الذين يقاطعون الله !

 ما فينا أحد إلا وأصابه أذى من الناس، قَلَّ أو كَثُر، حتى من أقرب الناس إليه، غيرَ أننا نصبر على أذى الذين نحبهم ونتجاهل قليلَ سيّئاتهم مقابل حسناتهم الكثيرة. فكروا بالوالدِين والأولاد والإخوة والأخوات والأزواج والزوجات: هل هم راضون بعضهم عن بعض الرضا الكامل؟ مُحال، فالكمال لله وحده، وهو لم يَخلق مَن لا يخطئ، إلا أننا في -علاقاتنا بعضنا ببعض- نغفر حَصَىً من السيئات في جنب جبال من الحسنات.

 أليس غريباً أن بعض الناس يطبقون هذا القانون مع غيرهم من الناس ثم يخالفونه مع الله، فهم يتسامحون مع الناس ولا يتسامحون مع الله؟! هؤلاء قوم يتقلّبون في نِعَم الله الأيامَ الطوال، فإذا أصابهم في يوم من الأيام مُصاب نسوا نِعَم الله وانقلبوا عليه: {وإنّا إذا أذقنا الإنسانَ منّا رحمة فرح بها، وإنْ تُصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كَفور}، {ولئن أذقنا الإنسان منّا رحمةً ثم نزعناها منه إنه لَيَؤوسٌ كَفور، ولئن أذقناه نَعماء بعد ضَرّاء مَسَّتْه لَيقولَنّ ذهب السيئات عني، إنه لَفرِحٌ فخور}.

  * *

 لوأن أحداً أعطاك وأخذ منك بمقدار ما أعطاك لقلتَ إنه عادل ولما تجرأت على اتهامه بالظلم، فكيف لو أعطاك أضعافَ أضعافِ ما أخذ؟ لقد جعل الله الآخرة دار نعيم وعطاء، ولو أراد العدل لجعل الدنيا دار أخذ وبلاء وحسب، ولو فعل لتجاوز العدل إلى الإحسان، لأن الدنيا قصيرة فانية والآخرة طويلة باقية، لكنه أبى على نفسه إلا الزيادة في التفضل والإحسان، فجعل الآخرة دار عطاء مطلق والدنيا دار أخذ وعطاء.

 ولو شاء لطبق علينا في الدنيا قانوناً عادلاً فأخذ منّا بمقدار ما أعطانا، غيرَ أنه لم يفعل. لأنه رحيم فإنه يطبق قانوناً منحازاً لصالح الطرف الأضعف، الإنسان، فما يعطيه كثيرٌ كثير، وما يأخذه قليلٌ قليل. ولأنه حليم فإنه يصبر علينا ولا يبادرنا بالعقوبة: {ولو يؤاخذُ الله الناسَ بظلمهم ما ترك عليها من دابة}، ولأنه غفور فإنه يؤاخذنا بالقليل ويعفو عن الكثير: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم، ويعفو عن كثير}.

  * *

 أعطاك الله في كل يوم أربعاً وعشرين ساعة ثم قال: أعطني منها واحدة للصلاة واصنع ما شئت بثلاثٍ وعشرين، نَمْ وكُلْ واعمل واكسب والعب وتمتّع بأنواع الحلال. أعطاك اثنَي عشر شهراً في السنة ثم قال: اترك من أجلي طعامك وشرابك نصفَ يوم في شهر منها ثم كُلْ واشرب في ليالي الشهر وفي أيام سائرها كما تشاء. أعطاك أربعة آلاف دينار ثم قال: احتفظ لنفسك بثلاثة آلاف وتسعمئة وأعِدْ لي مئة، أنفِقْها على المحتاجين والمساكين.

 ربما ابتلاك الله بأسبوع من المرض ووهبك عاماً من الصحة، ربما ابتلاك بخسارة آلاف ورزقك غيرها مئات آلاف، ربما أعطاك سبعة أولاد ثم استرجع منهم ولداً وأبقى سائر الأولاد، ربما أخذ منك حاسّة وأبقى لك بقية الحواس... في كل الأحوال أنت -أيها الإنسان- الطرف الرابح، لأن ما أخذه الله منك أقلّ من الذي وهبك بما لا يُقاس.

 * * *

 في الناس قوم يعبدون الله على حرف، إذا أخذ منهم قليلاً مما وهب عقّوه وقاطعوه فكفروا به وتركوا عبادته! هؤلاء ينسون أنهم الطرف الأضعف، والطرف الأضعف يصبر ولو كان القويُّ ظالماً معتدياً، فكيف والقوي هو المعطي الغفور الكريم الرحيم؟ إن من أعطاك الكثير يستطيع أن يأخذ منك كل ما أعطاك، فإذا وهبك أولاداً ثم أخذ منهم واحداً فعققتَه فما يمنعه أن يأخذ الباقين؟ الذي رزقك أموالاً ثم نقص منها شطرَها أو ربعها أو عُشرها فأعرضت عنه وجحدته، ما يمنعه أن يأخذ منك كل ما منحك من مال، وربما أخذ مع المال غيرَه من النِّعَم والهِبات والأعطيات؟

 إن مَن يصنع ذلك مع الله ينسى أنّ لحظةً قادمةً لا محالة، لحظة سيحتاج فيها إلى الله الذي عقَّه وقاطعه، فماذا سيصنع عندها؟ فيا أيها المؤمنون: لا تكونوا من الجاحدين الذين ينسون نعيم الله وفضله العميم إذا أخذ منهم نعمة كان أنعمها عليهم في وقت من الأوقات. اشكروا الله على ما وهب واحمدوه على ما أبقى بعد الذي أخذ، تعيشوا في الدنيا راضين عن أنفسكم وتَفِدوا على الله وهو راض عنكم يوم الدين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين