هل هناك ترادف في القرآن؟

(هذه المقالة ضمن سلسلة مقالات تتحدث عن نقد الأسس الفكرية لمشروع المهندس محمد شحرور، وقد زعم المدعو: محمد شحرور بأنّ منع الترادف سيؤدي إلى هدم الفقه الإسلامي، فجاءت هذه المقالة لتفنيد هذا الزعم. فإلى المقالة:)

 

لفت نظري منذ مدّة أنّ الكثير من أتباع الكاتب السوري محمد شحرور يدندنون كثيرا على ما يظنّونه اكتشافا عبقريا لشحرور، وهو قوله بامتناع وجود ترادف في القرآن الكريم، بل يعتبره بعضهم أهمّ ما في منهجه في فهم القرآن، أي منهجه في إعادة فهم الإسلام من جديد، والتوصّل إلى ما يخالف ما أجمع عليه الصحابة ومن بعدهم من أئمة اللغة والدين. (كتبت في نقد منهج شحرور في فهم القرآن تدوينة بعنوان "كيف يحرّف محمد شحرور القرآن؟"). بل قد نسب محمد شحرور للإمام الشافعي وضْعَ أسس "الإسلام الذي بين أيدينا اليوم" على حدّ تعبيره، زاعمًا أنّ الفقه الإسلامي الذي وضع أسسه الإمامُ الشافعي قام على أساس وجود الترادف، وقال: "إذا ألغيتَ الترادف من التنزيل الحكيم فإنّ الفقه يُصاب في مقتل وينهار مباشرة"!

وهذا الكلام من شحرور وأتباعه إنّما يدلّ على جهل بعلوم العربية وبالتراث الإسلامي؛ فمن علماء الأمة المتقدّمين من قال بمنع الترادف وكتب فيه وأصّل، فهو قول قديم جدا، كان من هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر الحكيم الترمذي (توفي نحو 320 هجرية) الذي كتب كتابا كاملا حول هذا الموضوع بعنوان "الفروق ومنع الترادف"، بيّن فيه الفرق بين 156 زوجًا من الألفاظ العربية التي تحمل معاني وقيمًا متضادة رغم إيهام التشابه؛ كالفرق بين المداراة والمداهنة، والمحاجّة والمجادلة، والمناظرة والمغالبة، والمقايسة والمشاكلة وغيرها. فالحكيم الترمذي هو أحد أهمّ المنظّرين لهذا المذهب من علماء الدين، وأحد المهتمين بالاشتقاقات اللغوية وبربط معاني ألفاظ القرآن والحديث بأصل الوضع اللغوي لكل لفظ، وهو مع ذلك من أئمة الدين والحديث المتمسّكين بثوابت الشرع وما أجمع عليه الصحابة، ولم يدفعه القول بمنع الترادف إلى التوصّل لما توصّل إليه شحرور من الطعن بثوابت الشريعة التي أجمع عليها الصحابة ومن تبعهم بإحسان.

ولقد ذهب عددٌ من أئمة اللغة قديما إلى منع الترادف ومنهم: ابن الأعرابي وثعلب والثعالبي وابن درستويه وابن الأنباري وأبو هلال العسكري وابن فارس وغيرهم، فلم نسمع أنّ مذهبهم هذا في منع الترادف قد أثّر في إعادة إنتاج إسلام جديد غير الذي عرفه الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقلوه جيلا بعد جيل. فالخلاصة أنّه ليس للقول بمنع الترادف أية علاقة بإعادة فهم أحكام القرآن ومعانيه بالشكل الذي يطرحه شحرور، وأنّ هذه الفكرة التي تسيطر على بعض أتباعه من أنّ نظرية "منع الترادف" هي أبرز ما في منهجه؛ إنما هي وهمٌ تصوّروه لقلّة بضاعتهم باللغة وبما كتبه أئمة العربية والدين منذ أكثر من ألف عام!

غير أنّ في الأمر تفصيلا ولا يمكن اختزاله في القول بوجود الترادف أو القول بمنعه هكذا مطلقا، فهذا اختزال مُخلّ لقضية ناقشها علماء العربية منذ أكثر من ألف عام، ولا زالت الدراسات تتناولها وتفصّل فيها.

النحويّون يبحثون عن "المعنى"، والبلاغيون يبحثون عن "الدلالة"

من خلال ما طالعتُ في هذه القضية خلصتُ إلى نتيجة مفادها أنّ الطرفين محقّان، كلٌّ في جانب من الجوانب، وأنّ وضعَ قوليهما موضع التعارض التامّ غيرُ صحيح؛ فحين تحدّث بعض اللغويين عن الترادف والتناوب، وبأنّ حرفا من حروف المعاني ينوب مكان حرف، كانوا يتحدّثون عن "المعنى"، فقالوا مثلا عن "على" في قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ}؛ إنّها تأتي بمعنى "مع"، وهي "على" للمصاحبة. وقالوا إنها تأتي بمعنى "عن" في قول الشاعر: "إذا رضيتْ عليّ بنو قشيرٍ"، وبمعنى "اللام" في قوله تعالى: {ولتكبّروا الله على ما هداكم}. وبمعنى "في" في قوله تعالى: {ودخل المدينة على حين غفلة}. وغير ذلك من معاني "على".

ولكن حين يتحدّث أهل البلاغة عن الغاية من استخدام "على" بمعنى "مع" أو "عن" أو "اللام" أو "في" أو غيرها؛ فإنّهم يذكرون دلالة هذا الاستخدام والغرض البلاغي منه. فالنحويون يبحثون عن المعنى، والبلاغيون يبحثون عن الدلالة، ولا تعارض بين المذهبين!

ولتقريب الفكرة أقول: إنّ الأمر- مع الفارق - كما لو قلنا "وسيلة نقل"؛ فالحافلة التي تذهب إلى القدس هي كالقطار الذي يذهب إلى القدس وكالسيّارة التي تذهب إلى القدس من حيث كونها جميعا "وسيلة نقل"، وهذا بمثابة "المعنى" المشترك بينها. ولكنّ اختيار أيّ من تلك الوسائل للذهاب إلى القدس له "دلالة" وسبب معيّن. وكذلك لو قلنا: "جاء إنسانٌ"، أو قلنا: "جاء بشرٌ". فإنّ المعنى مشترك باعتبار أنّ الجملة إخبارٌ عن مجيء آدميّ، فهذا هو المعنى الواحد الذي أدّاه لفظ "إنسان" ولفظ "بشر" في الجملتين. ولكنّ البلاغي يتساءل: ما دلالة اختيار كلمة "إنسان" هنا واختيار كلمة "بشر" هناك؟ فلكل اختيار دلالته البلاغية التي لا تقدح في المعنى العام، فالأصل الذي جاءت منه كلمة بشر هو غير الأصل الذي جاءت منه كلمة إنسان، وفي هذا ينقل السيوطي في كتابه "المزهر" عن التاج السبكي حكايته لمذهب منكري الترادف وقولهم عن الفرق بين لفظي الإنسان والبشر أنّ "الأول موضوع له باعتبار النسيان أو باعتبار أنه يُؤْنِس، والثاني باعتبار أنه بادي البشرة‏".

إثبات منع الترادف هو مسألة بلاغية، تدور في عالم "الدلالات"، ولكنها لا تؤدي إلى تغيّر جذري في فهم معاني النصوص.

فقد يكون الفرق بين العبارتين، لو افترضنا بلاغة القائل الفائقة، أنّ الأولى قيلت في أجواء وحشة، فكان لفظ "إنسان" هو الأكثر اتساقا مع نفسية القائل؛ لأنّ الذي جاء إنما جاء مؤنسًا لوحشته. وأنّ الثانية قيلت في أجواء تخوّف وترقّب في ظلام، فإذا قدم كائنٌ من بعيد كان الترقّب ممزوجا بالتساؤل عن ماهيّة القادم: أهو حيوان أم جانّ أم بشر؟ فإذا بدتْ للمترقّبين بشرتُه البادية بخلاف الحيوان المكسوّ بالشعر، قيل: جاء بشر! وليس المقصود من هذا المثال واقعية حدوثه بقدر ما نهدف إلى تبيان ما أردناه من الجمع بين "اتفاق المعنى" و"منع الترادف".

ولهذا فلستُ من الذين يفترضون وجود ذلك الفصام بين "النحويين" و"البلاغيين"، وإنما هم في الواقع يتحدّثون عن مساحتين مختلفتين من مباحث اللغة، فالنحويّ المشغول "بالجملة" (وهي مجال علم النحو) يبحث عن المعنى الإعرابي الذي يؤدّيه اللفظ في الجملة، مثلما في قوله تعالى {فبما رحمةٍ من الله لِنْتَ لهم}، قال النحويون عندما لم يجدوا تأثيرا نحويا لـ "ما" إنها "زائدة". أما البلاغيون، فلا يجدون حرفا زائدا في كتاب الله تعالى دون غرض، ومن ثمّ بحثوا عن سبب قوله "فبما رحمة" وليس "فبرحمة"، فمنهم من قال إنّ هذا لأغراض الفخامة والجزالة والفصاحة، أو كما قال ابن سنان الخفاجي: "فإنّ لها هنا تأثيرًا في حسن النظم وتمكينًا للكلام في النفس".

ومنهم من يتحدث عن "الإيحاء" الذي تعطيه هذه الزيادة، ومنهم من يتحدث عن الأثر الصوتي لهذه الزيادة المتّسق مع المعنى المراد. والقصد أنّه لا تعارض جوهريّا بين قول النحويين وقول البلاغيين، وأنهما يكمّلان بعضهما البعض، فالنحويّون يبحثون عن "المعنى"، والبلاغيّون يبحثون عن "الدلالة". وما أجمل قول ابن الإعرابي (توفي 231 هـ) حين أجمل هذا المعنى فقال، كما نقل عنه ابن الأنباري في "الأضداد": "كلُّ حَرْفين أَوْقعتْهُما العرب على معنًى واحد؛ في كلّ واحد منهما معنى ليس في صاحبه، ربَّما عرفناه فأَخْبَرْنا به، وربَّما غَمُض علينا فلم نُلْزِم العربَ جهله". فهو يثبت أولا الاشتراك في المعنى الواحد للفظين عند العرب ولا ينكره، ولكنّه يثبت أيضا معنى زائدا لكل لفظ ليس في اللفظ الآخر.

الخلاف حول الترادف لا يؤثّر جذريّا: الفرق بين "النطق" و"القول" نموذجًا

بقي أن نبيّن بأنّ ما ذكرناه من إثبات منع الترادف هو مسألة بلاغية، تدور في عالم "الدلالات"، ولكنها لا تؤدي إلى تغيّر جذري في فهم معاني النصوص. فحين فرّق علماء اللغة مثلا بين "القول" و"النطق" المذكورين في كتاب الله، لم يؤدّ ذلك بهم إلى جعل الرسول صلى الله عليه وسلّم كما يقول شحرور مجرّد "ناطق" مستدلّا بالاستخدام المعاصر "الناطق باسم وزارة الخارجية"! ليبني على هذا التفريق إنكار أي صفة تشريعية أو تفسيرية أو إخبارية عن سنّة الرسول صلى الله عليه وسلم، وليجعل الرسول مجرّد "مبلّغ".

فالرسول إلى جانب كونه مبلّغا جاء مبيِّنا للقرآن: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ ?لذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}، وجاء مزكّيا ومعلّما للكتاب والحكمة: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}، وهو في بيانه هذا للقرآن، وفي تعليمه للكتاب والسنّة لا ينطق عن الهوى، {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}. فالوحي من الله غير محصور بين دفتي المصحف، وحين كان صلّى الله عليه وسلّم يخبرهم بأنّ ربّه علّمه كيفية الصلاة، أو بأنّه أخبره بكذا وكذا من أخبار الغيب، أو بأنّ أمرا ما محرّمٌ عليهم ممّا ليس في القرآن؛ فقد كان ينطق عن وحي لا عن هوى، وقد كان في نفس الوقت يقول الحقّ. (بخصوص حجية السنّة راجع تدوينتنا بعنوان "القرآن وحده لا يكفي").

الفرق اللغوي الذي نثبته بين "نطق" و"قال" لا يترتّب عليه تغيير جذري في فهم آيات الكتاب والنصوص العربية عمومًا، وإنما هو فرق بلاغي، إذ تلائم كل مفردة منهما وضعها ضمن الجملة والسياق الذي وُضعتْ فيه.

ولهذا فالتفريق بين "نطق" و"قال" باعتبار أنّ "الله هو القائل، والناطق هو محمد صلى الله عليه وسلّم" كما يقول شحرور، وذلك ليصل إلى أنّ الرسل والأنبياء لا يأتون بشيء من عندهم غير الكتب السماوية، فهم مجرّد "ناطقين"، وصولا إلى إنكار "السنّة" النبوية وما فيها من أحكام وقيم وشرائع. أقول: إنّ هذا التفريق باطل، فنسبة النطق للنبيّ صلى الله عليه وسلّم لا تستلزم أن يكون نطقه هذا بما في كتاب الله فقط، بل ينطق مبيّنا للقرآن، وليس تاليًا أو مبلّغا له فحسب، وينطق معلّما للكتاب والسنّة، وهذا النطق كلّه وحيٌ يوحى وليس من عند نفسه.

كما أنّ "القول" في الدين لا يُنسب لله فقط، ولا تعني نسبة "القول" للنبيّ أنّه يقول من عند نفسه أو أنه منشئ هذه المقولة، فها هو نبيّ بني إسرائيل قد جاء فيه: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ? قَالُوا أَنَّى? يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ ? قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ? وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ ? وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}. فهل كان النبيّ يقول من عنده أم من عند الله؟ لقد "قال" الحقّ مبلّغا عن ربّه بما أوحى إليه، و"نطق" بالحقّ الذي أوحاه الله إليه.

والفرق اللغوي الذي نثبته بين "نطق" و"قال" لا يترتّب عليه تغيير جذري في فهم آيات الكتاب والنصوص العربية عمومًا، وإنما هو فرق بلاغي، إذ تلائم كل مفردة منهما وضعها ضمن الجملة والسياق الذي وُضعتْ فيه. ولو حاول القارئ العربي البسيط أن يضع "نطق" مكان "قال" في الآية السابقة، لتصبح الآية "ونطقَ نبيُّهم"؛ لشعر فورا بالاستهجان وبركاكة التعبير، هذا وهو قليل البضاعة بالعربية، ولكنْ في رصيد معرفتِه شيءٌ من تذوّقِ نَظْم العربية وبلاغتها جعله يشعر بهذا الاستهجان.

وممّا ينفي زعم شحرور أيضا أنّ الله عز وجل قد نسبَ "النطق" لنبيّه كما في قوله {وما ينطق عن الهوى}، ونسب إليه "القول" كما في قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ}، فكون القرآن قولَ الرسول لا يجعل الرسول منشئا له ولا يجعله صاحب القول، فهو قول الله عزّ وجلّ وكلامه، وهو في نفس الوقت "قول رسول كريم"، ففي وصف الرساليّة نفيٌ للشعر والكهانة، والرسول مخبر عن ربّه في قوله. فإذن؛ اختيار كلمة "قال" في مواضع وكلمة "نطق" في مواضع له دلالة بلاغية، ولكنه لا يحرّف المعنى ولا يغيّره تغييرا جذريّا، ولا يمكن أن نبني على هذا التفريق تلك الأوهام مثل إنكار السنّة أو جعل الرسل والأنبياء بمثابة "ناطقين رسميين" كما فعل شحرور.

إن موضوع الترادف موضوع متشعّب، فمن قالوا بوجود الترادف تباينوا في تعريفهم للترادف ما بين جزئي وكلّي، ومن قالوا بمنع الترادف منهم من اعترف ببعض الترادف الراجع إلى اختلاف لغات القبائل.

ومن اللطائف التي تنبّهتُ إليها في كتاب الله عزّ وجلّ أنّ النطقَ يأتي في سياق نفي أقلّ قدر من الكلام، كما في قوله تعالى عن أصنام قوم إبراهيم: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَ?ذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ}، فهو ينفي عنهم مطلق النطق، فضلا عن أن يكون لهم كلاما تامّا أو إخبارا بشيء. وكما قال على لسان إبراهيم وهو يخاطب آلهة قومه: {مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ}. وكما قال عن المشركين: {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ}، قيل: لأنّ أفواههم مختومة. وكذلك حين أراد الله أن ينفي عن نبيّه صلى الله عليه وسلّم تقوُّلَ القرآن وافترائه، وهو ممّا اتّهمه به الكفار كما في قوله: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ}، وقوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ}؛ ردّ عليهم في قوله تعالى {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى?}، فإذا كان قد نفى عنه مطلق النطق بالهوى، والنطقُ يكون بصوتٍ، فهو أحرى لنفي أي مقولة أو إخبار أو تشريع بالهوى؛ إذ نفيُ الأقلّ والسابق زمنيّا في عملية الكلام (مطلق النطق) أحرى لنفي الأكثر واللاحق زمنيّا (الكلام التامّ الذي يحتوي على أخبار وتشريعات)، وهذا من دقّة كتاب الله عزّ وجلّ.

****

أودّ أن أؤكّد أخيرا على أنّ موضوع الترادف موضوع متشعّب له تفصيل تقصر عنه مثل هذه التدوينة، فمن قالوا بوجود الترادف تباينوا في تعريفهم للترادف ما بين جزئي وكلّي، ومن قالوا بمنع الترادف منهم من اعترف ببعض الترادف الراجع إلى اختلاف لغات القبائل مع إنكاره للأنواع الأخرى.

ولكن الخلاصة أنّ هذا الخلاف كله لم يكن له تأثير جذري في الفقه الإسلامي، فالثوابت الشرعية المتفق عليها بين جميع العلماء، القائلين بالترادف وغير القائلين به، هي التي يريد بعضهم إنكارها تحت شعار "إنكار الترادف"؛ كحجيّة السنة، وأركان الإسلام، ومبادئ العقيدة، وأحكام المرأة والمواريث والأسرة وغيرها من الأحكام الشرعية والحقائق الدينية التي لم يكن للموقف من الترادف في اللغة والقرآن دورٌ في الاختلاف حولها بين العلماء قديما أو حديثا، بل وجدنا من أكثر العلماء تأييدا لمذهب منع الترادف مَن كان من أكثرهم تمسّكا بالثوابت من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والسلف، ممّا يفنّد مقولة شحرور حين قال: "إذا ألغيتَ الترادف من التنزيل الحكيم فإنّ الفقه يُصاب في مقتل وينهار مباشرة". وإنّما أُتِيَ شحرور ومن تبعه في ذلك مِن جهلٍ بالعربية وبالكتاب والسنّة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين