الثورة السورية والمشروع الوطني

قامت الثورة السورية المجيدة قبل سبع سنوات من اليوم وفي سياق الربيع العربي لأنه لم يكن أمام السوريين سوى خيارين الثورة أو استكانة مجهولة النهاية للظلم والطغيان والفساد والاستعباد فاختار الناس الثورة لأنها وحدها التي تليق بآدميتهم. 

سبع سنين شداد ومريرة ذاق فيها السوريون من ألوان العذاب والاضطهاد وجفاء القريب ووقاحةالغريب ما يصعب شرحه وأحيانا تصوره.

الثورة جعلت ما كان من الهوان و الموت مقسطاً شيئا ناجزا ودفعة واحدة لأسباب كثيرة قد مللنا من شرحها....

الثورة السورية المجيدة تقرع أبواب السنة الثامنة ونحن أشد قناعة بأن بدء حياة آدمية تليق بنا وبإرثنا الحضاري لن يكون من غير الخلاص من نظام الاستبداد والفساد الذي أقامه آل الأسد على جماجم الأبرياء ونحن إلى اليوم لم نجد طريقا إلى ذلك المطلب سوى الاستمرار في الثورة .

المطلوب اليوم ليس أقل من وطن حر مستقل يعيش فيه الناس بكرامتهم ويشعرون فيه بالأمن والاستقرار وهذا مشروط بتمكنهم من اختيار من يحكمهم ويدير فضاءهم العام. 

إن النظام الأسدي المستبد استولى على كل شيء لكن أهم ما استولى عليه شيئان : السلطة ومصادر القوة وأعتقد أن الشعارات الأولى للثورة وكل الأدبيات المرتبطة بها كانت تؤكد على ضرورة استرداد الناس لحقهم في إعادة توزيع السلطة وحق الجماهير العريضة في حظوظ عادلة في القوة والثروة. 

لا أريد هنا التحدث عن أسباب تأخر انتصار الثورة فذاك حديث معاد مكرور وهو على كل حال يشكل موضوعا محزنا للقراءة كما يشكل القصور الذاتي للأداء الثوري السبب الجوهري بين كل أسباب تعثر الثورة مع الأسف الشديد. 

المشروع الوطني : 

الثورة أشبه بعملية جراحية كبرى والثورة المسلحة أشبه بعملية جراحية في جسد عليل منهك ولهذا فإن كل الأنشطة الثورية السورية تتسم بالحساسية البالغة وتحتاج إلى إدارة حصيفة وعناية تامة. 

الثورة هدم لطبقة سياسية قائمة ونظام متسلط وعملية الهدم تحتاج إلى مخطط لكن إقامة نظام سياسي جديد أشد حاجة إلى التنظيم والتخطيط. وتشكل الرؤية الرشيدة للواقع الاجتماعي وحاجات الناس جوهر تلك الرؤية.

في هذا السياق أود أن أؤكد ان جميع مطالب الشعوب من حكوماتهم - وثوراتهم أيضاً- موحد على نحو مدهش وتلك المطالب تتلخص في احترام القيم والمبادئ التي تؤمن بها الأغلبية مع قدر مقبول ومعقول من الحرية والعدالة والأمن والاستقرار والازدهار الاقتصادي.

هذه المطالب إسلامية إنسانية عالمية وقد تعلمت البشرية من معاناتها الطويلة مع أهل السلطة والمتسلطين أنه لن يتحقق شيء مقنع من تلك المطالب ما لم يكن الناس هم الذين اختاروا حكوماتهم وبملء إراداتهم وهذا هو السبب الرئيس لمعظم الثورات في العالم. 

مقومات المشروع الوطني السوري:

1- منذ القرن التاسع عشر أخذت مطالب الأقليات على اختلاف تصنيفاتها في التركز في حق المشاركة السياسية على قدم المساواة مع الأغلبية ولهذا فإن ضمان المشاركة السياسية الفاعلة لكل السوريين يشكل حجر الزاوية في أي مشروع وطني بل إن المطلوب هو حث جميع المواطنين على الانخراط في العمل السياسي بما يوفر لهذا المجال الحساس العقول والخبرات التي تجعله أكثر رشدا وثراء. بهذا تكون الثورة السورية قد قطعت الطريق على المحاصصة الطائفية والعرقية.. وعلى محاولات تفتيت البلد إلى دويلات متنازعة ومتناحرة. 

2- الانطلاق من الواقع:

سورية بحدودها الجغرافية الحالية دولة مضى على تأسيسها الدستوري أقل من قرن ولهذا فالتاريخ المشترك للسوريين والأمجاد القومية التي صنعوها مع بعضهم محدودة وهذا يجعل المستند التاريخي في بناء الدولة أقل مما هو مطلوب. وعلينا إلى جانب هذا أن نعترف أن المجتمع السوري يموج بالمجموعات العرقية والمذهبية والدينية وفيه نزعات قبلية ومناطقية واضحة وإن الشعار الثوري( الشعب السوري واحد واحد واحد )يُلمح إلى رغبة السوريين في التعايش مع بعضهم على قدر ما يُلمح إلى أن وصفهم بأنهم شعب واحد هو مشروع تحت الإنجاز أو هو واقع على خطر العدم. 

إن على السوريين أن يأخذوا ذلك بعين الاعتبار في كل خطوة يخطونها نحو المستقبل. 

3- التنوع الموجود في المجتمع السوري يقتضي تركيزا أقل للسلطة حتى يتاح المجال للخصوصيات العرقية والدينية. ..التجسد في أشكال من السلطة والإدارة والثقافة وهذا يجعل من اللامركزية الإدارية شيئا مناسبا حتى الفيدرالية العامة يمكن أن تكون شيئا مقبولا لكن بعد استقرار البلاد والخلاص من النظام الطائفي البغيض. 

إن الفيدرالية نظام تم تأسيسه من أجل تلافي التقسيم لكن ذلك مشروط بالسلام والاستقرار الداخلي وقوة القلب الذي هو العاصمة وإلا كان عبارة عن تقسيم مقنَّع. 

4- مافعله البعث خلال نصف قرن من العسف والظلم والتحيز الطائفي أحدث شروخا خطيرة في الوعي الجمعي السوري وفي النسيج الاجتماعي وزاد عليه ما حدث خلال الثورة من أعمال خطيرة تتنافى مع المشاعر الوطنية تنافيا كاملا وهذا يتطلب في الحقيقة من كل الأطراف والجهات وحتى الأفراد الاعتراف بالمظالم التي تم ارتكابها ولا بد من عدالة انتقالية توفر للمظلومين الحد الأدنى من الإنصاف والتعويض عبر إجراءات ملموسة. 

إن ما يحاوله بعضهم من غمغمة الأمور ونسيان ماجرى من خلال عبارات عاطفية مزخرفة لن يكون كافيا لتأسيس سورية الجديدة والقوية العادلة والمتماسكة. 

5- سيكون لمؤسسات المجتمع المدني دور مهم في إعادة اللحمة الوطنية فهي ببعدها عن الفضاء السياسي تكتسب قدرا من الحيادية والموثوقية وهي بصفتها تطوعيةً ولاربحية تحمل روح التضامن الأخوي كما أنها بما تملكه من الأدوات الناعمة والقدرة على عبور المناطقية والعرقية تساعد كثيرا على تهدئة المشاعر وتوليد الصور والانطباعات الجمعية ذات الطابع الأهلي والوطني.

أعود للتأكيد بأن جوهر المشروع الوطني هو تساوي المواطنين أمام القانون في الحقوق والواجبات وحتى يكون ذلك حقيقة واقعة فلا بد من وجود مؤسسات تحمي هذا الركن الركين من المشروع الوطني وسيكون لحرية الإعلام واستقلال القضاء دور مهم في ذلك.

إن المشروع الوطني ليس شيئا نطلقه من خلال مؤتمر صحفي ونستريح لكنه مبادئ وقيم وحقوق ومفاهيم نشترك جميعا في رعايتها وتجسيدها في الواقع المعيش وهذه مسؤولية كبيرة .

ما ذكرته قد يكون حدوثه في ظروف كالظروف التي نمر بها أشبه بالمستحيل لكن ليس لدينا أي خيار آخر يمكن الحديث عنه.

والله الموفق.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين