لماذا لا نفسر القرآن لغويا؟

(هذه المقالة ضمن سلسلة مقالات تتحدث عن نقد الأسس الفكرية لمشروع المهندس محمد شحرور. وقد قام المدعو محمد شحرور بتفسير الآيات القرآنية بمعزل عن أي سياق أو نصّ آخر، وكأنها نزلت للتوّ، وذلك من خلال العودة إلى الجذر اللغوي لكل لفظ، ثم انتقاء معنى من المعاني العديدة التي تعود إلى هذا الجذر، وهو المعنى الأكثر ملاءمة للمعايير العلمانية.)

في ظلّ التراكم المعلوماتي الحادث في عصرنا هذا، وفي ظلّ تطوّر علوم اللغة واللسانيات وتشعّبها، وفي ظلّ ما يسمّيه البعض "ضرورات العصر" وضمن سياق ما يسمّى "تجديد الخطاب الديني"؛ تُطرح إشكالية "تأويل القرآن" ويُنادى بإعادة تأويله بشكل مجرّد عن أي سياق تاريخي، و"السياق" هنا يشمل روايات السنة النبوية والسيرة ومرويات الصحابة ومن تبعهم من أئمة القرون الأولى. في هذه الأجواء تكون "اللغة" هي المفتاح، ويُطرح السؤال: لماذا لا نفسّر القرآن لغويّا؟

يقول أصحاب هذه الدعوة إنّ القرآن نزل بلسان عربي مبين كما أخبر ربّنا جلّ جلاله في كتابه، ومن ثمّ فليس علينا إلا أن نتمرّس بلغة العرب من مصادرها كالقواميس والمعاجم وغيرها لندرك معاني القرآن وما يرشد إليه! فهل هي دعوة صحيحة؟ ولماذا لا يمكن تفسير القرآن باللغة فقط؟

إنّ القرآن نفسه يرفض فكرة النصّ المجرّد الذي يأتي جملة واحدة، معزولًا عن معترك الحياة وملابساتها، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً  كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ  وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا}

أول ما يغفله أصحاب مثل هذه الدعوات هو أنّ القرآن الكريم ليس كأيّ نصّ كُتب مرة واحدة بدون أي سياق من الحياة والتفاعل مع شتى عناصر الواقع والتاريخ، بل هو في الواقع "حياة" باعتباره مرتبطا بأحداث وسياقات اجتماعية وسياسية ونفسية وتاريخية، بحيث لا يكون بالإمكان فهم القرآن بدون فهم هذه الأحداث والتشبّع بها معرفة وشعورًا، قال تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا}. يقول الإمام البغوي في تفسيرها: "{لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} أَيْ: عَلَى تُؤَدَةٍ وَتَرْتِيلٍ وَتَرَسُّلٍ فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً". إنها ثلاث وعشرون سنة من "الحياة" بكامل تفاصيلها، فكيف نفهم النصّ بدون أن نفهم تلك الحياة؟

القرآن "حياة" وليس نصّا مجرّدا:

إنّ القرآن نفسه يرفض فكرة النصّ المجرّد الذي يأتي جملة واحدة، معزولًا عن معترك الحياة وملابساتها، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً  كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ  وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا}. فهو بالتحامه هذا بوقائع الدعوة النبوية يثبّتُ فؤاد النبيّ "باتصال الوحي ومداومة نزول القرآن، فلا تصير بانقطاع الوحي مستوحشا" كما يقول الماوردي في تفسيره.

في هذا السياق يكون فهم أسباب النزول وفهم السيرة النبوية من أولويات فهم كتاب الله، فكيف تفهم رسالة لا تعرف سيرة من حملها؟ وكيف تعرف سيرته وأنت مُعرض عن المصادر التي نقلت تلك السيرة؟ وكيف تفهم العبرة المستفادة من عشرات الآيات بل المئات وأنت لا تعرف في أيّ شيءٍ نزلت؟ من هنا يتّضح أنّ الإعراض عن مرويّات السنة ومرويات الصحابة ومن تبعهم في تفسير القرآن هو تصرّف غير علمي وبعيد غاية البعد عن القراءة العلمية الموضوعية التي تهدف إلى معرفة مقاصد القرآن والقيم والأحكام التي يحملها الاصطلاح اللغوي والعرفي والشرعي.

بالإضافة إلى ما ذكرناه من ضرورة معرفة "السياق" الذي نزل فيه النصّ لفهم ما يُرشد إليه هذا النص من قيم وأحكام، فإنّنا بحاجة إلى التنبّه لقضية لغوية غاية في الأهمية، وهي أنّ مستويات الاصطلاح للفظ الواحد قد تتنوع، وأنّ هناك ثلاثة مستويات من الاصطلاح قد تجتمع في لفظ واحد: الاصطلاح الشرعي، الاصطلاح العُرفي والاصطلاح اللغوي.

ولكي نفهم الفرق بين هذه الاصطلاحات الثلاثة نطرح كمثال لفظَ "الدابّة"، فهو يعني في اصطلاح اللغة: كلّ ما يدبّ على الأرض، سواء كان عاقلا أو غير عاقل، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ  فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ}. ويعني في الاصطلاح العرفي: ما يُركب من الدواب التي نعرفها. وقد يكون المقصود منها في الاصطلاح الشرعي دابّة الأرض التي هي من علامات الساعة كما في قوله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ}. أرأيتَ لو فسّرتَ دابّة الأرض في هذه الآية باللغة فقط، بمعزل عن الروايات التي تصفها، فهل كنت ستصل إلى معناها المقصود في كتاب الله؟

وعلى هذا النحو لو أخذنا اصطلاحات كثيرة مهمة وردت في كتاب الله في سياق التكليف: كالصلاة، والصيام، والزكاة، والحجّ. فالصلاة في اللغة الدعاء، ولكنها في الاصطلاح الشرعي تلك العبادة التي كلّفنا الله بها بأركانها وصفاتها وشروطها المعروفة. والصوم في اللغة هو الإمساك، ولكنه في اصطلاح الشرع عبادة معروفة هي إمساك مع نيّة عن الطعام والشراب وسائر المفطرات في أوقات مخصوصة. والزكاة في اللغة تأتي بمعنى الطهارة والنماء والبركة، ولكنها في اصطلاح الشرع ذلك الركن المعروف من أركان الإسلام بشروطه وأحكامه. وكذلك الحجّ، فهو في اللغة القصد، ولكنه في اصطلاح الشرع عبادة مخصوصة. تصوّروا الآن لو جاء أحدهم وقال: أريد تفسير هذه الألفاظ الدالة على تكاليف شرعية باللغة فقط، يمكنه حينئذ أن يذهب بالمعاني الشرعية كلّ مذهب، هذا إذا علمنا أنّ الكثير من الألفاظ تحتمل في اللغة أكثر من معنى!

إنّ المتأمّل في لهجاتنا المعاصرة المتنوّعة، سيدرك تمام الإدراك بأنّ سبيل معرفة المعاني والدلالات فيها ليس هو البحث اللغوي، أي ليس البحث عن الجذر اللغوي للألفاظ.

التفسير باللغة مع إغفال المعاني الشرعية منبعٌ للضلالات

ومن المحاذير التي يوقع فيها منهج الاعتماد على المعاني اللغوية مع إغفال المعاني الشرعية التي دلّ عليها الوحي أنّه يحرّف الكثير من المفاهيم الشرعية الخطيرة، ولنأخذ على سبيل المثال مفهومين على غاية من الخطورة والأهمية: مفهوم الإيمان، ومفهوم الولاء.

أما مفهوم الإيمان فقد قالت بعض الفرق إنّه "التصديق" فحسب، باعتبار أنّ هذا هو معناه اللغوي. ومن ثمّ أصبح التكليف الشرعي الذي سمّاه الله في كتابه إيمانًا هو مجرّد التصديق! مع أنّ الإيمان المطلوب شرعًا للنجاة الأخروية هو شيء زائد على التصديق في كتاب الله، فلا يدخل الجنّة مشركٌ كما تدلّ الكثير من الآيات، ومع أنّ القرآن ذكر أقواما صدّقوا بالله عزّ وجلّ وبرسله ولكنّهم كانوا رافضين لرسالاته جحودا، كما قال تعالى حكاية عن المشركين: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}. وقد أثبت سبحانه الإيمان اللغوي لقوم مشركين فقال عزّ وجلّ: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ}، فهل يُقال عن هؤلاء إنهم مؤمنون يدخلون الجنّة؟ أم نقول كما قال الله عزّ وجلّ في كتابه إنّ البراءة من الشرك هي شرط دخول الجنة كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}.

فتصوّروا كيف سيتمّ اختزال الإيمان الإسلامي ومضامينه القرآنية حين يكون المطلوب لدخول الجنّة هو مجرّد التصديق، حتى قال أحد الدعاة المعاصرين إنّه يكفي أهل الكتاب تصديق الرسول صلى الله عليه وسلّم ليدخلوا الجنّة بحسب دين الإسلام، مع أنّ الله عز وجلّ يقول: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. فاشترط سبحانه عليهم نصرته واتّباع ما جاء به من عند الله كي يفلحوا، وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}.

توسّع الإمام الحكيم الترمذي في كتبه بنظريّته المثيرة في إعادة معاني الاصطلاحات الشرعية إلى الأصل اللغوي كما هو في جذر اللغة، فأصاب في مواضع وأدهش، ولعله غلط في مواضع وأثار حفيظة بعض أهل العلم.

ومن الناحية الأخرى إذا أخذنا مفهوم الولاء، فهو يعني في اللغة: القُرب. والوليّ: الصديق والقريب. ويدخل في معنى الولاء أيضًا: المحبّة. فلو أخذنا هذه المعاني مجرّدة عن المعاني الشرعية للولاء المنهي عنه والذي كفّر به كتاب الله عزّ وجلّ وحكم على مرتكبيه بالردّة عن دين الإسلام، كما حكى القرآن عن الذين آثروا ولاء قبيلتهم على ولاء المؤمنين فظاهروهم على المؤمنين.. أقول: لو أخذنا هذه المعاني اللغوية فقد يؤدّي هذا إلى التوسّع في معنى الموالاة، وقد يتبعه تكفيرٌ بما لا ينحصر من المناطات! وقد حدث ذلك مع الأسف عند جماعات الغلوّ المعاصرة، فصارت الهدنة من الموالاة المكفّرة عندهم، وصار الحوار موالاة مكفّرة، وكل ذلك يستند إلى المعاني اللغوية للولاء!

بينما لو تتبّع المسلم مناطات الولاء المذكورة في كتاب الله، والتي نهى عنها الله سبحانه ووصفها بالكفر، فسيجد بأنّها لا تتعلّق بالعلاقات الشخصية والمحبّة الفردية، ولا يدخل فيها صلة الرحم والحوار والمهادنة والبرّ والقسط فيما لا يكون مظاهرة للكافرين على المسلمين، وإنما الأصل في الولاء هو أن يكون على الراية، أي أنّه مرتبط بـالجماعات والأقوام وليس بالأفراد. فلو أحبّ رجلٌ امرأة أو عشيرة ثم دفعته هذه المحبّة إلى الدخول تحت الراية التي يقف تحتها هذا المحبوب؛ فهذا هو الولاء. أما العلاقات الشخصية فلا تكون ولاءً؛ كمحبّة شخص كافر مثلا. مع وجود ولاية أفراد منهيّ عنها كاتخاذ البطانة من دون المؤمنين ولكنها ليست ولاءً مكفّرا.

فهذان مثالان لمصطلحين قرآنيين على غاية من الخطورة والأهمية، انظر كيف يؤدي تفسيرهما باللغة فقط إلى الانحراف في فهمهما.

ضرورة التمسّك بالسياق المجتمعي للّغة

إنّ المتأمّل في لهجاتنا المعاصرة المتنوّعة، سيدرك تمام الإدراك بأنّ سبيل معرفة المعاني والدلالات فيها ليس هو البحث اللغوي، أي ليس البحث عن الجذر اللغوي للألفاظ. فلو أنّ شخصًا ما ذهبَ إلى إحدى البلدات التي لها لهجة خاصة، فإذا سمع كلمة منهم سألهم هُم ماذا تعني هذه الكلمة؟ ولن يلجأ للقاموس وإلا سيأتي بالمضحكات! وقد حدث معي مثل ذلك عندما خطبت زوجي وهي من بلدة كفر كنا في الجليل شمال فلسطين، وأنا من مدينة عكا في الجليل الغربي، فسمعت منها كلمة "ينزع الثوب"، فظننت أنها تعني تمزيقه، ثم حين سألتُها علمتُ بأنّها تعني في اصطلاح بلدتهم: اتّساخ الثوب! فأي قيمة هنا في البحث عن الجذر اللغوي؟

كذلك الأمر حين نريد أن نعرف معنى الألفاظ والاصطلاحات التي حُمّلت بالقيم الدينية والأحكام الشرعية، لا نستقلّ بقاموس لمعرفة هذه المعاني، بل نلجأ إلى أولئك القوم الذين تحدّثوا هذه اللغة، وهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فهم الذين نقلوا إلينا معنى الاصطلاحات القرآنية والتكاليف الشرعية الكامنة فيها، لأنّهم هم الذين عاصروا نزول هذا الكتاب، وشهدوا وقائعه التي يحكيها، وخاضوا المعارك التي خلّدها، وأحاطوا بالنبيّ الأمّي صلى الله عليه وسلّم الذي نزل عليه هذا القرآن.

في تراث الأمة نماذج كثيرة لعلماء أجلّاء اهتمّوا بالتفسير اللغوي وولعوا فيه وصنّفوا فيه المصنّفات، ولكنّهم مع ذلك لم يجعلوا منه وسيلة لنبذ الروافد الأخرى الضرورية لفهم القرآن؛ كالسنّة والسيرة ومرويات الصحابة والإجماع وغيره.

إنّ هذا المنهج هو المنهج العلمي في التأويل، وقد درسنا في اللسانيات كيفية البحث في اللهجات المحلية، ولم يكن البحث العلمي يتجه إلى القاموس لمعرفة معنى كلمة ما، وإنما يكون الاتجاه إلى ما تواضع عليه الناس في معناها. ومن ثم فإنّنا حين نلتزم ما جاء في السنّة وإجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم في تحديد معاني الاصطلاحات الشرعية، فإنّنا نلتزم بالمنهج العلمي الدقيق، ومن يحيد عن هذا المنهج فليس له من البحث العلمي نصيب!

وهل ننبذ التفسير اللغوي تمامًا؟

لم يكن الهدف من هذه التدوينة الدعوة إلى نبذ التفسير اللغوي، وكيف أدعو إلى ذلك وأنا من عشاق هذه اللغة ومن عشاق التفسير باللغة؟ وإنّما أردتُ تفنيد النظرية التي تدعو إلى استقلال تفسيرنا للقرآن باللغة، ونبذ ما سوى ذلك من مسالك علمية لمعرفة المعاني والأحكام التي يحويها كتاب الله. فهي نظرية بائسة لا تنطلق من تفكير علمي موضوعي، بل دافعُها - في نظري - أهواء تهدف إلى تمييع النصّ القرآني وجعله طيّعا في أيدي أصحاب هذا الطرح يذهبون به كل مذهب ويضعونه على أي معنى يريدون. فهم يلجأون إلى المعنى اللغوي للكلمات، لِعِلْمهم بأنّ لسان العرب واسع، تجدُ للكلمة الواحدة فيه العديد من المعاني والاستعمالات، ويُعينهم على ذلك الطبيعة الاشتقاقية للّغة العربية، حيث يمكن بالنزول إلى الجذر للأسفل، ثم العودة للأعلى باتجاه آخر؛ العثورُ على معانٍ جديدة وإلصاقها باللفظ الوارد في النصّ القرآني، ومن ثم الخروج بتفسير جديد تماما للنصّ، مما يؤدي إلى تحريفه!

وفي تراث الأمة نماذج كثيرة لعلماء أجلّاء اهتمّوا بالتفسير اللغوي وولعوا فيه وصنّفوا فيه المصنّفات، ولكنّهم مع ذلك لم يجعلوا منه وسيلة لنبذ الروافد الأخرى الضرورية لفهم القرآن؛ كالسنّة والسيرة ومرويات الصحابة والإجماع وغيرها. منهم من صنّف في "غريب القرآن"، ومنهم من صنّف في "إعراب القرآن"، ومنهم من صنّف في "معاني القرآن" وغيرها من العلوم. ولقد توسّع الإمام الحكيم الترمذي في كتبه بنظريّته المثيرة في إعادة معاني الاصطلاحات الشرعية إلى الأصل اللغوي كما هو في جذر اللغة، فأصاب في مواضع وأدهش، ولعله غلط في مواضع وأثار حفيظة بعض أهل العلم. ولكنه مع ذلك كلّه لم يكن يخرج بهذه التأويلات اللغوية عن ثوابت الشرع والاصطلاحات الشرعية، بل كانت جهوده كلّها تصبّ في ترسيخ الحقائق الشرعية وبيان علاقتها الوطيدة بالحقائق اللغوية.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين