واقعية التغيير

 

يتاجر بالواقعية منافقون من شاكلة الذين قالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى : لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم، 

وهم من قيل لهم: تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا: لو نعلم قتالا لاتَّبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون. 

ويتاجر بالواقعية الذين قالوا: يا موسى إن فيها قوما جبارين، وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون. 

ويتاجر بالواقعية المُعذّرون الذين قال قائلهم زهادة في الجهاد ، وشكا في الحق ، وإرجافا في الصف: 

ائذن لي ولا تفتني، وبيوتنا عورة، ولا تنفروا بالحرّ.

يتاجر بالواقعية قوّالون يستعجلون العمل قبل أوانه، ويحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا، فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشيِّ عليه من الموت، يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون! 

فهموا الواقعية وهنا بائسًا، وعجزًا يائسًا، وبخلا في موضع العطاء، وكسلا في موضع البلاء، وتذبذبا في موضع الجلاء، وتوليًّا عن الزحف عند اللقاء، وبراء في موضع الولاء، وولاء في موضع البراء، لا يردعهم عن الخسيس والسفاسف حياء، ولا يدفعهم لتصحيح النوايا وضبط البوصلة حساسية من هوى أو رياء.. 

الواقعية في نظرهم تنازل عن الهدف، وتثبيط للهمم، وقتل للإرادات! 

غير أن الواقعية الحقّة ليست استسلاما للواقع، ولكنها مدافعته وتغييره بأدوات واقعية.. متسلحين بالصبر والمصابرة، والرباط والمداومة، والتقوى والمقاومة، والثبات والمراغمة (اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون)، (وإن تصبروا وتتقوا لا يضرّكم كيدهم شيئا)، (لن يضرّوكم إلا أذى).

ما لم نثق بربنا، ونحسن ظننا بعدله ونصره، ويقيننا بما نفوضه إليه، ونعدّ ما نستطيع من قوة في حسن عمل وجميل توكل، فإن الله لا يغيِّر ما بنا حتى نغيّر ما بأنفسنا، طال الطريق أم قصر، وتيسّر درب السالكين أم عسر، كل هذا نسلكه بواقعية تسقى بماء الإيمان، لا حماسة سارحة بسراب الأماني! 

واقعية تجابه الواقعية التي يزعمها ويتاجر بها أولئكم! 

واقعية تستحضر أن للبلاء جهده، وللتغيير جهاده، وللإيمان ثمنه، وللثبات ضريبته، (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين). (لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور)..

ولا يدرك أن الصبر في هذه المواطن عزيمة إلا من عاش واقعا رياح الفتنة تهبّ فيه من كل جانب، حتى ليوشك الناس أن يشكّوا بأقدار الله، ويسيئوا الظنّ بجهادهم، ويعتبوا على من ورّطهم وغرّر بهم، خاصة حين تكون الضريبة دماءً وأعراضا ودمارا، ومزيدا من غطرسة العدو مع فجور وبغي واستكبار! 

هنا تتعالى أصوات تجأر بأكذوبة: (كنا عايشين)، وتسميها واقعية! 

غير أنها واقعية الهالكين المهلكين، اليائسين من روْح الله! 

نعم لابد من واقعية، ولكنها واقعية تغيير لا واقعية تغرير، واقعية جهاد لا واقعية هلاك، مستحضرين إيضاح أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه لمعنى (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)، حيث عرضها بواقعية من واقعة ألمّت بهم في جهادهم لفتح القسطنطينية لما حمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم فصاح الناس وقالوا: سبحان الله يلقي بيديه إلى التهلكة!! فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: يا أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل وإنما أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه فقال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم يرد علينا ما قلنا : {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم، هذه هي الواقعية الحقّة ولو أفضت لاستشهاد وتأخّر النصر، واقعية تستلهم من قصص القرآن عبرها فتمضي طريقها، تَحَقَقَ الهدفُ ناجزا أو تأخَّرَ! 

واقعية قالها رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب، فإذا دخلتموه فإنكم غالبون، وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين. 

واقعية الذين يظنون أنهم ملاقو الله حين قالوا: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين}.. 

واقعيتان متباينتان لا تلتقيان.. واقعية المعذّرين المرجفين الفرّارين، وواقعية الصابرين المصابرين المرابطين الكرّارين بإذن الله.. 

تتشابه بعض مواقفهما حينا، تتطابق بعض دروبهما، تقترب مسالكهما، غير أنه شتان شتان في البوصلة والميزان والبصيرة، وطوي النوايا ومنتهى الإرادات وغاية المسيرة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين