كيف يصان التدين من الانحراف؟

للإجابة على هذا السؤال أتذكر مقولة لأبي الحسن العامري في كتابه “الإعلام بمناقب الإسلام” خلاصتها أن بعض الناس قد يفعل فعلاً يقصد به الوصول إلى الحسنة، لكنه يضل طريقها لأنه لم يدرك شروطها، بينما يرتكب الفجار السيئات استجابة لنزعة الشر التي دعتهم إليها نفوسهم الأمارة بالسوء، وبالنتيجة يجتمع الفريقان في بعدهم عن فعل الحسنات، وإن كانت المفارقة بأن قصد الفجار تعاطي الشر عمداً وعن علم ودراية.

فما الذي أدى بطالبي الحسنات إلى أن يجتمعوا في النتيجة مع من قصد عدم فعلها وهم الفجار؟

تبدو الإجابة سهلة، إنه الظن، لقد ساروا في طريق يظنون أنه يودي بهم إلى الحسنات، لكن الظن لا يغني من الحق شيئا، وليس بعد العلم إلا الظنون والتخمينات، وهذا هو عين الجهل.

لقد ظن نفر من المسلمين أن بعض الأفعال التي يمكن لهم أن يفعلوها قد تقربهم إلى الله، لكن النبي صلى الله عليه وسلم بين لهم خطأ تفكيرهم، ونهاهم عن المضي فيه.

فقد جاء في البخاري أن ثلاثة رهط جاؤوا إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أُخبروا كأنهم تقالّوها، فقالوا وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال “أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني”.

هذه الظنون هي التي أدت بالبشر إلى اختراع الرهبنة، ذلك النظام الذي لم يكتبه الله، فنلاحظه موجودا في كثير من الديانات التي انحرفت عن جادة الصواب، فهي ترى في تعذيب النفس وحملها على المشاق غير المحتملة في الحالة الطبيعية، كالنوم على الأشواك، أو دوام حمل الأثقال، مظنة الحصول على الرضا الإلهي أو الانسجام النفسي.

إن العبادة لا تكون إيجابية إلا إن أديت بطريقتها الصحيحة، والعابد ليس مرجعاً علمياً للناس بل العالم هو المرجع، يشهد لهذا الحديث الذي حدثه النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل من بني إسرائيل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً ثم أراد التوبة، فقد ظن العابد أن لا توبة له، بينما بين له العالم أن باب التوبة مفتوح [رواه مسلم].

إذن فأول ما يحفظ التدين من الانحراف هو التدين على علم، أي الخضوع للدين كما تقرر تعاليمه وقيمه كما أنزلها الله بالضبط، والأمر الآخر لصيانة التدين من الانحراف أن تبقى النصوص الدينية هي معيار صوابية التدين من عدمه، لأنها ظاهرة معروفة يمكن إدراك الخطأ والصواب حين عرض السلوك عليها، ولا يتم تجاوزها إلى الشعور والوجدان، فللعبادة لذة لكن الفعل الذي ينتجها منضبط بالنص، غير أنه يمكن أن يستمر الشعور باللذة الروحية مع تجاوز النص، ثم تصبح الملذات الروحانية وتفاعل الشعور الديني معها هو معيار الخطأ والصواب، حينها قد ينظر للنصوص على أنها قشور، وللمشاعر على أنها الثمار الحقيقية، وهذه من نظريات التعددية الدينية الهدامة، التي ترى أنه بالإمكان التركيز على التصوف كدين عالمي يتجاوز الأديان، ويكون البديل عنها.

لذلك نقول: النص يضبط، والمشاعر لا ضابط لها، لذا فإن التدين يبدأ بالانحراف حين يدور مع المشاعر لا مع النصوص، إن التدين الصحيح ينطلق من النصوص، ثم ترافقه النصوص كمعيار لصوابية فعله على طول الطريق، لا يتجاوزها بحال، فإن اختل أحد الأمرين، سيخطئ المتدين طريق الحسنات لتجاوزه شروطها، وسيجتمع مع الفجار من حيث النتيجة وهي الابتعاد عن الفعل الصواب، ولا يميزه عن الفاجر سوى أن الفاجر نوى الخطأ وقصده أساساً.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين