نواقض الإيمان في ميزان الكتاب والسنة (30)

 

حوارات حول الكتاب (الحلقة الأخيرة)

* ـ قال الأخ المعلق الرابع: 

"الاستغاثة بغير الله شرك، وليس كل من يستغيث بغير الله مشركا". 

أقول: 

كأن الأخ المعلق يريد أن يشير إلى مسألة التفريق بين حكم الفعل وحكم الفاعل، فتكون الاستغاثة بغير الله شركا ولا يكون كل من يستغيث بغير الله مشركا. 

القول بأن الاستغاثة بغير الله تعالى شرك بإطلاق قول غير مقبول وغير مبرهَن عليه، ولا بد من التفريق بين حالة وحالة، كما سبق بيانه في البحث وفي التعليق على كلام المعلق الثالث. 

* ـ قال الأخ المعلق الخامس حفظه الله وكلَّ الإخوة المعلقين بخير وعافية: 

"إذا قلنا: إن القول الكفري والفعل الكفري يكفـِّر بذاته مع توفر شروط التكفير وانتفاء الموانع أو إنه يكفـِّر بما يسبقه أو يقترن به من اعتقاد أليست النتيجة واحدة؟!". 

أقول: 

من أتى بقول كفري لا يحتمِل غير المعنى الكفري قطعا فهو كافر لا شك في ذلك، ـ وكذلك الفعل الكفري ـ، وحكْمنا عليه بالكفر وجريانُ أحكام الكفر عليه هو من الوقت الذي صدر منه القول الكفري، أما كفره حقيقة فهو من الوقت الذي خرج من قلبه الإيمان ـ الذي هو التصديق مع إذعان النفس بأركان الإيمان وما يقتضيه ذلك من تعظيم القلب لله وما عظمه الله جل وعلا ـ، والأقوالُ والأفعال الكفرية القطعية الدلالة على كفر مرتكبها لا تصدر عمن في قلبه إيمان، لأن الإيمان والكفر نقيضان لا يجتمعان. 

فقولنا إنه كفرَ بهذا الذي صدر منه صحيح إذا فهمناه على معنى الكفر الظاهر، وأما في الباطن فقد كفرَ قبل ذلك في الوقت الذي خرج فيه الإيمان من قلبه. وينبغي تسمية الأشياء بأسمائها. 

ـ ثم قال الأخ المعلق: 

[الدخول إلى الإسلام وترتب أحكامه إنما يكون باللفظ حتى وإن كان القائل منافقا، كحال منافقي المدينة، فقد كانوا كفارا إلا أنهم عُوملوا كصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يقول الناس إن محمدا يقتل أصحابه". مما يعني أن الأحكام تُناط بألفاظ المكلفين في الدخول إلى الإسلام وفي الخروج منه، وكثير من الأحكام الشرعية رتب الشارع فيها الآثار على ظواهر الأقوال والأفعال ابتداء دون النظر إلى النية، وهذا يعني أن مَن أتى بمكفر قولي أو فعلي فيجب أن تترتب الآثار دون النظر إلى النية كذلك]. 

أقول: 

الأحكام الشرعية منها أحكام عملية فقهية ومنها أحكام اعتقادية: 

ـ فأما الأحكام العملية الفقهية فمنها أحكام في الديانة بين المرء وربه ومنها أحكام في القضاء: فأما أحكام الديانة فهي ترتبط في كثير من المسائل الفقهية بنية المكلف، وأما الحكم القضائي فارتباطه بالظاهر ولا علاقة له بعمل القلب. 

وسأضرب بعض الأمثلة هنا للإيضاح: 

قد يقول الرجل في خلال حديثه "بلى والله" أو "لا والله" غيرَ قاصد الحَلِف، فيكون هذا ـ عند الجمهور ـ من اللغو الذي لا يؤاخذ الله به الناس، وبالتالي فلا تجب عليه الكفارة عندهم إذا حنِث بعد ذلك القول إذا لم يكن قاصدا اليمين، وهذا على الرغم من أن مثل ذلك القول هو من أصرح الصريح في الأيمان. 

وقد يقول الرجل في لجاجه وغضبه :"إن كلمتُ فلانا فلله علي صيام ثلاثة أيام" مثلا غيرَ قاصد النذر، كأن يقصد به الحثَّ على فعل شيء أو المنعَ من فعله أو تحقيقَ خبر أو تأكيد نفيه، وكثير من العلماء يرون عدم وجوب الوفاء بهذا النذر وأنه يجزئ فيه كفارة يمين، على الرغم من أن مثل ذلك القول هو من أصرح الصريح في النذور. 

وقد يقول الرجل لامرأته: "أنت طالق" غيرَ قاصد الطلاق الذي يعني انحلال عقد الزواج، بل قد يقول ذلك القول قاصدا أنها طالق من قيود الظالمين مثلا، فلا يُعد قوله هذا مع عدم قصد الطلاق عند كثير من العلماء طلاقا مفرِّقا بين الرجل وزوجته، على الرغم من أن قوله "أنت طالق" هو من أصرح الصريح في الطلاق. 

فيجوز للرجل في تلك الحالة فيما بينه وبين الله تعالى إذا كان يعلم من نفسه أنه إنما قال ذلك اللفظ لا يقصد به الطلاق المعهود ـ كما إذا نوى أنها طالق من وَثاق الظالمين مثلا ـ أن يستمر مع امرأته، ويجوز للمرأة أن تبقى مع زوجها على عقدهما السابق إذا غلبَ على ظنها صدقـُه فيما ادعاه من القصد عند التلفظ بكلمة الطلاق. 

وإذا رفعت المرأة الأمر للقاضي وثبت عنده ما نطق به الزوج فإنه يحكم بوقوع الطلاق، وهذا في الحكم القضائي. 

فما ذكره الأخ الباحث من أن الأحكام تُناط بألفاظ المكلفين هو صحيح في الجملة، أي في الأحكام العملية الفقهية التي تُناط بالظاهر، فالذي نطق بالشهادتين دون اعتقاد معناهما هو مسلم في الظاهر ولكنه كافر في الباطن الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل، ومَن أتى بمكفر قولي أو فعلي لا يحتمِل غير المعنى الكفري قطعا فهو كافر لا شك في ذلك. 

لكن إذا كان المكفر غير قطعي الدلالة على المعنى الكفري فالنظر إلى هذه الحالة من وجهين: 

فأما عند الله عز وجل فهو يعلم السر وما هو أخفى، وهو الذي يحاسبه على ما يعلمه منه. 

وأما في الدنيا فبسؤال الشخص عن مراده بما صدر منه من قول أو فعل يظهر منه الجواب، فإن فسره بالمعنى الكفري فله حكم الكافر، وإن فسره بما دون الكفر فلا شك في أنه له حكم آخر، ولكل حالة أحكامها، ولا بد من مراعاة القرائن في بعض تلك الأحكام. 

ـ وأما الأحكام الاعتقادية فإنها تتعلق بعمل القلب. 

ـ ثم قال الأخ المعلق: 

"لا نستطيع أن نتوصل إلى نوايا الفاعلين والقائلين في كل الأوقات والظروف، فقد لا تفيدنا دلالة الحال على نياتهم، وهذا يفتح الباب لكثير من الزنادقة كي يقول القائل منهم قولا أو يفعل فعلا يمس ثوابت الإسلام، ثم يقول إذا اطلع عليه العدول الثقات لم أقصد بذلك القول أو الفعل المعنى الكفري، وإذا ربطنا مسألة الكفر بحصول القصد القلبي فإن هذا قد يفتح الباب للزنادقة كي يقولوا ويفعلوا ما يشاؤون ويفلتوا من العقوبة". 

أقول: 

الحكم الاعتقادي في مسائل الخروج من الإيمان شيء، والحكم الفقهي والقضائي شيء آخر. 

فإذا كان البحث في أحكام الاعتقاد فالواجب معرفة ما الإيمان وما الكفر؟ وما الذي يدخل المرءَ في الإيمان وما الذي يخرجه منه؟ ونحو ذلك، وهذا بين المرء وبين ربه جل وعلا. 

وإذا كان البحث في أحكام الفقه والفتوى والقضاء فالواجب معرفة الأحكام العملية للألفاظ والأفعال التي تصدُر من المكلف في باب الإسلام والكفر وما يترتب عليها من الأحكام العملية الفقهية، وهذا بين المرء وبين الناس الذين من حوله، أفرادا أو جماعة، كصحةِ عقد نكاحه أو انفساخه وزواجرِ من يستحق العقوبة من المتهاونين ونحو ذلك. 

ومما يتعلق بذلك مسألة الحكم القضائي مثلا فيمن يأتي بالأقوال والأفعال الكفرية غيرِ المحتمِلة لغير المعنى الكفري، وفيمن يأتي بالأقوال والأفعال الكفرية المحتمِلة ويفسرها بغير المعاني الكفرية ويتكرر ذلك منه أو لا يتكرر، ونحو ذلك، وأحكامها ينبغي أن تُبحث في أبواب الحدود والتعزير من كتب الفقه الإسلامي وكتب أحكام القضاء وأدب القاضي. 

والأحكام الاعتقاديَّة شيء آخر مختلف تماما، وهي مرتبطة بالقلب والقصد القلبي، قال الله تبارك وتعالى {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمَّا يدخل الإيمان في قلوبكم}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنية". 

* ـ وفي الختام أقول للإخوة المتحاورين في هذا الحوار وفي غيره: 

ليتنا نسعى جاهدين للتحقق بمفهوم الآية الكريمة: {ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا}، فإنْ حاولنا التحقق بها فإننا نطمع في كرم المولى جل جلاله أن يقبلنا ويتقبل منا، وإن أعرضنا فالويل للمتحاورين الذين لا يريدون سوى حب الغلبة والظهور، ورحم الله من علمونا أن حب الظهور يقصم الظهور. 

اللهم أدخلنا برحمتك جنات عدنٍ التي وعدتنا، وقنا السيئات، {ومَن تقِ السيئات يومئذ فقد رحمتَه}، واجعلنا من أهل الفوز العظيم، برحمتك يا أرحم الراحمين. 

وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 17/ 10/ 1436، الموافق 2/ 8/ 2015، وأتممت كتابته بالإضافات والتنقيحات والحوارات في 26/ 6/ 1438، الموافق 25/ 3/ 2017، والحمد لله رب العالمين. 

الحلقة السابقة هــنا 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين