لقاء مع الناجين من جرائم الخمير الحمر

كان من أهم أهدافي لزيارة "كمبوديا" هو التعرف على تجربة تعافي المجتمع من جرائم الخمير الحمر .

أكبر المعالم القائمة لتلك الفترة المظلمة هو معتقل " تيول سلينج " في وسط العاصمة الكمبودية "بونم بن" والذي كان مدرسة وحوَّله الخمير الحمر إلى مركز من مراكز الاعتقال والاستجواب والتعذيب.

بعد سقوط الخمير الحمر بالغزو الخارجي الفيتنامي، اقتحم الناس ذلك المكان فوجدوا أربعة عشر ميتاً تم دفنهم في ساحة المدرسة ، ووجدوا قليلا من الأحياء لم يعد باقيا منهم على قيد الحياة سوى اثنين فقط.

سعيتُ للقاء الناجيين الاثنين، وتم اللقاء .

لم أكن مهتماً بالسماع منهما عن ما كان يحدث من جرائم في هذا المعتقل الرهيب، فتلك الروايات مسطورة ومصورة في المعتقل الذي تحول إلى متحف.

والخمير الحمر الذين امتد حكمهم من عام 1975 إلي عام 1979 ارتكبوا جرائم يصعب حتى تخيّلها ؛ حيث قاموا بإخلاء العاصمة والمدن الكبرى وأرسلوا أهلها إلى معسكرات العمل في المزارع، وأغلقوا المدارس والجامعات، وفرضوا زياً موحدا ؛ بل وجبة موحدة تقدمها الدولة عبارة عن قليل من الأرز وماء فقط (ومازال الكمبوديون يسمون هذه الأكلة "بول بوت".)، ومن جراء تلك التصرفات هلك أكثر من مليون ونصف من السكان.

والعجيب أنها لم تكن تصفية قبلية كما كان بين الهوتو والتوتسي في رواندا، ولم تكن تصفية عرقية ودينية كما حدث من الصرب ضد البوسنة . فالخمير هو العرق الذي يتألف منه المجتمع الكمبودي عدا قلة من التشام المسلمين وأقل ممن ينتمون لأصول صينية أو فيتنامية .

أما مبرر الإبادة العجيب فكان وراءه الأيديولوجية الشيوعية ذات الرؤية الخاصة لـ "بول بوت" زعيم الخمير الحمر والذي عاد لبلاده بعد تلقي تعليمه في فرنسا .!

المهم كنت مهتماً بأن أسمع منهما عن تجربتهم وغيرهم في العودة للتعايش في مجتمع تحول فيه الابن إلى مُعَذِب أو قاتل لأبيه والجار لجاره والزميل لزميله .

وما خلصت له من إجاباتهم، هو بذاته ما خلصت له من إجابات من قابلتهم من المسلمين في البوسنة والهرسك بعد انتهاء الحرب .

الناس مهما بلغت بهم تلك المحن من قسوة يعودون للبحث عن استمرار الحياة، وفي سبيل ذلك يعضون على الجراح، ويحاولون نسيانها أو التعايش معها .

وحتى محاكمات مرتكبي الجرائم لم تتم إلا بعد ثلاثين عاماً من انتهاء حكم الخمير الحمر ، وكان زعيمهم قد لقي حتفه في الغابات التي كان هارباً فيها.

تجوَّلت في المدن والقرى فوجدت أناساً في غاية الطيبة والتسامح، أراقبهم وأنا أسأل نفسي كيف مرّ زمن على هؤلاء الطيبين وهم يقتلون ويعذبون بعضهم بعضاً.

وأجيب ممِّا نراه حولنا من تجارب: إنها القيادات الفاجرة التي تقود شعوبها بالدعاية الكاذبة لتمزيق المجتمع بالشحناء والبغضاء والقتل.

سألت مرافقي الشاب الكمبودي المسلم عن ذكريات عائلته عن تلك الفترة فقال: مازال الآباء والأجداد يورثوننا كراهية تلك الفترة، والرعب من إمكانية عودتها مرة أخرى ، والسياسيون في بلادنا يستغلون ذلك وكل منهم يصوِّر نفسه على أنه حائط الصدّ الذي يمنع تكرار تلك الفترة .

ونحن- المسلمين- عانينا مثل كل المجتمع الكمبودي من تلك الفترة، وإن كانت شهادة بعض ممَّن تم محاكمتهم، أثبتت قيامهم بالتصفية الممنهجة للمسلمين.

قلت له : ألا يذكر الناس لبول بوت ورفاقه أية حسنة .؟

قال: برغم أن بعضاً من معاصريه افتتنوا به ، إلا أن أفكار الناس الآن تطورت نحو طلب المزيد من الحرية.

نحن نكره "بول بوت" وأمثاله من أعداء الحرية .

إننا بشر نحب الحرية.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين