أوراق وقصاصات من المكتبة آية وفهم

الأستاذ : محمد نجيب بنان


 [إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ] {فاطر:28}  آية طالما استمتعت بتلاوتها وسماعها , وفهمي لها هو أن العلم الحقيقي يوجب الخشية , العلم الصحيح يوصل إلى الإيمان الصحيح لأن الإسلام الصحيح لا يعارض العقل الصحيح , ومادمنا لا نملك معياراً لسلامة العقل فيجب أن يخضع العقل للشرع .

ملاحظات
لاحظت بوضوح مدى تقصيرنا في العلم وكيف أنه جعل في ذيل قائمة الواجبات التي لا يصل الإنسان فيها إلى منتصفها .

كثرة الكتب تجعلك بين حالتين تقفز من إحداهما إلى الأخرى الحالة الأولى : هي حالة الخوف والهلع والجزع بل ربما واليأس من أن تحصِّل مرتبة علمية أو أن العلم يحتاجك في شيء لكن ما إن تهدأ نفسك حتى تشعر بمدى النعمة التي أنت فيها إذ وفرت لك كل هذه الوسائل والمصادر وإذا كان الأقدمون بمصادر ووسائل ضعيفة حققوا ما حققوا فكم بإمكانك أن تحقق أنت ؟ .

لاحظت من خلال اطلاعي على بعض المكتبات الخاصة التي وهبت للمكتبة كمكتبة الشيخ محمد زين العابدين الجذبة والشيخ جميل عقاد والشيخ معروف الدواليبي رحم الله الجميع , لاحظت بوضوح صغر مكتباتهم مقارنة بمكتباتنا الخاصة اليوم , ولا أرى لذلك سبباً إلا ضعف قدراتهم المادية أولاً واهتمامهم بالكتاب الذي يشترونه اهتماماً منقطع النظير ثانياً وكما يقولون : " ليس العلم ما حواه القمطر , إنما العلم ما حواه الصدر" فمع صغر مكتباتهم كانت معارفهم متنوعة وواسعة ولعل السبب الأهم في ذلك هو التقوى والإخلاص الذي كان موجوداً كثيراً في الأقدمين وانحسر كثيراً عند المتأخرين .

سمعت كثيراً أن هؤلاء الأقدمين كان أحدهم إذا ظفر بكتاب فإنه لا يضعه على الرف حتى يقرأه ويفهمه بل ربما يحفظه .

ومع الفقر والحاجة وضيق ذات اليد فقد حزرت كتب الإمام أحمد بن حنبل بعد موته فكانت اثني عشر حملاً وعدلاً .

والزمخشري يقول : " مجد التاجر في كيسه ومجد العام في كراريسه " .

حزن وألم وحسرة
حزنت كثيراً عندما وقف أمام كتب قد أصابتها عوامل جوية وأشياء كثيرة جعلت منها أوراقاً صفراء مهترئة وقفت طويلاً أمامها وقلت في نفسي لو أن صاحبها الذي بذل الغالي والنفيس في سبيل شراء هذا الكتاب رأى هذا المشهد ماذا كان يفعل , لو أن الواحد منهم الذي حرم نفسه من طعام وشراب ولذة في سبيل شراء كتاب رأى ما أرى لمات هماً وغماً وكمداً .

احذر أن تفعل
ولو تتبعت أخبار بيع الكتب بعد موت أصحابها لانفطر قلبك جزناً على مصير هذه الكتب وما آلت إليه .

كنوز في يد جاهل
رأيت مخطوطات لكتب ولمصاحف وهي في حالة أسوأ ما يكون وعلى حد قول أحدهم لو أن واحداً من تلك الكتب المخطوطة وجد في دولة تعرف للعلم قدره لصنعوا له معرضاً خاصاً ولما وصلت إلى ما وصلت إليه .

معلومة هامة
رأيت  فيما رأيت على بعض الكتب وفي الصفحة الأولى من الكتاب مكتوب ( يا كبيكج احفظ ) وكان أحد الإخوة إلى جواري فقرأت هذه الكلمات فقال لي كلمة طيبة جداً : ( نحبهم ونحترمهم ونقف عند بعض الأمور حتى يتبين لنا حالها ) أو كلمات كهذه , حاولت معرفة معنى هذه الكلمات وبحثت عنها فظهر لي خلاف ما فهمت وفهم صديقي من أنها تعويذة أو ما شابه , وتبين لي أنها إنما إشارة يرمز بها إلى الكتب التي رشت بمادة تحول بين الكتب وبين أكل الحشرات لها , فهم يضعون هذه الكلمات كإشارة إلى أن ذلك الكتاب قد رش بتلك المادة .

خبر غير سار
رأيت كتباً قد وقفت منذ زمن طويل ربما مائة سنة , رأيت أوراقها ملصقة ببعضها لم تفتح بعد , بمعنى آخر لم يقرأ فيها أحد .

صور وسطور
رأيت في كثير من الكتب صوراً لمؤلفيها على الصفحات الأولى من الكتاب وقد كتب على أغلبها أبيات شعر تقول ما معناه إن غاب شخصي فهذا رسمي يحكيه أو ما في معناه ولا أدري سبب انحسار هذا الأمر مع أنني أعتقد أن له فائدة ليكوِّن القارئ من صورة المؤلف  وسطوره شخصية كاملة .

من الأبيات هذان البيتان :
إن غاب جسمي كان رسمي حاكياً = ما كان مني في الحياة بلا زلل
فهناء نفسي بالسعادة إن روى = آثار خير من علوم أو عمل

صدقة جارية بثقافة عالية
رأيت الكثير من الكتب المطبوعة الموزعة مجاناً أو على نفقة فلان أو فلان من أهل الخير أو لا يكتب اسم من طبع الكتاب على نفقته بل يُكتفى بقول طبع الكتاب على نفقة أهل الخير , وهذه ثقافة عالية ـ ثقافة نشر الكتاب وتثقيف الأمة ـ ولا أرى هذا الأمر إلا قلَّ أو تغير شكله لتصبح هناك جهات تطبع إن نال الكتاب إعجابها أو وافق مبادئها , ولا شك أن هذا شيء جيد لكن ليس الجميع يستطيع الوصول إليهم ولذلك الحالة الأولى كانت أكثر نفعاً ولأنهم كانوا يتبرعون بطبع الكتب دون إملاءات على المؤلف .

إهداءات وتعليقات
رأيت الكثير من الإهداءات على الكتب وهي بحد ذاتها تاريخ ماتع , فأنت تشعر بوضوح مدى عظمة أولئك الأقدمين وتواضعهم عندما ترى عالماً كبيراً يهدي صديقه وربما تلميذه كتابه فيكتب عليه عبارات تدل على التواضع ثم يذيل ما كتب بقوله أخوك فلان .

أبيات شعر جميلة
رأيت أبياتاً من الشعر على الصفحات الأولى أو في وريقات وقصاصات وضعت بين صفحات الكتاب وكان مما أعجبني :

جمع الهواء مع الهوى في أضلعي = فتكاملت في مهجتي ناران
فقصرت بالممدود عن نيل المنى = ومددت بالمقصور في أكفان

وفي شأن استعارة الكتب رأيت :
ألا يا مستعير الكتب دعني = فإن إعارتي للكتب عار
فمحبوبي من الدنيا كتاب = فهل أبصرت محبوباً يعار

على الهامش
لو قيل إن عظمة الأمة تقاس بعظم مكتباتها وبعدد زوارها لما قيل هذا خطأ .

أمنية
كثيرة هي الوقفات في المكتبة ولكن المشهد الأجمل على الإطلاق هو رؤية المكتبة تعج بطلابها .

دعاء
اللهم اكتب لها التوفيق والنجاح واجعلها عامرة بطلابها وأجزل لكل من أسدى لها خيراً خير الجزاء
* * *
منقول

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين