلاَ نُقَبَاءُ). ص 289[استفدت هذا النقل من الأخ الفاضل الشيخ محمود شبيب جزاه الله خيرا]. 

فإن كنت من أهل السنة والجماعة فهذا منهجهم في الفهم وهذا طريقهم في العلم، فالزم غرزهم ولا تعد عيناك عنهم، ولا تلتفت لمن تأثر بمدرسة شيخ بعض مشايخنا المحدث السيد أحمد الغماري المتوفى سنة 1961 الموافقة 1380 فقد كان يكرر الاستدلال بهذا الحديث ويقول في معاوية ومشايعيه من صحابة رسول الله قولا منكرا مردودا.

ولا يستخفنك أيها السني قوم يزعمون أن هذا مقتضى محبة آل بيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإنك مهما بلغت في محبة سيدنا علي فلن تبلغ مبلغ ابنه وخليفته سيدنا الحسن رضي الله عنهما فإنه لو كان يعتقد نفاق معاوية رضي الله عنه لما تنازل له عن الخلافة ولقاتله حتى تنفرد سالفته، ولكنه كان يعتقد إيمانه وصحبته وصلاحيته في الجملة لحمل أعباء الملك، فتنازل له عن إمارة المؤمنين وحقن بذلك دماء المسلمين، حتى تتحقق فيه نبوءة جده سيدنا الأعظم رسول الله صلى الله عليه وسلم التي يرويها البخاري عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب جاء الحسن فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين).

رواه البخاري في مواضع من صحيحه، قال الحافظ بن حجر العسقلاني رحمه الله في فوائد هذا الحديث (رقم 6692) :

- وفي هذه القصة من الفوائد : علم من أعلام النبوة .

-ومنقبة للحسن بن علي فإنه ترك الملك لا لقلة ولا لذلة ولا لعلة ، بل لرغبته فيما عند الله لما رآه من حقن دماء المسلمين ، فراعى أمر الدين ، ومصلحة الأمة .

- وفيها رد على الخوارج الذين كانوا يكفرون عليا ومن معه ومعاوية ومن معه بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم للطائفتين بأنهم من المسلمين ، ومن ثم كان سفيان بن عيينة يقول عقب هذا الحديث : قوله : من المسلمين ، يعجبنا جدا ، أخرجه يعقوب بن سفيان في تاريخه عن الحميدي و سعيد بن منصور عنه .

-وفيه فضيلة الإصلاح بين الناس ولاسيما في حقن دماء المسلمين .

- ودلالة على رأفة معاوية بالرعية ، وشفقته على المسلمين ، وقوة نظره في تدبير الملك ، ونظره في العواقب .

- وفيه ولاية المفضول الخلافة مع وجود الأفضل ، لأن الحسن ومعاوية ولي كل منهما الخلافة ، وسعد بن أبي وقاص و سعيد بن زيد في الحياة وهما بدريان ، قاله ابن التين .

انتهى كلامه رحمه الله.

وبه نختم كلامنا حامدين شاكرين ربنا مصلين على نبينا وآله الكرام.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين