بين الإيمان بالثوابت والاجتهاد في المتغيرات

 

 

كل بنيان لابدَّ لقيامه وبقائه من وجود قواعد له ترتكز على أساس ضروري لاستمرار هذا البنيان قائماً مؤدياً الأغراض والمنافع المرجوة منه، وبقدر صلابة هذه القواعد والأسس تكون قوَّة البنيان وسلامته واستمرار بقائه، والشاعر العربي القديم يقول:

والبيت لايبتنى إلا له عمد = ولا عماد إذا لم تُرس أوتاد

وما يقال في الأبنية المادية يقال كذلك في كل بناء فكري أو علمي أو إيماني ومن هنا كانت النظم المختلفة ترتكز على نظريات وفلسفات وعقائد هي من الثوابت التي يقوم بناء النظام عليها ويرتكز على الاقتناع التام بها، ثم تكون تفريعات النظام وتطبيقاته واجتهاداته بعد ثبات ارتكازه على نظرية أو فلسفة أو عقيدة معينة.

والدول ذات النظم المستقرة لكل منها دستور يقرر المبادئ الثابتة التي تمثل القاعدة والأساس لكل قانون أو قرار أو توجيه تريده الدولة في تطبيق نظامها الحضاري وفي محاسبة الأفراد والتجمعات على أساسه مستندة في ذلك إلى ما يقرره دستورها من الثوابت التي لا مجال للخروج عليها أو تناسيها.

هذه مسلمات بدهية لا يختلف فيها اثنان من العقلاء، وهي أمور ثابتة بالضرورة غير قابلة للنقض أو الشغب حولها.

والأديان لا تخرج في بنيانها عن هذه المسلمات سواء أكانت أدياناً بشرية أو سماوية لابدَّ لها من الثوابت التي يعتقدها أصحابها ويؤمنون بها إيماناً لا يداخله شك، ما داموا قد ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا من أتباع هذا الدين أو ذاك، وحرية الإنسان مكفولة في اختيار الدين الذين ينتسب إليه ويخضع لأوامره ونواهيه ويؤمن بأنه الحق الذي لا حقَّ غيره، وفي ذلك احترام كامل لعقل الإنسان وحريته وتفكيره، وهو تعبير عن تكريم الله تعالى له وتفضيله على كثير من مخلوقاته، فله الإرادة الحرة في اختيار ما يشاء دون قهر أو إكراه بأي وسيلة من وسائل القهر والإكراه، ولذلك يقرر القرآن الكريم في آياته المنزلة من عند الله: [وَقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ] {الكهف:29}. ويقول الله تعالى: [لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ] {البقرة:256}.

ويخاطب المولى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم يقول تعالى: [فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ(21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ(22) ]. {الغاشية}. وآيات أخرى كثيرة كلها تبين أن الله تعالى لا يجبر الناس على الدخول في الإسلام وأنه يتركها لاختيارهم بعد ما يتبين له الحق من الباطل والهدى من الضلال وأنار لهم طريق الإيمان بما أمرهم به وبلغهم إياه عن طريق رسل الله تعالى.

وعندما يقرِّر الإنسان باختياره اعتناق دين بعينه ويُعلن انتسابه إليه يصير ملزماً بالخضوع لأوامره ونواهيه وتعاليمه الصريحة التي لا تحتمل غير معناها المحدد والتي هي من الثوابت التي لا مجال للخروج عليها بعد الإيمان الذي اختاره الإنسان بمحض إرادته دون ضغط أو إكراه، وهنا يأتي قول الله تعالى للمؤمنين بالإسلام: [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا] {الأحزاب:36}.

إن الذي يَطلب جنسية دولة بعينها ويمنح هذه الجنسية يكون مُلزماً بنظام هذه الدولة وقوانينها خاضعاً لأحكامها ونظام القضاء فيها، وليس له بعد الحصول على هذه الجنسية أن يَقْبل قانوناً ويَرْفض آخر وأن يقبل الخضوع لحكم عين ويتمرَّد على غيره من الأحكام، ولو ترك الناس يفعلون هذا باسم الحرية والعقلانية وممارسة الاختيار لم تقم دولة ولا نظام ولا مجتمعات لها تقاليد ثابتة وأعراف مُرعبة وقيم أخلاقيَّة، ولكان الناس فوضى يعمل كلُّ فرد ما يُمليه عقلُه مع تفاوت العقول، وما يَراه حَسَناً مع اختلاف الرؤى، وفي ذلك ما فيه من الضياع والشَّتات.

وإذا كان الانتقاضُ على نظام الدولة وقوانينها الثابتة غير مقبول من المنتسبين إليها وهي نظم وقوانين وضعها البشر وتراضَوا على قبولها، فهل يكون في عرف العقلاء أن المنتسبين إلى دين وضع الإله عقيدته وشريعته أنَّ لهم الحق في مُناقشة الثوابت التي يَرتكز عليها هذا الدين والتي تُميِّزه عن غيره من الأديان تحت دعوى حريَّة العقل والتفكير والاختيار!.

إنَّ المسلم بعدما يُعلن كلمة الإسلام ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله يصير مُلتزماً التزاماً تاماً بعقيدة الإسلام وشريعته وأحكامه المنزلة من الله تعالى والتي بلَّغَها رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم والتي هي من قواعد الدين وثوابته التي لا تقبل غير السمع والطاعة من المؤمنين بالإسلام.

يقول الله تعالى: [إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ(51) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ(52) ]. {النور}. ويقول تعالى في توجيه أمره للمؤمنين بالطاعة: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ] {الأنفال:24}. وينفي سبحانه حقيقة الإيمان عن الذين لا يُسلِّمون تسليماً تاماً لحكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فيقول: [فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] {النساء:65}.

والثوابت في الإسلام مَعْلومة ليس لمسلم أن يحكِّم فيها عقله وأن يخضعها للاختيار ثم للقبول أو الرفض وإلا فهو – حين يرفض إحدى هذه الثوابت – يكون قد اختار الخروج من الانتماء إلى الإسلام – والثوابت هي التي يعبر عنها بأنها ما عُلِمت من الدين بالضرورة، وهي: في العقيدة: الإيمان بالإله الواحد الذي لم يَلِد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وأنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له، وأنه لا يعبد الله إلا بما شرع وطلب عباده به وأن لله تعالى رسلاً مبشرين ومنذرين خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، وأن لله تعالى كتباً منزّلة على رسله خاتمها القرآن الكريم كلام الله تعالى فيه تفصيل كل شيء وليس لبشر فيه حرف واحد.

وأن لله سبحانه ملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وأن الله يبعث من في القبور ويجمعهم ليوم القيامة والحساب والجزاء وأن الله أعدَّ للمؤمنين الطائعين الجنَّة وأعدَّ للكافرين والمنافقين نارَ جهنَّم وبئس المصير، وأنَّ كل شيء بقضاءِ الله وقَدَرِه.

وفي الشريعة: الإيمان بأنَّ اللهَ تعالى فرضَ فرائضَ وأوجبَ على المسلمين أداءها، فرض خمس صلوات في اليوم والليلة، وصوم شهر رمضان، وأداء زكاة الأموال حسب الأنصباء والمقادير التي حدَّدها وبيَّنها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وحجَّ بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً، والإيمان بأنَّ الله حدَّد حدوداً وأوجب الالتزام بها وعدم تعديها أو الاقتراب من موجباتها كعقوبات محدَّدة من الله واجبة التنفيذ لا شفاعة فيها ولا محاباة لأحدٍ بعد ثبوتها، وأنَّ الله تعالى أحلَّ الطيبات وحرَّم سبحانه الخبائث والفواحش ما ظهر منها وما بطن، وأنَّ الله تعالى ما ترك خيراً للعباد إلا بيَّنه وأمر به، وما ترك شراً إلا نهى عنه وحذَّر من الوقوع فيه.

ومن رحمة الله تعالى بالعباد – وهو أعلم بما يُصلحهم – أنَّه لم يسقْ لهم الأمر والنهي مجرَّداً من بيان الحكمة والمصلحة، ولو ساقه مجرداً لكان عليهم السمع والطاعة لأنه من عند الله سبحانه خالقهم ورازقهم ومالك نواصيهم، ولكنها رحمة الله تعالى بعباده لتكون استجابتهم كاملة لا تردَّد فيها ولا ضعف في الالتزام بها، فعندما يَأمر الله المسلمين بأداء الصلاة يقول: [اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ] {العنكبوت:45}، وعندما يأمرهم بأداء زكاة أموالهم يقول:[خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا] {التوبة:103}، ويقول سبحانه:[وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُضْعِفُونَ] {الرُّوم:39} أي الذين يضاعف الله تعالى لهم في أرزاقهم وفي حسناتهم، وحين يأمر المؤمنين بصوم شهر رمضان يقول تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] {البقرة:183}، وحين يأمر بالحج يقول سبحانه: [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ(27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ (27) ]. {الحج}. 

وهكذا، حتى في العقيدة التي يجب الإيمان الجازم بها استجابةً لما أمر الله تعالى به وأرسل به رسوله هادياً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً مُنيرا، نجد من رحمة الله تعالى وتكريمه للإنسان أنَّه يسوقُ الدليل العقلي للعقيدة التي أمر الناس بها تقوية لإيمانهم وقطعاً لما قد يكون من ترددهم وتساؤلهم، ففي عقيدة التوحيد يقول جلَّ شأنه: [لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا] {الأنبياء:22}.

أي لو كان في هذا الكون إله غير الله لفسد نظامه واختلَّ ترتيبه وتكوينه، ولما كان هذا الكون على نظام بديع وتكوين سليم منذ خلق الله السماوات والأرض وإلى ما شاء الله فذلك دليل عقلي على عدم وجود آلهة غير الله تعالى.

وفي عقيدة البعث بعد الموت يقول الله تعالى: [قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ] {يونس:34}، ويقول: [وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ(78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ(79) ]. {يس}

ويقول تعالى: [وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي المَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] {فصِّلت:39}.

كلها أدلة عقلية لتثبيت الإيمان بالبعث استخدم فيها القرآن كل وسائل الاقناع من مخاطبة العقول واستخدام المحسوس لمعرفة المعقول وقياس الغائب على الحاضر وغير ذلك من وسائل الإقناع.

وفي عقيدة أنَّ القرآنَ كلامُ الله المنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم يقول جلَّ شأنه: [قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ] {يونس:16}، ويقول سبحانه: [وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ المُبْطِلُونَ] {العنكبوت:48}.

وفي القرآن الكريم مجادلة الكافرين والمعاندين، وإقامة الحجَّة الدامغة عليهم ومناقشة أقوالهم واعتراضاتهم وطعنهم على الإسلام ورسوله والتعقيب على ذلك بما يدمغه ويبطله: [قُلْ فَللهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ] {الأنعام:149}. [بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ] {الأنبياء:18} [وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ] {يوسف:21}.

فالإيمان بالغيب من عقائد الإسلام لم يطلبه الله تعالى من عباده بالأمر والنهي المجرد – ولو شاء لفعل – ولكن اقتضت رحمته سبحانه التي وسعت كل شيء أن يخاطب عقول العباد ويقيم لهم الأدلة التي تثبت إيمانهم بما غاب عن أبصارهم وأخبرهم الله تعالى به، فإذا ظهر من عباد الله من يقول إنه لا يؤمن بما وراء الطبيعة المحسوسة المشاهدة لأنه لم ير ذلك الغائب عنه فيما وراء الطبيعة – فقد ألغى عقله ولم يلتفت إلى الأدلة التي جعلت الغائب حاضراً والمعقول محسوساً شاهداً لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، إن هؤلاء الذين ينكرون ما لا يشاهدون قد أهدروا آدميتهم وعطَّلوا الجوهرة التي ميَّز الله تعالى الإنسان بها وهي العقل فارتضَوا بذلك أن يكونوا كالدواب التي لا تعقل ولا تفكر بل شراً منها كما قال تعالى:[إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ البُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ] {الأنفال:22}.

إنَّ أصحاب الفكر المادي لا يؤمنون بوجود الله تعالى ولا بكل ما غاب عن حواسهم ويقيمون الحياة في نظرهم على الأسباب والمسببات فإذا وجد السبب وجد أثره وإذا لم يوجد السبب فلا وجود للمسبب، وهؤلاء تقوم الحجة عليهم بخلق عيسى عليه السلام من غير أب وتخلف أثر النار في الإحراق لما ألقى فيها إبراهيم عليه السلام، وقال الله لها: [قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ] {الأنبياء:69}.

هؤلاء يُقيمون علاقاتِهم على المصلحة فمن كان في صَداقته نفع مادي فهو الصديق الذي يتقرب إليه ومن كان في علاقته خسارة ماديَّة فهو الذي يجبُ الابتعادُ عنه، وهذا التفكير المادي أقرب ما يكون إلى تفكير الأطفال قبل أن تنضج عقولهم فيبنون أحكامَهم على ما يشاهدون ويحسون لا على ما يفهمون ويعقلون، فمن أعطى الطفل قطعة من الحلوى فهو حبيبه الذي يرتمي في أحضانه ومن أخذها منه وحرمه من أكلها فهو عدوه، الذي يكرهه ويبتعد عنه، وقد يكون الذي منعه من أكلها أحب الناس إليه وقد منعه خوفاً على حياته أو صحته، ولكن كيف تقنع الطفل بهذه المعاني وهو لا يدرك إلا قطعة الحلوى التي يشاهدها ويتذوَّق حلاوتها.

إنَّ أصحاب هذا الفكر حين يبنون علاقاتهم على النفع والمصلحة يهدرون كل قيم الإنسانية الفاضلة من بر وتراحم وهم بذلك يفقدون أخص خصائص الإنسان وهو أنه كائن اجتماعي لا تصلح حياته منفرداً بعيداً عن الناس غير متعاون ومتآلف معهم وقد عاب القرآن الكريم مسلك الذين يقيمون علاقاتهم مع غيرهم على أساس ما يتحقق لهم من النفع والكسب المادي، فقال تعالى:[وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ] {التوبة:58}.

إنَّ فكر المصلحة وإقامة العلاقات على أساسها فكر فاسد لا تنمو بجواره الفضائل الإنسانية، فأي مصلحة للزوج في الإبقاء على زوجة مَريضة تكلِّف في عِلاجِهَا مَالاً كثيراً، ولا تقدِّر على العطاء في شيء، وأي مَصْلحة للزوجة في تمريض زوجٍ طَريح الفِراش، لا فائدة ترجى من ورائه، إن الفكر المادي يحوّل الحياة إلى غابة وحوش يفترس القوي ضعيفها ويسارع كل قادر على اقتناص ما يريده دون نظر إلى رفاقه في هذه الغابة التي تضمهم أفراداً تحكمهم أنانية المصلحة.

أصحاب الفكر المادي لا يؤمنون بالأديان ويدعون أن تخلص الإنسان مما جاء فيها من الأمر والنهي حتى قال أحدهم في مقال منشور: هؤلاء الذين سبقونا لم يتحقق لهم ما حققوه إلا عندما خرجوا من سجن الأمر والنهي، وفكروا بعقولهم فأخطأوا وأصابوا لكنهم انتفعوا بالخطأ كما انتفعوا بالصواب....)، (1) ونحن نتسائل: أي أمر ونهي ذلك الذي تريدون الخروج من سجنه؟ إن كان الأمر والنهي الصادر من إنسان يقهر غيره ويتحكم في مصيره فذلك واجب مقاومته والتحرر من قهره وظلمه وقد كان ذلك قائماً بأبشع صورة في النظام الشيوعي الذي ألغى قيمة الفرد وأهدر كرامته وتفكيره وجعله ترساً في آله ليس له أن يفكر ولا أن يختار ولا أن يناقش في شيء، فلما أعطي هذا الفرد هذا الفرد بصيصاً من نور الحرية والقول انهار النظام من أساسه انهياراً عجبت من سرعته وشدته كل أمم الأرض، ذلك لأنه بنيان قام على أساس من القهر وإهدار الحريات والتحكم في الأرزاق: [أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ] {التوبة:109}.

أما إذا كان الأمر والنهي صادراً من الله تعالى الذي خَلَق وهو أعلم بمن خلقهم وبما يُصْلح شأنَهم ويحقِّقُ سعادتَهم – فليس في هذا الأمر سجن للعقول، ولا قَيْد على الأفهام ولا حبس لحريَّة الإنسان في أن يفكر وينظر في أدلة الكون المحسوسة وفي قصص السابقين وسير الأولين وفي الأدلة العقلية التي خاطب الله تعالى بها العقول والأفهام ودعا الناس إلى التدبُّر والتفكر والتعقل والنظر والاعتبار... إلى آخر ما في مفردات القرآن الكريم من الحث على استخدام الإنسان حريته وعقله وتفكيره حتى في العقائد والثوابت التي يجب الإيمان بها جاءت أوامر الله تعالى مقرونة بأدلتها العقلية: [لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ] {الأنفال:42}. 

وقد ذكرنا أن سوق الأدلة العقلية في ثوابت الإيمان من رحمة الله تعالى بالإنسان الذي خلقه ونفخ فيه من روحه وكرمه وفضله على كثير من خلقه.

ومع هذا الاحترام والاعتداد بعقل الإنسان وتفكيره فقد جعلَ اللهُ تعالى في الإسلام مساحة واسعةً طولاً وعرضاً بطول الحياة وعرضها يصولُ فيها عقل الإنسان ويجول لا يمنعه من ذلك شيء، فكل أسباب التقدُّم والحضارة والرقي ودراسة الكون وآثار رحمة الله فيه دعا الإسلام أتباعه أن يُبَاشروا هذه الأسباب ويأخذوها مأخذَ القوَّة والجدِّ وأن يطلبوا العلم ولو في الصين، وأن يسيروا في الأرض وينظروا أخبار الأمم القائمة والسابقة وأن يستفيدوا من تجارب غيرهم، وأن ينتفعوا بكل ما سخَّر الله تعالى لهم من شمس وقمر وكواكب وأنهار وبحار وليل ونهار، وأنعام وأطيار، ومن كل ما خلق الله تعالى في السموات والأرض وأن يقيموا علاقاتهم على الأخوة والمحبة والإيثار وأن يعملوا على أن يكونوا أعزاء في بلادهم أقوياء أصحاء ذوي غنى عن غيرهم وذوي عطاء (فاليد العليا خير من اليد السفلى)، (والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف).

هذه بعضُ أوامر الله تعالى فهل هي سجن للعقول أو هي إنارة لطريق الخير والحق والعدل والتمكين في الأرض التي يورثها الله من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، وعندما ينهى الله تعالى عباده عن الفواحش والموبقات وأكل أموال الناس بالباطل والظلم والبغي بغير الحق وعن قتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحقِّ وعن ارتكاب المحرَّمات من الزنا والخمر والميسر وأكلِ مالِ اليتيم وشهادة الزور والكذب والطاعة في المعصية والفساد في الأرض وتقطيع الأرحام، فهل هذا سجنٌ يَسعى العقلاء للتخلُّص والخروج منه والانطلاق بعيداً عن الأمر والنهي بهذا الإطلاق أيَّاً كان مصدره؟

إنَّ من يُريد التحرُّر من أوامر الله تعالى ونواهيه وهو لا ينطق عن الهوى وقد أمرنا الله بطاعته وقال: [وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] {الحشر:7}.

من يريد التحرُّر والخروج من هذا الذي يُسميه سجناً يَهيم على وجهه في بيداء الحياة ليس له نور يَهْديه ولا مُرشد ينصحه فيكون من الأخسرين أعمالاً الذين قال الله تعالى فيهم: [قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا(103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا(104) ]. {الكهف}. 

ليس في الأمر والنهي الإلهي سجن لأحد ولا قيد على تفكير أحد وقد جعل الله تعالى قسماً من شريعته في نصوص واضحة محددة المعنى وبيَّن حكمتها وآثارها الطيبة وجعل قسماً آخر في قواعد كلية عامة وترك للناس تطبيقها بما يلائم حياتهم وظروف معايشهم وترك لعقولهم حرية الاجتهاد والتفكير فيما يصلحهم ويتناسب معهم وشجَّعهم على الاجتهاد وجعلَ لمن أصابَ في اجتهاده أجرين ولمن أخطأ أجراً واحداً على ما بَذَله من جُهْدٍ وتفْكير وإن لم يحالفْه الصواب، ومن أمثلة ذلك أن الله تعالى جعل الشورى مبدأ من مبادئ الإسلام التي تجب رعايتها والعمل بها، ولكنه ترك للناس اختيار الوسائل التي توصل إلى تحقيق هذا المبدأ فإن المجتمعات متغيرة وظروفها غير متشابهة، وما يصلح لقوم لا يصلح لغيرهم، فعلى أولي الرأي والعقل والحكمة أن يختاروا لأمَّتهم ما يحقِّق لها الخير والصلاح وأن يَتَعاونوا على البرِّ والتقوى، لا على الإثم والعدوان، وقد أمرَ الله رسولَه بمشاورة أصحابه ليدرِّبَهم على ممارسة هذا الحق عملياً بعدما صدر الأمر الإلهي به فقال تعالى: [ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] {آل عمران:159}.

واستجاب الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر وشاور أصحابَه في أمورٍ كثيرة، في الحرب وفي السلم، وأمر عمرو بن العاص رضي الله عنه أن يجتهد في بعض الأمور فقال: أأجتهد وأنت حاضر، قال: نعم إن أصبت فلك أجران، وإن أخطأت فلك أجر، ولما بعث صلى الله عليه وسلم معاذاً رضي الله عنه إنَّ اليمنَ ليقوم ببعض الأمر فيهم سأله: (بم تحكم يا معاذ؟ قال: أحكمُ بكتاب الله، قال فإن لم تجد في كتاب الله، قال: فبسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله ؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو) أي: لا أدخر وسعاً في الاجتهاد فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدر معاذ وقال: (الحمد لله الذي وفَّقَ رسولَ رسولِ الله لما يرضي اللهَ ورسوله).

إنَّ الاجتهادَ في المتغيِّرات التي تختلف تطبيقاتها باختلاف الزمان والمكان أمر مقرَّر في الإسلام بل مدعو إليه ومرغوب فيه من أهل الفقه والفهم والاجتهاد على أن لا تُصادم نتيجة هذا الاجتهاد نصاً صريحاً من كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم أو تعارض مبدأ مقرراً من مبادئ الإسلام، فإنَّ المفكرين الإسلاميين المجتهدين في كشف الأحكام وترتيب أدلَّتِها الاجتهاديَّة لا يجرؤ أحد منهم على مخالفة أمرٍ أو نهيٍ صريح، ولا يعيب بعضهم بعضاً ولا يجزم أحدهم أن قوله هو الصواب الذي لا صواب غيره فذلك غرور واستعلاء لا يليق بمجتهد في دين الله، ولذلك أثر عن المجتهدين السابقين الأولين قولهم: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.

إن أوامر الله تعالى ونهيه في كتابه الكريم وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم ونهيه في أحاديثه الشريفة نور يهدي به الله المؤمنين ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، وفيه حياة النفوس التي أماتتها الشهوات والتخبط في الحياة ممن لا دين لهم ولا إيمان يهديهم والله تعالى يقول فيهم: [أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] {الأنعام:122}. 

ليس في الأمر والنهي الإلهي سجن للعقول والقلوب إلا لمن اختار الضلالة على الهدى والعذاب على المغفرة، وليس ذلك سبيل المؤمنين: [وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا] {النساء:115}.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة منبر الإسلام، السنة الثالثة والخمسون، جمادى الأولى 1415 - العدد 5).

 

(1) عبد المعطي حجازي، جريدة الأهرام 7/9/1994م.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين