العرب بين عقول معتقلة وعقول مهاجرة

في خاتم الرسالات السماوية يصف الله عز وجل الأمة العربية بالخيرية فيقول تعالى : (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ .. الآية ) سورة آل عمران 110 ، وقد كانت أمتنا العربية حقاً هي الأفضل يوم كانت تقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتنشر الخير في الناس .

أما اليوم فقد تبدلت الحال، فلم تعد أمتنا هي الأفضل، بل باتت في أدنى القائمة وقد سبقتها الأمم في كل شيء، حتى كادت أمتنا تخرج من خارطة العصر، وها هي ذي الأرقام والإحصائيات تتكلم .

ومادامت حالة التعليم هي من أهم المؤشرات على التقدم والتخلف فتعالوا نتعرف على حالة التعليم العربي اليوم، لكي نرى في أي درك أمسينا اليوم !

التعليم العربي .. مفارقات كارثية :

يكتنف التعليم في بلادنا العربية مفارقات عجيبة، لعل من أعجبها ما جاء في تقرير السفيرة البريطانية جين ماريوت عن ”التعليم في العالم العربي" الذي عرضته في جلسة مخصصة لهذا الموضوع في "مجلس العموم البريطاني" يوم ?? آذار/مارس ????، ومما جاء في التقرير :

"إن النظام التعليمي العربي ينطوي على مفارقات مدهشه في الخريجين :

• فطلاب الدرجة الاولى من الأذكياء يذهبون إلى كليات الطب والهندسة .

• أما خريجو الدرجه الثانية فيذهبون إلى كليات إدارة الأعمال والاقتصاد، وبهذا يصبحون مدراء لخريجي الدرجه الاولى .

• أما خريجو الدرجة الثالثه فيتجهون إلى السياسة ويصبحون ساسة البلاد ويحكمون خريجي الدرجتين الأولى والثانية .

• أما الفاشلون في دراستهم فيلتحقون بالجيش والشرطة (جهاز الأمن) فيتحكمون بالساسة ويطيحون بهم من مواقعهم أو يقتلونهم إن أرادوا، ويمسكون مصير البلاد والعباد .

• ومن أعظم المفارقات في هذا المشهد العربي السريالي (Surreally) أن الذين لم يدخلوا المدارس يصبحون أعضاء مجالس نيابية وشيوخ قبائل يأتمر الجميع بأوامرهم !! 

ولقد صدقت هذه السفيرة وأجادت في وصف هذا المشهد العربي المضحك المبكي في آن معاً ! ونحن نصادق بلا تحفظ على هذا الوصف الذي لا يخلو من سخرية لاذعة لأننا كنا جزءاً من هذا المشهد؛ بل كنا بعض ضحاياه !

وسوف نعرض هنا واقع التعليم العربي اليوم بالأرقام والإحصائيات التي تبرز جانباً آخر من الصورة، لا تقل غرابة عن المشهد الساخر الذي عرضته السفيرة!

أمـة "اقـرأ" .. لا تقرأ :

تفتخر أمتنا العربية أن أول كلمة نزلت من القرآن الكريم هي "اقرأ" لكن الأمة تكتفي من هذه الكلمة بالتبرك دون العمل بمقتضاها، وواقع الأمة يشهد بهذا الواقع المؤسف؛ إذ تعاني الأمة اليوم من أمية طاغية، كما تقول الإحصائيات الرسمية، ففي مناسبة "اليوم العربي لمحو الأمية"الذي يصادف يوم 8 كانون الثاني/ يناير من كل عام، أصدرت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ALESCO) بياناً جاء فيه أن نسبة الأمية في الوطن العربي في سنة 2014 قد بلغت (19%) من إجماليّ السكان، وبلغ إجمالي عدد الأميين ( 96 مليون نسمة( علماً بأن عددهم كان (70 مليون نسمة) في عام 2005 !

ويذكر البيان كذلك أن نسبة الأمية عند الإناث ضعف ما هي عند الذكور، مما يشير إلى تمييز مجحف بحق الإناث، وهو تمييز مجحف لا على المستوى العالمي فحسب، بل هو تمييز يأباه الإسلام الذي هو دين الأمة؛ وهو الدين الذي لا يفرق بين ذكر وأنثى؛ كما نراه في آيات كثيرة من القرآن الكريم .

وتختم المنظمة بيانها بحقيقة مرعبة مفادها أن محو الأمية في أرجاء العالم العربي لن يحصل قبل عام 2050 !

وأفاد " تقرير الرصد العالمي للتعليم" في سنة 2011 أن عدد الأطفال غير الملتحقين بالتعليم في البلاد العربية يتجاوز ( 6.188 مليون طفل ) وأن حوالي (7 - 20%) من الأطفال الملتحقين بالتعليم ينقطعون عن الدراسة خلال المرحلة الدراسية الأولى، وترتفع هذه النسبة في بعض الدول العربية إلى ( %30 )

التعليم العالي .. في الحضيض :

وإذا كانت صورة التعليم الأساسي في تلك الصورة المزرية، فليس التعليم العالي بأفضل منها، فالجامعات العربية تصنف اليوم في ذيل القائمة بين الجامعات العالمية حسب تقييم نظام ( Webometrics ) العالمي لتقييم الجامعات، وهو يغطي أكثر من 20,000 جامعة في أنحاء العالم، فقد أفاد هذا النظام أن مئات الجامعات والكليات العربية؛ الحكومية والخاصة في تراجع مستمر، وهي جميعاً تحتل المراتب الأدنى في التصنيف العالمي، وأنها مازالت خارج المنافسة العالمية !

ومن المفارقات المؤسفة والمؤلمة حقاً أنه لا توجد في آسيا جامعة عربية واحدة بين 20 جامعة احتلت المراكز الأولى، بينما توجد عدة جامعات إسرائيلية !

العقول المهاجرة :

ولا تتوقف الأزمة على تخلف التعليم الأساسي والعالي في بلداننا العربية، بل تزداد الأزمة حتى تصل إلى درجة الكارثة حين نرى الأعداد الهائلة لهجرة العقول العربية المبدعة إلى خارج الوطن العربي؛ فالإحصائيات تشير إلى أن الوطن العربي يُـساهم بـ ( 31% ) من الكفاءات والعقول المهاجرة من الدول النامية كافة، وأن نحو ( 50% ) من الأطباء و ( 23%) من المهندسين و ( 15% ) من العلماء العرب يهاجرون إلى الخارج !

وتقول هذه الإحصائيات إن (75%) من الكفاءات العِـلمية العربية قد هاجرت إلى ثلاث دول غربية ( بريطانيا والولايات المتحدة وكندا) وبالرجوع إلى "مؤشر هجرة الأدمغة" الصادر عن البنك الدولى عام 2008، فإن الدول العربية الثمانى التى تتصدر طليعة البلدان الطاردة للعقول المبدعة هى : مصر وسوريا ولبنان والعراق والأردن وتونس والمغرب والجزائر !!؟ ولا جدال بأن هذه الحقائق تنذر بكوارث قادمة، وهي حقائق لو رصدت في بلدان أخرى لكانت كفيلة بإعلان "حالة إنذار" من الدرجة الأولى.. لكن .. هيهات .. فمازالت هذه الحالة تزداد وتستفحل يوماً بعد يوم، ما يعني أن المجتمعات العربية أمست بيئات طاردة للكفاءات والأدمغة العِـلمية، بدل أن تكون جاذبة و‏حاضنة لهذه العقول !!

وتزداد الكارثة وضوحاً عندما نعلم أن (54%) من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون إلى بلدانهم؛ حتى إن الأطباء العرب أصبحوا يمثِّـلون ( 34% ) من إجمالي عدد الأطباء في المملكة المتحدة !!؟

والسبب ؟! :

عند البحث فى أسباب هجرة العقول العربية نجد أنها ترجع أساساً إلى ما يعيشه المبدعون العرب من تهميش، وغياب المحاضن العلمية التي ترعاهم، فالباحثون العرب المتألقون والطلبة الممتازون لا يجدون البيئة الأكاديمية المناسبة (مختبرات، مكتبات رقمية، أجهزة إلكترونية..) ولا يجدون الدعم المالى والتقدير الرسمي والاجتماعي المشجِّع لمشاريعهم البحثية ومبادراتهم العلمية، ولا يجدون الفضاء المفتوح الحر القادر على استيعاب أفكارهم المبدعة وأحلامهم الكبيرة؛ وهذا ما يدفعهم إلى الهجرة وتحمل غصص الغربة على ما فيها من مفارقة الأهل والأوطان؛ ذلك أنهم يجدون فى دول الهجرة كل التقدير، فهم هناك يحصلون على منح رسمية تقديراً لابتكاراتهم، ويملكون براءات الاختراع التي تحفظ لهم جهودهم وإنجازاتهم، وهناك يجدون مختبرات البحث والتجريب، ودورات التدريب والتطوير، وحق التفرغ للبحث مع التمتع بالراتب، إضافة إلى توفير لوازم الإبداع وأسباب التفوق ومكافآته، ومقتضيات العيش الكريم والإحساس بالحرية والقدرة على التفكير لتدبير مواضيعهم دونما رقابة ولا حرج ولا لوم على الرأى مهما بدا غريباً أو شاذاً !

وهناك سبب لهذه الظاهرة أشد مرارة مما ذكرنا؛ ألا وهو التضييق الأمني على العقول العربية المبدعة التي من طبيعتها أنها لا تسكت عن السياسات الجائرة والممارسات الفاسدة، ما يجعل هذه العقول تنحاز دوماً إلى صفوف المعارضة، وهذا ما يجعلها مرصودة من عيون أجهزة الأمن التي لا تتورع عن انتهاك هذه العقول تحت أتفه الذرائع، وهذا من أهم الأسباب التي تدفع أصحاب العقول العرب للهجرة إلى بلدان يجدون فيها الأمن والسلام والعيش الكريم الذي افتقدوه في الوطن !! 

التعليم .. والخسارة المضاعفة :

وندرك المزيد من حجم الأزمة عندما نعلم أن الوطن العربي بهجرة العقول المبدعة لا يخسر هذه العقول فحسب؛ بل يخسر مبالغ طائلة على التعليم؛ فقد قدر الخبراء أن الأمة العربية قد خسرت في عقد السبعينيات من القرن الماضي أكثر من (11 مليار دولار) من جراء هجرة العقول العربية، واليوم يقدّر الخبراء إجمالي الخسائر بأكثر من ( 200 مليار دولار) وبالرغم من هذه المبالغ الطائلة التي نصرفها على التعليم نجد أن ريعه يذهب إلى الآخرين، فالعقل العربى المُهاجِر يُكلِّف البلاد في تعليمه مبالغ طائلة، حتى إذا أمسك بناصية المعرفة، وارتقى في درجات العلم وأصبح عالماً هاجر وطنه، واستقر في بلد الهجرة، فأفاد الآخرين من علمه وإبداعه ومنجزاته، دون أن يستفيد وطنه منه شيئاً؛ وهذا ما يجعل الجهد العربى العلمي خادماً للغير، بدل أن يكون خادماً للوطن؛ وهذا ما يضاعف خسارتنا، ويزيد الهوة المعرفية والفجوة الحضارية بيننا وبين الآخرين !

ومن المفارقات هنا أننا في حين نخسر العقول المبدعة، نجد العدو الصهيوني يستقطب العقول اليهودية من أنحاء العالم !

الرصاص .. يغتال التعليم :

وتستمر الكارثة بالاتساع .. ففي الوقت الذي نجد فيه الدول الأخرى تخصص أفضل ميزانياتها للتعليم ، نجد بلداننا العربية تخصص أعلى ميزانياتها لشراء الأسلحة، التي لم نربح بها حرباً واحدة؛ فالعرب – حسب إحصائيات شركات السلاح - ينفقون على شراء الأسلحة أكثر من ( 60 مليار دولار/ سنوياً) بينما لا يتجاوز الإنفاق على البحث العلمى في الجامعات والمعاهد العربية (600 مليون دولار/سنوياً) وتخصص الجامعات العربية ( 1% ) فقط من نفقاتها للبحث العلمي، وللمقارنة نذكر أن دولة العدو الصهيوني قد رصدت للبحث العلمي في عام 2014 مبلغ (11.2مليار دولار) ورصدت لتطوير الفرد (1,361.560دولار) ولا شك بأن هذه الميزانية الباهظة تعبر عن وعي العدو بأهمية الاستثمار فى الذكاء لتحقيق التنمية، بينما نستمر نحن العرب في الضمور والهزائم دون أن ندرك أن المعركة الحقيقية هي التي تخوضها الأمم الواعية في ميدان التعليم، لا في ميدان الحروب !

معتقلات هنا .. ومختبرات هناك :

في الوقت التي نرى فيها العقول العربية ضحية البطالة، أو السجون والمعتقلات، أو ضحية الهجرة إلى بلدان لا تضمر لنا سوى الشر، نجد في المقابل الدول المتقدمة تتولى رعاية مفكريها وعلمائها وأصحاب العقول فيها؛ فتوفر لهم مراكز رعاية خاصة، تستكشف قدراتهم الخلاقة، وتستثمر طاقاتهم الإبداعية، وتوجههم الوجهة التى يجدون فيها أنفسهم، ويطورون فيها إمكاناتهم وابتكاراتهم، وهذا هو السر في كسب هذه الدول معركة التقدم والحضارة !

وهكذا نرى أن السباق اليوم بين الأمم أصبح يجري في ميدان إنتاج الأفكار وإبداع العقول، بينما التسابق في ساحاتنا العربية يجري في تهجير العقول، وفي تحطيمها في السجون والمعتقلات؛ وفي معارك وحروب عبثية، ما يجعل العربي صاحب الفكر والعقل يتحين الفرصة للهجرة !

غياب استراتيجيات التعليم :

لا جدال بأنه لا يمكن مسايرة عصر التقنية والذكاء الاصطناعي إلا بوجود استراتيجية تعليمية عربية واعية؛ تستهدف استنبات المعرفة محلياً، ورعاية الموهوبين واحتضان المبدعين وتشجيعهم !!

لكن .. للأسف مازال المشهد العربي يكشف عن وطن طارد للكفاءات، غير معني برعاية أصحاب الكفاءات العقلية من شباب الأمة؛ وهذا ما يساهم باستنزاف الطاقات العقلية الذكية التي باتت تهاجر نحو الخارج بحثاً عن بيئة علمية مناسبة توفر لها إمكانيات الإبداع ومقتضيات العيش الكريم .!

والخلاصة ..

لا سبيل اليوم إلى بلوغ عصر الأنوار العربي المنشود إلا باستنبات المعرفة فى الأرض العربية، ورعاية العقول المبدعة المتميزة، وتوفير البيئات المناسبة لتطوير مواهبها، واستثمار قدراتها فى إنتاج المخترعات .

فالعقل العربى المبدع يبقى هو أساس التقدم المنشود، وينبغي النظر إلى هذه القضية باعتبارها "قضية أمن قومي عربي" وهي قضية كبيرة تتطلب التعاون العربي، على المستوى الأكاديمي الحكومي والخاص، علماً بأن خبراء التنمية في العالم متفقون على أهمية مراكز البحوث والتطوير، بوصف هذه المراكز هي قاطرة التنمية ومحرّكها .

يبدو أن الأسباب المتعلقة بالحرية عموما، (السياسية والفكرية والتعبير عن الرأي..) وحرية البحث العلمي والأكاديمي خصوصا، حاضرة بقوة في أسباب الهجرة. فهل تشاطرون هذا التقييم؟

د. نوير: بلا شك. فقد أرجع التقرير الأول التابع لجامعة الدول العربية حول العمل والبطالة، ارتفاع معدّل الهجرة إلى تزايُـد القيود المفروضة على حرية ممارسة البحث العِـلمي والفكري الحر في أغلب الدول العربية، ما يترتّـب عليه شعور مُـتزايد بالإغتراب للكفاءات العلمية والفكرية العربية داخل أوطانها وترقّـبها فرص الهجرة إلى الخارج، حيث يُـهاجر نحو 20% من خرِّيجي الجامعات العربية إلى الخارج، بسبب القيود المفروضة على حرية البحث العِـلمي والتفكير الحُـر.

يُـضاف إلى ذلك، واقع حرية الرأي والتعبير التي تُـعاني تقييداً وقمْـعاً، وهي أمور ذات أهمية كبيرة يحتاج فيها الباحث إلى الحرية في البحث والتحقيق وتعيين المُـعطيات وإصدار النتائج، ولا يزال العالم العربي يتعامل مع الأرقام بصِـفتها مُـعطيات سياسية، ذات حساسية على موقع السلطة.

وتشير تقارير عربية إلى تدخّـل السلطة السياسية في أكثر من ميدان، لمنع إصدار نتائج أبحاث أو دراسات، تكون الدولة تكبّـدت مبالغ لإنجازها، وذلك خوفاً من أن تؤثِّـر نتائج الدِّراسات في الوضع السياسي السائد.

ما هي أبرز الآثار السلبية لهجرة العقول العربية إلى الغرب على واقع ومستقبل التنمية في الوطن العربي؟

د. نوير: تُـفرز هجرة العقول العربية إلى البلدان الغربية عدّة آثار سلبية على واقع التنمية في الوطن العربي، ولا تقتصر هذه الآثار على واقع ومستقبل التنمية الاقتصادية والاجتماعية العربية فحسب، ولكنها تمتدّ أيضاً إلى التعليم في الوطن العربي وإمكانات توظيف خرِّيجيه في بناء وتطوير قاعِـدة تِـقنية عربية، ومن أهم الانعكاسات السلبية لنزيف العقول العربية:

1. ضياع الجهود والطاقات الإنتاجية والعِـلمية لهذه العقول، التي تصُـب في شرايين البلدان الغربية، بينما تحتاج التنمية الوطنية لمثل هذه العقول في مجالات الاقتصاد والتعليم والصحة والتخطيط والبحث العلمي.

2. تبديد الموارد الإنسانية والمالية التي أنفقت في تعليم وتدريب الكفاءات، التي تحصل عليها البلدان الغربية دون مقابل.

3. ضُـعف وتدهور الإنتاج العلمي والبحثي في وطننا، بالمقارنة مع الإنتاج العِـلمي للعرب المهاجرين في البلدان الغربية.

ما هو حجم الخسائر التي مُـنيت بها الدول العربية جرّاء هجرة العقول العربية للخارج؟

د. نوير: من الثابت الذي لا ينكره عاقل، أن خسارة القدرات البشريّة المتخصّصة تفقد العرب مورداً حيوياً وأساسياً في ميدان تكوين القاعدة العلمية للبحث والتكنولوجيا وتبدّد الموارد المالية العربية الضخمة، التي أُنفقت في تعليم هذه المهارات البشريّة وتدريبها، والتي تحصل عليها البلدان الغربية بأدنى التكاليف. ففي وقت يهاجر فيه أو يُـضطر أو يُـجبر على الهجرة مئات الآلاف من الكفاءات العربية إلى الولايات المتحدة وكندا وأوروبا الغربية، تدفع البلدان العربية أموالاً طائلة لاستجلاب خِـبرات دولية!

بلغت الخسائر التي مُـنيت بها البلدان العربية من جرّاء هجرة الأدمغة العربية في عقد السبعينيات فقط 11 مليار دولار، فيما يقدّر الخبراء إجمالي الخسائر نتيجة هذه الظاهرة اليوم، بأكثر من 200 مليار دولار. والغريب، أنه في حين تخسر الدول العربية، وفي مقدمتها مصر، من ظاهرة هجرة العقول، فإن إسرائيل المستفيد الأول من هذه الظاهرة بفعل الهجرة عالية التأهيل القادمة إليها من شرق أوروبا وروسيا وبعض الدول الغربية.

ومن الخسائر التي مُـنيت بها الدول العربية، أن هجرة العقول إلى الخارج تسبّـبت ولا تزال في تخلّـف حقول المعرفة في العالم العربي وإضعاف الفِـكر العلمي والعقلاني، وعجْـزه عن مجاراة الإنتاج العلمي العالمي في أي ميدان من الميادين، لكن الخسارة الكبرى، تتبدى في الأثر السلبي الذي تتركه هذه الهجرة على مستوى التقدم والتطور المطلوب في المجتمعات العربية في الميادين العِـلمية والفكرية والتربوية والاقتصادية والاجتماعية، وهو أثر يؤثر سلبياً على مشاريع التنمية والإصلاحات، مما يزيد التخلّـف السائد أصلاً في هذه المجتمعات، وذلك بعدما بات مِـقياس التقدّم متّـصلاً اتصالاً وثيقاً بمدى تقدّم المعرفة وإنتاجها.

ما هي أكثر الدول استقطابا للأدمغة والعقول العربية.. ولماذا؟

د. نوير: لا شك أن الدول الغربية عمومًا هي الرابح الأكبر من هجرة ما لا يقِـل عن 450 ألفًا من العقول العربية، فيما تحظى الولايات المتحدة بالنّـصيب الأكبر من الكفاءة والعقول العربية بنسبة 39%، تليها كندا 13.3%، ثم إسبانيا بنسبة 1.5%، كما أن 34% من الأطباء الأكفاء في بريطانيا، ينتمون إلى الجاليات العربية، وتتضمّـن هذه الأرقام، العديد من الفئات في مِـهَـن وتخصصات مختلفة.

وتتجلى الخطورة في أن عدداً من هؤلاء يعملون في أهم التخصّـصات الإستراتيجية، مثل الطب النووي والجراحات الدقيقة والهندسة الإلكترونية والميكرو إلكترونية والعلاج بالإشعاع والهندسة النووية وعلوم الليزر وتكنولوجيا الأنسجة والفيزياء النووية وعلوم الفضاء والميكروبيولوجيا والهندسة الوراثية.

وقد أوضحت دراسة حديثة عن عواقب هجرة العقول والأدمغة العربية إلى الدول المتقدمة، أعدّها مركز الخليج للدراسات الإستراتيجية، أن العديد من الدول المتقدِّمة تشجِّـع العقول والأدمغة العربية النابغة على البقاء في الدول التي هاجروا إليها. وضرب التقرير مثالا على ذلك، بقرار أصدره الكونغرس الأمريكي بزيادة نسبة الحصول على بطاقات الإقامة للمتخرِّجين الأجانب في مجال التكنولوجيا المتطوّرة من 90 ألفا في السنة إلى 150 ألفا، ثم إلى 210 ألفًا في العام الحالي.

وأشارت الدراسة إلى أن حوالي 60% ممّـن درسوا في الولايات المتحدة خلال الثلاثين عامًا الأخير، لم يعودوا إلى بلادهم، وأن 50% ممّـن درسوا في فرنسا، لم يعودا أيضًا لبلادهم.

برأيك.. أليست هناك أية آثار إيجابية لهجرة العقول العربية للخارج؟

د. نوير: لا نستطيع أن ننكر أن هناك بعض الآثار الإيجابية لهجرة العقول العربية إلى الدول المتقدمة، تأتي في مقدِّمتها تنمية قدراتهم وكفاءاتهم العقلية والعِـلمية، بفضل الحرية المتاحة في الغرب والميزانيات الكبيرة المفتوحة أمام البحث العلمي، فضلا عن توفر أحدث المعامل والمراكز والأدوات والأجهزة البحثية، إضافة إلى الاهتمام الكبير الذي يلمسه الباحثون العرب من المسؤولين عن المنظومات البحثية في الغرب، غير أن هذا كله لا ينفي أن الخسائر التي مُـنيت بها الدول العربية فادِحة، ولا تقارن بما يمكن تسميته بالمكاسب أو الإيجابيات!

ماذا استفاد العالم المتقدِّم في أوروبا وأمريكا من العقول العربية التي هاجرت إليها؟

د. نوير: لا ينكر المُـنصفون في الغرب أن هذه العقول المهاجرة تُـعتبر رصيداً إضافياً لها في مجال الريادة العلمية والفكرية، وأنها تساهم إسهاماً فاعلاً في التقدّم الصناعي والتكنولوجي وتسرّع من حركة التنمية الشاملة فيها، ولعل أكبر دليل على ذلك، حصول بعض العلماء العرب المهاجرين للغرب على جائزة نوبل في تخصصاتهم الدقيقة، ونذكر منهم على سبيل المثال الدكتور أحمد زويل، الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1999 لإنجازاته العلمية الهائلة في دراسة وتصوير ذرّات المواد المُـختلفة خلال تفاعلاتها الكيميائية، باستخدام ثانية "الفيمتو المطيافية".

وكيف السبيل إلى وقف نزيف هجرة العقول العربية للخارج؟ وهل هناك تجارب أخرى ناجحة (مثل الصين والهند وغيرها)؟

د. نوير: للأسف الشديد، فليس هناك خطة عربية واضحة لوقْـف نزيف هجرة العقول والأدمغة العربية إلى الخارج أو تشجيع العلماء المهاجرين على العودة إلى بلادهم. والواجب، يقتضي أن تقوم الجامعة العربية بدراسة مكثّـفة عن واقع العقول العربية المهاجِـرة وعن واقع الهجرة القائمة حالياً، والتي تستنزف أعدادًا هائلة من الأكفاء وشحذ روح الحس الوطني لديهم، بدلاً من نِـسيانهم، وذلك يتمثّـل بتشجيع إقامة تجمّـعات واتِّـحادات وأندية تجمعهم، وتُـتيح لهم فرص التعرّف على بعضهم البعض، ناهيك عن أن مثل تلك الاتحادات تُـمكِّـن المتخصصين في الوطن العربي الاتصال بهم والتعاون معهم، كل في مجال تخصصه.

أعتقد أن توطين التقنية ونقل المعرفة من الدول المتقدمة صناعيا، مثل أمريكا واليابان وجنوب شرق آسيا وأوروبا، يحتاج إلى قناة اتصال أساسها العنصر البشري، لذلك، فإن وجود عقول عربية ذات خِـبرات وكفاءات متميِّـزة في الدول المتقدِّمة، يساعد في الإسراع في عملية النقل، وخير شاهد على مثل هذا التوجّـه، استفادة كل من الهند من علمائها المهاجرين، وكذلك الصين.

إن هذا يعني أن وجود العقول العربية المهاجرة، يُـعتبر عُـنصر شراكة بين الغرب والعالم العربي، حيث أنها زُرعت في العالم العربي ثم آتت أكلها في الدول الغربية.

إذا أردنا الحديث عن نهضة حقيقية للبحث العلمي في الوطن العربي، فما هي في تقديرك "روشتة" (وصفة) النهضة؟

د. نوير: أعتقد أن روشتة النهضة الحقيقية للبحث العلمي تتلخص في:

1. المشاركة الفعّـالة للقِـطاع الخاص في تمويل الأنشطة العلمية.

2. استثمار البحوث العِـلمية استثمارًا حقيقيًا في خدمة المجتمع.

3. تحسين وتيسير التّـواصل بين قطاع البحث العِـلمي والمُـنشآت الصناعية.

4. مضاعفة الإنفاق العربي على البحث العِـلمي إلى 11 ضعفا عن المعدّلات ‏‏الحالية.

5. تطوير السياسات المشّـجعة على تطوير البحث العِـلمي في كل قطاعات المجتمع.

6. تفعيل الاستفادة من الأعمال البحثية والتعليمية، لتحسين المشروعات الصغيرة والمتوسطة.

7. إنشاء قاعدة عِـلمية قوية تتبنّـى إستراتيجيات لتطوير البِـنية التحتية لمؤسسات البحث العِـلمي.

8. زيادة الدّعم المالي المخصّص لمؤسسات البحث العلمي، وتقديم المِـنح السخية لبرامج البحث العلمي والتطوير.

9. تفعيل العلاقات بين الجامعات ومراكز البحث من جهة، والقطاع الخاص من جهة أخرى سعيًا وراء حل مسائِـل تكنولوجية محدّدة.

10. تسهيل التّـواصل بين الباحثين والمنشآت الصناعية، ومنح صلاحيات مناسبة تمكِّـن الباحثين من الاستفادة المباشرة من أعمال وبرامج المنشآت الصناعية.

11. استقلال الجامعات والمؤسسات البحثية من نفوذ السلطة، وإعطاء الحرية الكاملة للمؤسسة العِـلمية في رسْـم سياساتها وبرامجها، وتعيين مَـن تشاء في سُلَّـمها الوظيفي.

هل تبذل بلدان عربية جُـهودا معيّـنة لاستعادة العقول والخِـبرات المهاجرة، أم أنها يئِـست من ذلك تماما؟

د. نوير: هناك محاولات بُـذلت في هذا الصّـدد من بعض الدول العربية، كالكويت والعراق وليبيا، حيث وضعوا برامِـج وخططا وافتتحوا مراكز للبحث العلمي، لتشجيع العقول العربية المهاجرة على العودة، إلا أن هذه المحاولات لم تنجح إلا في استقطاب القليل من الخِـبرات، نظرا لعدم شمولية المعالجة وعدم النجاح في التمهيد العِـلمي لها بإيجاد بيئة علمية مستقرة.

وأعتقد أن أية دولة عربية تنشُـد الاستفادة من العقول العربية المهاجرة أو تنشد نقل وتوطين التقنية بصورة عامة عليها، أن تُـعدّ العِـدّة وتكون جاهزة لذلك من خلال المؤسسات الجامعية ومراكز البحث العلمي والتطوير داخلها وخارجها، ناهيك عن الجهات المعوّل عليها في نقل المعرفة العلمية والتكنولوجية وتوطينها، لذلك، فإنها مَـنوطة بتبنّـي نظام مبْـني على التعليم والتدريب والبحث، ذلك أن تلك الأساليب هي الأكثر ملاءمة للتّـحديث على المدى القصير والبعيد.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين