مفهوم القبيلة في الإسلام بين الرَّابطة الإيجابيَّة والعصبيَّة المَقيتة

 

لم أَشْغَلْ نفسي في يومٍ من الأيَّام بالبحث عن تفاصيل القبيلة التي أنتسبُ إليها ولا تاريخها، ولم أُشغفْ كثيراً بالتَّغنِّي بأمجادها وأيَّامها الخالدة.

وأعتقدُ جازماً أنَّ مظلَّة الإسلام أعلى وأرفعُ من كلِّ مظلَّة، ولباسَ التَّقوى أجملُ وأبهى من كلِّ لباس.

إنَّ الإنسانَ بأخلاقه وعلمه وفكره يُشرِّفُ القبيلةَ ويرفعُ ذكرها، ولن تستطيعَ قبيلةٌ مهما قويت شوكتُها وعظُم حجمُها أن تستر عورةَ رجلٍ أرخصَ نفسه للشَّهوات، وباعَ كرامته بدراهمَ معدوداتٍ، وعاشَ على هامش المجد والإنجازات.

لقد ورد في الأثر أنَّ رجلاً انتسبَ إلى تسعة أجدادٍ من الكفَّار فكان هو عاشرهم في النَّار، ورجلاً وقف عند رجلين مؤمنين لا يعرف من وراءَهما فكان هو ثالثهما في الجنَّة. (أحمد).

أبي الإسلامُ لا أبَ لي سواه ... إذا افتخــــــــروا بقيسٍ أو تميم

ودعونا ننتقلُ من هذه المقدَّمات النَّظريَّة لنسألَ أنفسنا سؤالاً هامَّاً وهو:

ألم يكن النِّظامُ القبليُّ أمراً واقعاً أفرزته البنية المجتمعيَّة في البيئة العربيَّة منذ عشرات القرون وحتَّى يومنا هذا؟ فهل الحكمةُ تكونُ في التنكُّر له ومحاربتِه أم في ترشيده وتوظيفه في خدمة البناء الحضاريِّ والقيميِّ في أيِّ مجتمع؟

إنَّ المتأمِّلَ في نظرة الإسلام إلى دائرة القبيلة يجد المعطيات الآتية:

1- لقد أقرَّ الإسلام النِّظام القبليَّ، واعتبره جعلاً إلهيَّاً لا عرفاً بشريَّاً فحسب، وهو أداةٌ مكينةٌ لتحقيق التَّعارف الإنسانيِّ والتَّلاقي الحضاريِّ في المجتمعات، قال تعالى: (يا أيُّها النَّاسُ إنَّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائلَ لتعارفوا إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم إنَّ الله عليمٌ خبير) (الحجرات: 13).

قال بعض المفسِّرين: الشُّعوبُ بطونُ العجم، والقبائلُ بطونُ العرب، وقال آخرون: إنَّ مفهوم القبيلة هو الخطوة المرحليَّة التي تُوصِلُ إلى مفهوم الشَّعب.

2- لقد كانت القبيلة هي الحضن الدَّافئ لولادة الدَّعوات، وهي السِّياج المكين لحماية الرِّسالات، ومنع يد الكفر والإجرام من المساس بها والإجهاز عليها، وقد كان النِّداء الأوَّل الذي سمح للدَّعوة أن تخرج من دار الأرقم إلى الدَّائرة الأوسع هو قوله تعالى: (وأنذِرْ عشيرتكَ الأقربين) (الشُّعراء: 214)، ومن قرأ السِّيرة النَّبويَّة علم كم هابت قريشٌ بني هاشم، وكم هابت العربُ قريشاً. 

وقديماً خاطب قومُ شعيبٍ نبيَّهم فقالوا له: (... وإنَّا لنراكَ فينا ضعيفاً ولولا رهطك لرجمناك) (هود: 91).

3- لقد أقرَّ الإسلام الأعراف القبليَّة السَّليمة التي تتوافق مع ضوابطه ومقاصده ومنها الكفاءة في الزَّواج، والدِّية على العاقلة، ومبادئ التَّكافل الاجتماعي، وحارب الأعراف القبليَّة الفاسدة كالثَّأر والعصبيَّة والتَّفاخر بالأنساب.

4- كان النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يستثمر حالةَ الاستقطاب القبليِّ ودافعَ الحماس للقبيلة في الجوانب الإيجابيَّة، وذلك كتقسيم النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - كتائب الجيش المسلم، وعقده ألوية الحرب وراياتها بالنَّظر إلى التَّجمُّع القبليِّ، ومن أمثلة ذلك ما جرى في فتح مكَّة فقد أعطى الألوية والرَّايات لأسلم وسليم ومزينة وغِفار وجهينة وكعب وغيرها.

إنَّنا أمام هذه المعطيات نقرِّرُ حقيقةً هامَّةً وهي أنَّ القبيلة في منهج الإسلام لا تُمدح لذاتها ولا تذمُّ لذاتها، ولكنْ باعتبار كيفيَّة توظيفها ومقدار أثرها في صلاح المجتمع وبناء نسيجه وتقوية مناعته.

وينبغي أن نعلم يقيناً أنَّ هناك فرقاً كبيراً بين الانتساب إلى القبيلة وبين التَّعصُّب لها. 

إنَّ الإسلام يبغضُ العصبيَّة ويحارب جذورها، ويرفضُ أن يكون التَّمايز بين البشر والافتخار فيما بينهم على أساس الدَّوائر الضَّيِّقة، بل يَنصحُ النَّاس أن يرجعوا في تمايزهم إلى معايير التَّقوى والعمل الصَّالح فهما أصل الكرامة وسبب الارتفاع. 

وبوسع الإنسان أن يتخيَّل موقف النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو يتَّجه مهرولاً إلى نفرٍ من أصحابه تشاجروا فيما بينهم؛ ليقولها لهم عاليةً مدوِّيةً: (ما بالُ دعوى الجاهليَّة؟ دعوها فإنَّها منتنة) (متَّفقٌ عليه). 

إنَّها المسارعةُ الحثيثةُ إلى وأد روح العصبيَّة في مهدها وصرختها الأولى، وهكذا في كلِّ مرَّةٍ تحاولُ هذه الظَّاهرة المرَضيَّة الخطيرة أن تُطلَّ برأسها. 

ومن دعوى الجاهليَّة أن تقيم من العصبيَّة للقبيلة ميزاناً توالي وتخاصم عليه، وتحتقر وتزكِّي عليه، وتقاتل وتصالح عليه.

وكم هو قبيحٌ موقف هذا الشَّاعر الذي بلغت به العصبيَّة أن يقول:

وما أنا إلَّا من غزيَّة إن غوت ... غويتُ وإن ترشدْ غزيَّةُ أرشدِ

وأسألُ نفسي كم هو البونُ شاسعٌ بين موقف هذا الشَّاعر وموقف الفاروق عمر - رضي الله عنه - وهو على فراش موته يقول: "يا علي أنشدك الله إن وُلِّيتَ من أمور النَّاس شيئاً أن تحمل بني هاشم على رقاب النَّاس، وأنشدك الله يا عثمان إن وُلِّيتَ من أمور النَّاس شيئاً أن تحمل بني أبي معيطٍ على رقاب النَّاس، وأنشدك الله يا سعد إن وُلِّيتَ من أمور النَّاس شيئاً أن تحمل أقاربك على رقاب النَّاس". 

وآخر يقول:

لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النَّائبات على ما قال برهانا

فيكفيك أن تكون من أفراد قبيلةٍ معيَّنةٍ حتَّى تُنصر وتُعان، ولتكن بعدها كاذباً أو ظالماً أو معتدياً لا يهمُّ.

ألا قاتلَ اللهُ العصبيَّة ما أشدَّ فتكها بعقول الرِّجال وحكمتهم، وقد رُوي عن النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قوله: "ليس منَّا من دعا إلى عصبيَّةٍ، وليس منَّا من قاتل على عصبيَّةٍ، وليس منَّا من مات على عصبيَّةٍ" (أبو داود).

وقال أيضاً: "من قُتِل تحت رايةٍ عِمِّيَّةٍ يدعو عصبيَّةً، أو ينصر عصبيَّةً فَقِتْلةٌ جاهليَّةٌ" (مسلم).

وإذا كان ابن خلدون يجعل من العصبيَّة القبليَّة والمال دعامتين أساسيَّتين في قيام الدَّولة ونشوء الملك فمن المؤكَّد أنَّه يقصد بالعصبيَّة تلكمُ الرَّابطة الاجتماعيَّة الضَّاغطة التي تجمع أفراداً من النَّاس تحت غطاءٍ سياسيٍّ يقوم على مبادئ التَّلاحم والمحاماة ونظام السَّمع والطَّاعة.

وأحبُّ أن أشير في الختام إلى أنَّ نظام القبيلة كان هو النِّظام الأمثل الذي وصل إليه الفكر السِّياسيُّ والنَّسق الثَّقافيُّ في حينه، وذلك في ظلَّ غياب ثقافة الدَّولة وأسسها الحديثة، لكنَّ الواقعَ المعاصرَ نقل العقلَ العربيَّ من فكرة القبيلة إلى فكرة الوطن والمواطنة، ومن رابطة أفراد القبيلة إلى رابطة أبناء الشَّعب وصولاً إلى تعميق وتعزيز مفهوم الأمَّة الواحدة.

يا شبابَ وفتياتِ الإسلام: من الضَّروريِّ أن يكون لكم نشاطٌ اجتماعيٌّ أو سياسيٌّ مادام منضبطاً واضحَ المعالم والعواقب، ولكن إيَّاكم والعصبيَّةَ فإنَّها وباءٌ إذا استحكمَ في العقل أهلكه، وإذا استحكمَ في المجتمع أفسده.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين