من علَّمك الشعر الجاهلي؟

 

قالوا: ما الشعر الجاهلي؟ 

قلت: هو الشعر الذي يرجع إلى العصر الجاهلي، أي الحقبة الزمنية التي سبقت البعثة النبوية، متراوحة ما بين قرن ونصف قرن إلى قرنين قبل الإسلام، فهي المدة التي ولد فيها ما انتهى إلينا من الشعر الجاهلي، يقول الجاحظ في كتاب الحيوان 1/74: أما الشعر العربي فحديث الميلاد صغير السن، أول من نهج سبيله وسهل الطريق إليه امرؤ القيس بن حجر ومهلهل بن ربيعة، فإذا استظهرنا الشعر وجدنا له – إلى أن جاء الله بالإسلام – خمسين ومائة عام، وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمائتي عام.

قالوا: ما أهم مصادره؟

قلت: هي: دواوين الشعراء والقبائل، وكتب النحو واللغة، وكتب الأمثال والأدب، وكتب التأريخ والسير والمغازي وأيام العرب، والمجموعات الشعرية كالمعلقات السبع ثم العشر، والمفضليات، والأصمعيات، ودواوين الحماسة المختلفة، وجمهرة أشعار العرب لأبي زيد القرشي.

قالوا: ما أغراضه؟ 

قلت: من أهمها: الوصف، والمدح، والفخر، والرثاء، والهجاء، والغزل، والنسيب، والخمر، والزهد، و الحكمة، والجود، والضيافة، وغيرها من مكارم الأخلاق، وسار الشعر الجاهلي على منحى واحد في الأوزان والقوافي، غير متحول عنه ولا متبدل تبدلا، يستهل بالوقوف على الأطلال والبكاء على الديار، ثم وصف الرحلات والإبل والفرس والصحراء والتغني بجمال الطبيعة وقسوته، ثم الانتقال إلى الغرض الحقيقي الذي نظم من أجله، وقد أعرب بعض الشعراء تبرمهم بذلك الاستهلال، يقول عنترة:

هل غادر الشعراء من متردم

أم هل عرفت الدار بعد توهم

ويقول كعب بن زهير:

ما أرانا نقول إلا مُعاراً

أو مُعاداً من قولنا مَكْرورا

قالوا: ما فائدة دراسته؟

قلت: لها فائدتان جليلتان:

الأولى: نطّلع من خلال الشعر الجاهلي على أحوال العرب وحضارتهم، وقديما قيل: الشعر ديوان العرب، فهو يصور طبيعة حياتهم الاجتماعية والدينية والسياسية والفكرية، وميولهم واتجاهاتهم، الأمر الذي يساعدنا في فهم كثير من آي القرآن الكريم التي تعرضت لمعتقدات العرب في جاهليتهم وسننهم وعاداتهم استنكارا لها وذمًّا، أو تنبيها إليها وإيعازا، أو إصلاحًا لها وتصحيحًا.

والثانية: نستعين به على استيعاب لغة القرآن الكريم وأساليبه، فقد نزل بلغة أولئك العرب وأساليبهم، والشعر ديوانها ومخزنها، يعرف به طرقهم في الخطاب وأفانين كلامهم، ويستدل به على معاني الكلمات ومناحي البيان، قـال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "إذا خفِيَ عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعرِ، فإنّهُ ديوان العرب"، وكان ابن عباس يُسأل عن القرآن فيُنشد فيه الشعر. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أيها الناس تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم فإن فيه تفسيرَ كتابكم".

قالوا: من علمك الشعر الجاهلي؟

قلت: شيخنا محمد الرابع الحسني الندوي، قالوا: أفدنا بترجمته.

قلت: هو العلامة الشريف الأديب الأريب الناقد البصير محمد الرابع بن رشيد أحمد بن خليل الدين أحمد بن رشيد الدين بن سعيد الدين صابر بن غلام جيلاني بن محمد واضح بن محمد صابر بن آية الله بن عَلَم الله الحسني العلوي، ابن أخت شيخنا الإمام أبي الحسن علي الندوي رحمه الله تعالى.

ولد سنة تسع وأربعين وثلاث مائة وألف من الهجرة النبوية في دائرة العالم الرباني علم الله البريلوي، وهي ضاحية من ضواحي بلدة رائي بريلي على بعد ثمانين كلومترًا من لكنؤ، نشأ في بيته الذي يمتاز بالشرف، والطهارة، والعلم، والعمل، وأتم دراساته العالية والعليا في دار العلوم لندوة العلماء، وتخرج فيها سنة سبع وستين وثلاث مائة وألف، ورحل إلى الحجاز سنة إحدى وسبعين وثلاث مائة وألف، وقضى بها أكثر من عام ينهل من منابع العلم والأدب، ويستفيد من العلماء والصالحين، ويزور المكتبات والخزائن العلمية، وتخصص في الأدب العربي وبرع فيه وتقدم وفاق الأقران حتى عرف به، واعتنى بتاريخ البلدان العربية، وعلم الاجتماع التربوي اعتناء كبيرًا قلما يوجد له نظير، إلى جانب إلمامه بعلوم التفسير والحديث، ومما منّ الله تعالى عليه أنه حصل على إجازات ثلاثة من أكابر مسندي زمانهم: الإمام أبي الحسن علي الحسني الندوي، والمحدث الكبير العالم الرباني محمد زكريا الكاندهلوي، والإمام الحافظ عبد الفتاح أبو غدة رحمهم الله تعالى.

عيّن أستاذا مساعدًا في كلية اللغة العربية وآدابها في ندوة العلماء سنة ثمان وستين وثلاث مائة وألف، ثم اختير رئيسًا لها سنة اثنتين وثمانين وثلاث مائة وألف، وعمل مديرًا لدار العلوم لندوة العلماء منذ سنة ثلاث عشرة وأربع مائة وألف إلى أن توفي الإمام أابو الحسن الندوي ثالث عشري رمضان سنة عشرين وأربع مائة وألف، فاختير خلفًا له في رئاسة ندوة العلماء.

ومما ألفه "الأمة الإسلامية ومنجزاتها"، و"التربية والمجتمع"، و"الثقافة الإسلامية والواقع المعاصر"، و"منثورات في أدب العرب"، و"الأدب العربي بين عرض ونقد"، و"تاريخ الأدب العربي (العصر الإسلامي)، و"الأدب الإسلامي وصلته بالحياة"، و"محتار الشعر العربي"، و"العالم الإسلامي اليوم"، و"روائع من الأدب الإسلامي القديم"، و"المسلمون والتربية"، و"موافقات ومفارقات في المدنية الغربية"، و"الدين والأدب"، و"جزيرة العرب"، وغيرها من المؤلفات القيمة باللغتين العربية والأردية إلى جانب المآت من المقالات والبحوث العلمية والأدبية.

وشيخنا - حفظه الله تعالى - على طريقة السلف الصالحين في علمه وعمله، وورعه وتقواه، وعفافه وغناه، وزهده وإخلاصه، وتواضعه وفضله، وشرفه وسؤدده، ورجاحة عقله، وحلمه وتأنيه، واتزانه واعتداله، وإني صحبته منذ أكثر من عشرين عامًا فما وجدت أحدًا من العلماء والطلاب في دار العلوم لندوة العلماء وخارجها يغمزونه في شيء من العمل والخلق.

وقد تشرفت بعدة رسائل منه كتبها إلي، معظمها تتعلق بنصائحه حول إقامتي في بريطانيا واستفادتي العلمية، وسمعت منه الحديث المسلسل بالأولية في منـزلي بأوكسفورد رابع جمادى الآخرة سنة إحدى وعشرين وأربع مائة وألف، وكتب لي إجازته، وحضرته في تكية كلان برائي بريلي في شهر رمضان سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة وألف، واعتكفت معه العشر الأخيرة، واستمعت إلى خطاباته، وأخذت منه المسلسل بالأولية، والمسلسل بالمصافحة، والمسلسل بالأسودين التمر والماء. كما قرأت عليه أشياء من كتابه "الأدب العربي بين عرض ونقد" مع شرح منه لكل جزء من أجزائه شرحًا وافيًا والإفادات العلمية والأدبية الكثيرة التي قلما تجتمع في كتاب، وقرأت عليه معلقة امرئ القيس ومعلقة طرفة بن العبد، وأملى علينا كتابه "التربية والمحتمع" الذي لخّص فيه النظريات الاجتماعية القديمة والحديثة مع تطبيقها في المجتمعات الإسلامية.

وشيخنا قدوة مُثلى لتلاميذه في دار العلوم من الناحيتين العلمية والعملية، يخص كل واحد منهم بقسط من عنايته واهتمامه، في شرف أصيل وتواضع جميل، فلا هزل ولا سخف، ولا تعالي ولا كبرياء، وإنما القرب والألفة وشفقة الوالد على أبنائه.

قالوا: كيف شرحه للشعر الجاهلي؟

قلت: يركز خلال شرحه على النقاط التالية:

الأولى: يتحدث بشكل مسهب عن العصر الجاهلي: أرض العرب، وجغرافيتها، وقبائلها، وخصائصها، وقيمها.

الثانية: يتحدث عن الشاعر الذي ندرس شعره، مثلا يتحدث عن امرئ القيس، وأصله، وبيئته، واهتماماته.

الثالثة: يتحدث عن معلقته، أغراض امرئ القيس الشعرية فيها، والمناسبة التي قاله فيها.

الرابعة: يحلل أبيات المعلقة تحليلاً لغويا وأدبيا، شارحًا معاني المفردات الصعبة، ومعربًا لبعض الكلمات، وموضحًا أسلوب امرئ القيس في إيصال فكرته، ومبديا رأيه في كل بيت من أبياتها. 

الخامسة: وفي نهاية المعلقة يلخص بأسلوبه الخاص الأفكار الرئيسة الواردة فيها، ويستنتج أثر هذه المعلقة في نفوس العرب، بل والمستمعين بصفة عامة.

قالوا: قد ذكرت من عفة شيخك وورعه، فكيف شرح لكم أبيات معلقة امرئ القيس الخليعة التي استهتر فيها استهتارا؟ 

قلت: كان حيياً كريما حين تدريسه، فلم يشرح لنا تلك الأبيات، وتجاوزها قائلا: استشرحوها أنتم.

قالوا: ما هي الأبيات التي تركها من دون شرح، مارًّا عليها مرور الكرام؟ قلت: هي قوله:

ويَـومَ دَخَـلتُ الـخِدرَ خِدرَ عُنَيزَةٍ

فـقالَت لَـكَ الـويلاتُ إنَّكَ مُرجِلِي

تـقولُ وقَـد مـالَ الـغَبِيطُ بِنا مَعًا

عَقَرَتَ بَعِيري يا امرأَ القَيسِ فانزِلِ

فـقُلتُ لَـها سِـيرِي وأَرخِي زِمامَهُ

ولا تُـبعِديني مِـن جَـنَاكِ المُعَلَّلِ

فَـمِثلِكِ حُـبلَى قد طَرَقَتُ ومُرضِعٍ

فَـأَلهَيتُها عَـن ذي تـمائِمَ مُـحوِلِ

إذا مـا بَكَى مِن خَلفِها انصَرفَت لَهُ

بِـشَقٍّ وتَـحتي شِّـقُها لـم يُحَوَّلِ

وقوله:

فَـجِئتُ وقَـد نَـضَّت لِـنَومٍ ثِيابَها

لَـدَى الـسِّترِ إلاَّ لِـبسَةَ المُتَفَضِّلِ

فـقالت يَـمينُ اللهِ مَـا لَـكَ حِيلَةٌ

ومـا إن أَرَى عَـنكَ الغَوايَةَ تَنجَلِي

خَـرَجتُ بِـها تَـمشي تَجُرَّ وَرَاءَنا

عَـلَى أَثَـرَينا ذَيـلَ مِـرطٍ مُرَحَّلِ

فَـلَمَّا أجَـزنا سَـاحَةَ الحَيِّ وانتَحَى

بِـنا بَـطنُ خَبتٍ ذِي حِقافٍ عَقَنقَلِ

هَـصَرتُ بِـفَودَى رَأسِها فَتَمايَلَت

عَـليَّ هَـضِيمَ الكَشحِ رَيَّا المُخَلخَلِ

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين