الإنسانية وأزمة القيم

عناصر المادة

1- الكوارث عبر التاريخ خلفها أزمة قيم وأخلاق 2- آلام الإنسانية اليوم بتخليها عن قيمها وأخلاقها 3- القيم ليست ترفاً بل ضرورة من ضرورات العيش 4- التغيير الأكبر الذي حرص عليه الإسلام هو القيم والأخلاق 5- المسلمون اليوم تحت عدوى فساد قيم الإنسانية 6- ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟

مقدمة:

أكبرُ شعارٍ يُرفع اليومَ هو شعارُ الإنسانيةِ وحقوقِ الإنسان... وفي الوقت نفسه نجد أنّ أكبر انتهاكٍ لقيم الإنسان والإنسانية هو في هذا العصر!!

بل أعجبُ من ذلك إذا كان رافعوا هذه الشعارات هم المجرمون أنفسهم، وهم الملطخة أيديهم اليوم بأكبر جرائم إبادةٍ في العصر الحديث!!

كلُّ ذلك يدعونا للوقوف ملياً عند هذه المشكلة والأزمة العامة الطامة، تلك المشكلةُ التي أصابت بعدواها المسلمين، فاكتسبوا كثيراً من أدوائها في كلِّ مستويات حياتهم: على مستوى سلوك الفرد نفسه، وعلى مستوى الأسرة، وعلى مستوى العمل المشترك، وعلى مستوى المؤسسات، بل على مستوى الدول.

1- الكوارث عبر التاريخ خلفها أزمة قيم وأخلاق

لو تتبعنا حروبَ الأممِ والملوك عبر التاريخِ القديم لوجدنا مِن التوحُّشِ وإهدارِ حقوقِ البشرِ وإذلالهم وامتهانهم والقتلِ بالجملة وغيرِ ذلك من صنوف التوحُّشِ الشيءَ الكثيرَ! 

ولم تعرفِ البشريةُ مايسمى بقيمِ وأخلاقِ الحرب إلا في التاريخ الإسلامي، حيث كانت هناك مبادئ صارمةٌ تكبَحُ نشوةَ المنتصرِ من التعدي.

لذا كانت وصايا النبي صلى الله عليه وسلم في الحروب قانوناً واضحاً في منع التعدي، ‏عَنِ ‏‏ابن عباس رضي الله عنهما ‏قَالَ: ‏كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏إِذَا بَعَثَ جُيُوشَهُ قَالَ: (‏اخْرُجُوا بِسْمِ اللَّهِ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ لَا ‏تَغْدِرُوا ‏وَلَا‏ ‏تَغُلُّوا‏ ‏وَلَا‏ ‏تُمَثِّلُوا ‏وَلَا تَقْتُلُوا الْوِلْدَانَ وَلَا أَصْحَابَ ‏الصَّوَامِعِ). [ 1 ] 

وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عندما أرسله في شعبان سنة 6 هـ إلى قبيلة كلب النصرانية الواقعة بدومة الجندل؛ فقال له: (اغزوا جميعًا في سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله، لا تَغُلُّوا، ولا تَغْدِرُوا، ولا تُمَثِّلُوا، ولا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، فهذا عَهْدُ اللهِ وسيرة نبيّه فيكم). [ 2 ]

ففي المَوَاطنِ التي تُغْلَبُ -عادةً- فيها عواطفُ الرحمة بِعَوَاطِفِ الانتقام أو الانتصار، تَبْقَى صِفَةُ الرّحمة عند رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في محلّها لا تَطْغَى على غيرِها، ولا يَطْغَى غيرُها عليها.

وإنّ غياب تلك القيم والأخلاق كان هو السبب خلف ذلك التوحش الذي اصطلت بناره البشرية، وإن كان يظهر بصور مختلفة ومتنوعة، لكنّ جذر المشكلة هو غياب تلك القيم والمبادئ التي تكبح نزوات البشر.

2- آلام الإنسانية اليوم بتخليها عن قيمها وأخلاقها

والمشهد نفسه يتكرر اليوم بانتهاك حقوق البشر، وممارسة التوحش بأبشع صوره، لكنه يتم اليوم بتلبيس وخداع، فاليوم المجرم هو نفسه راعي حقوق الإنسانية ورافع شعار القيم والمبادئ السامية!! 

فهو يقتلك بيد ويعطيك الكفن بيد أخرى، ويسرق أسباب معيشتك ثم يمنّ عليك بسلة غذاء، ويشردك من بلدك ثم يمنّ عليك بخيم باليةٍ تؤويك.. كل ذلك باسم حقوق الإنسانية وواجب العدل تجاه البشرية!!

المشكلة التي تعاني منها البشرية اليوم فقدان القيم والأخلاق التي تضع حداً لغرائز التوحش لدى البشر.

وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى حال الناس عندما تفقد القيم والأخلاق فقال: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم). [ 3 ]

فكأنه يقول: إذا أصبح همكم الدنيا ولا شيئ غير ذلك، ولم تعد للقيم والأخلاق قيمةٌ سيكون عندئذ السيطرةُ لنزواتِ التملُّكِ والتغلُّبِ والسيطرة، فذو السلطان والقوة يستضعف غيره، يقتُلُه ويسلِبُه حقوقه، ويفشو حينئذ الذلُّ والمهانةُ التي أشار إليها في الحديث.

3- القيم ليست ترفاً بل ضرورة من ضرورات العيش

بدون القيم والأخلاق يكون مجتمعُ البشر أشبهَ بالغابة، يأكل القويُّ الضعيفَ، ويسحقُ مَن لا حامي له، وتُمتهن الكراماتُ والحرياتُ، لهذا كلِّه فالقيمُ ليس ترفاً يتزيَّنُ به البشرُ أو المجتمعاتُ، بل هي ضرورةٌ من ضرورات العيش، لذا لا نجدُ عبر التاريخ أمةً لم تلتزم بأدنى حدٍّ من القيم بما يسمحُ لها بالبقاء، فقد تلتزم ذلك مع شعوبها أو مع مَن يوافقها في عِرقٍ أو دين، ولكن لا تلتزمه مع غيرها، وتتفاوت الأممُ في ذلك عبر التاريخ حتى زماننا هذا، لأنه لا يمكن أن يحيا شعبٌ أو أمةٌ بدون القيم والأخلاق فيصير كغابة من البهائم المتوحشة.

من هنا نعلمُ السرَّ وراءَ ذلك التأكيدِ العظيمِ في ديننا على أهميةِ الأخلاق، ورفعِ مكانةِ صاحبِ الخُلُقِ على العابد المنقطع للعبادة، كما في الحديث: (إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم). [ 4 ]

بل جعله معياراً للإيمان، فقال عليه الصلاة والسلام: (أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا). [ 5 ]

ومن هنا نعلم لماذا اقترنت كل العبادات بالأخلاق، وأنّ علامة صحة العبادة أن تنهى صاحبها عن الخلق السيء: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45].

ومن هنا نعلم لماذا سنَّ الإسلامُ أخلاقَ الحروب، فنهى عن قتل الصبي والمرأة والراهب وقطع الشجر وتحريق الممتلكات.

بل كان شعار النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق). [ 6 ]

بل ضرب مثلاً عملياً في تعزيزه لحلف الفضول الذي يُجسِّدُ حِفْظَ القيمِ والأخلاقِ، وكان يعتز به ويقول: (لقد شهدت مع عمومتي حلفاً في دار عبد الله بن جدعان، ما أحبّ أن لي به حمر النعم). [ 7 ]

حيث كان حلف الفضول تعاقداً بين أسياد قريش على رد الظالم والانتصاف للمظلوم. 

4- التغيير الأكبر الذي حرص عليه الإسلام هو القيم والأخلاق

حديث عظيم في بدء الإسلام جديرٌ أن نتأمله، إنه حديث جعفر رضي الله عنه أمام نجاشي الحبشة، حيث قال: "أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام- فعدد عليه أمور الإسلام، فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من دين الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك". [ 8 ]

فكان من عظيم فقه جعفر رضي الله عنه أن ركّز على جانبين وهو يشرح الإسلام للنجاشي، الجانب الأول: التوحيد، الجانب الثاني: الأخلاق. 

فالدينُ إذاً جاء بالتغيير في جانبين عظيمين هما أساس الإسلام: التوحيد والأخلاق.

وهذا التغييرُ الذي ينشده الإسلامُ في أفراده ومجتمعاته هو في التوحيدُ والأخلاقُ، وقد وعى ذلك الجيلُ الأول صحابةُ النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا مثالاً في التغيير العميق في نفوسهم وطباعهم.

5- المسلمون اليوم تحت عدوى فساد قيم الإنسانية

وقد سَرَتِ اليومَ إلى المسلمين كثيرٌ مِن أدواءِ مشكلةِ الأخلاقِ التي يعاني منها العالمُ اليومَ، فكَمْ هو حريٌّ بنا اليومَ أنْ نعيدَ مراجعةً عميقةً شاملةً للقيم والأخلاق في نفوسنا وسلوكنا ومجتمعاتنا، أن نعيش الإسلام واقعاً وسلوكاً عملياً.

ونحن إذ نلقي اليومَ نظرةً على مشاكل المجتمع المسلم لن يحتاج منا كبيرَ تأمُّلٍ حتى نعلمَ أنّ فسادَ الخُلُقِ والقيمِ خلفَ كلِّ مشاكلنا التي تبرز كصراعات وتناحراتٍ وأنانيةٍ وظلمٍ، أدى ذلك كلُّهُ إلى اقتتالِ الصفِّ الواحدِ واستباحةِ الدماءِ والأعراضِ، وقد تطفو على السطح أمورٌ يبدو أنها المشكلةُ خلفَ ذلك، لكنْ في الحقيقة هي مشكلةُ قيمٍ وأخلاقٍ، ويتعقَّدُ المشهدُ ويزدادُ صعوبةً عندما يبدأ كلُّ فريقٍ بتلبيسِ موقفِهِ ودعواهُ لَبوسَ الانتصار للحق والاحتجاجِ بمنطق الدين نفسه! 

هذا عدا عن أساليب المراوغة وعَقْدِ بيعاتِ النصرة والولاء والبراء على انتماءات ضيقة ٍ تخرُجُ عن عدلِ الإسلامِ وإنصافه إلى بَطَرِ الحقِّ وغَمْطِ الناسِ وازدرائهم.

فما أشبهَ ذلك بسلوكِ قوى عالميةٍ اليومَ تدّعي الحقَّ والقيمَ وفي الوقت نفسه تمتهنُ الشعوبَ وتشرِّدُهم وتتفنّنُ باستعمال أحدثِ الأسلحةِ في حفلاتِ إبادةٍ جماعيةٍ وحشيةٍ!

6- ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟

ولئن تقدم العالمُ اليومَ في مجال التقنية والرقمية والتكنولوجيا وأحرز في ذلك مكاسبَ كثيرةً، فإنه قد خسر الكثيرَ من القيم والأخلاق، وشقيَ البشرُ اليومَ بهذا التقدم أكثرَ من أيِّ عصرٍ مضى!

ولما كان الإسلامُ منارةً في الخُلُق يعلِّم الأممَ الأخلاقَ في الحرب قبل السلم، فاليومَ بانحطاط المسلمين عن مستوى رسالتهم هذه يخسرُ العالمُ تلك المنارةَ، وتخسرُ البشريةُ كثيراً بانحطاط المسلمين.

-------------------------------

1 - أحمد (2728)، البيهقي (17933) والحديث حسن لغيره

2 - الحاكم (8623)، وقال الذهبي قي التلخيص: صحيح

3 - رواه أبو داود في سننه 3462

4 - أبو داود برقم 4799، والترمذي برقم 2002، وصححه الألباني في صحيح أبي داود 3/911

5 - أخرجه الترمذي برقم 1162، وأبو داود برقم 4682، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي 1/340

6 - أخرجه أحمد في المسند 8729

7 - أخرجه أحمد 1676 والبخاري في الأدب ال مفرد567 وابن حبان والحاكم وصححه ووافقه الذهبي

8 - أخرجه أحمد: 4168/ 4400

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين