معنى الإيجابية وكيف نحققها في حياتنا (2)

إن لثقافة المجتمع دوراً أساسياً في صناعة الإيجابية أو تعطيلها، سئل الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله- هل الإنسان مخيّر أو مسيّر؟ فأجاب بطريقته اللاذعة: الإنسان الغربي مخيّر، والإنسان الشرقي مسيّر، الغربي علم أن لديه إرادة وقدرة على العمل والإنتاج فعمل وأنتج، والشرقي لا زال يسأل هل لديه إرادة وقدرة على الاختيار أو أنه يعيش في مسلسل مفروض عليه لا يملك فيه شيئا؟ 

نعم هذا نموذج للمشكل الثقافي الذي يدمر كل معنى للإيجابية، ويغذّي في المجتمع روح السلبية القاتلة والرغبة بالتنصل من أية مسؤولية. 

طالب ينهض للمذاكرة استعداداً للامتحان، فينصحه زميله: لماذا تتعب نفسك، صدّقني لن يكون إلا ما هو مكتوب لك! 

يتزوج الولد وتتزوج البنت دون تحرّ عن شخصية الآخر وأخلاقه وطريقة تعامله، وبعد أيام تتعكّر العلاقة فيسارعان إلى الفسخ بنفس الطريقة، ويكون الخطأ ليس من الولد ولا من البنت وإنما من الحظ والنصيب! 

شاب متهوّر يخالف قواعد المرور ويعمل الكوارث ويزهق الأرواح، ثم يأتي المجتمع ليحيل هذا العبث إلى القدر. 

يجلس الشيخ في مثل هذه المناسبات ليؤكّد في مواعظه أنكم جميعاً على خير، وأن هذه ابتلاءات لا بد منها، وما عليكم إلا التسليم والقبول والرضا. 

هذه الثقافة نفسها نراها على المستوى الأكبر، فالقرارات التي تتخذها الأنظمة الحاكمة والجماعات العاملة والتي قادت إلى سلسلة من الكوارث، كلها تحال إلى الغيب، ولا نلمس في ثقافتنا ما يدعو إلى المراجعة والتقويم أو المساءلة والمحاسبة! 

إن القرآن الكريم الذي ذكر القدر غيباً، ذكر أن المسؤولية فرضاً وأمراً وثواباً وعقاباً، فقال تعالى (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)، وقال: (كل امرئ بما كسب رهين)، وقال: (ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به) وقال: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرّاً يره). وقال في الحديث القدسي: (يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفّيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله عز وجل، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه) رواه مسلم. 

أمام هذا البيان والتبيين الإلهي لا أدري كيف تسللت إلى ثقافتنا اليوم ثقافة أخرى تستند إلى الاحتجاج بالقدر تفسيراً وتبريراً وتنصّلاً عن المسؤوليّات مع أن القرآن ندّد بشدّة بأولئك الذين يلوذون بالقدر ويحتجون به فقال تعالى: (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا)، وقال أيضاً: (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء). 

إن الإيمان بالقدر هو إيمان مطلق بإرادة الله وقدرته وعدله وعلمه وحكمته، وهو من الإيمان الغيبي البحت (الذين يؤمنون بالغيب)، أما أعمالنا نحن البشر فهي خاضعة لسنن الله المعلومة في هذا الكون والتي تربط الأسباب بنتائجها، فالدواء يعالج المرض، والماء يروي من العطش، والمجتهد ينجح، والكسول يفشل، ثم كل تصرّفات الإنسان محكومة بقوانين معلومة وواضحة، وقابلة للقياس، فالصدق أمانة والكذب خيانة، والبيع حلال والربا حرام، ليس في الإسلام طلاسم ولا ألغاز. 

إن الاحتجاج بالقدر على سلوك البشر وتفسير الأحداث به مظهر للسلبية والهروب من الواقع وتحمل المسؤولية.

الحلقة الأولى هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين