الزواج  نعيم أم جحيم ؟

 

كثرت في السنوات الأخيرة الأصوات التي تذمّ الزواج وتنفّر منه، وتمدح حياة العزوبية وتشيد بمزاياها، ولئن كان بعض ما يقال انما يأتي في سياق المزاح والتفكّه الا أن كثرة ترداد الكلام يترك أثراً في نفوس متلقّيه تبدو تبعاته في سلوكهم لاحقاً .

هذه الدعوات تأتي نتيجة خلل في البناء الفكري لمروّجيها يتمثّل في عدّة أوجه،

الأول : العزوف عن اتباع شرع الله وهدي نبيّه صلى الله عليه وسلّم في جعل الزواج سبيلاً لتوفير السكينة النفسية واشباع الحاجات الجسدية وتحقيق وظيفة التكاثر.

قال تعالى " وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ? إِنَّ فِي ذَ?لِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ " الروم 21

فالدعوات للتنفير من الزواج تروّج في طيّاتها الدعوة للتفلّت الأخلاقي وتفكيك تماسك المجتمع فبدون زواج لا تكون الأسرة، وبدون الأُسَر لا ينشأ المجتمع، بل يصبح مجموعةً من الأفراد التي تسعى لتحقيق مصالحها واشباع شهواتها دون مراعاةٍ لقيمةٍ أو مبدأ .

الثاني : التهرّب من حمل المسؤوليّة ، وتفضيل العيش الاتّكاليّ على الاستقلال بتكوين أسرة لها دورها في المجتمع، فالعازب غالباً يعيش في بيت أبويه ولا يحمل كثيراً من المسؤوليات لذا يفضّل بعض الشباب هذا النمط من الحياة كسلاً وتقاعساً .

الثالث : وهو ما سأناقشه باسهاب في هذا المقال هو التصورات المغلوطة التي يحملها كثير من الشباب والشابات عن مفهوم الزواج، فمنهم ( وهذا في البنات أكثر) من يتخيّل الحياة الزوجية أحلاماً ورديّة خالية تماماً من كل أنواع المتاعب أو المنغّصات ... فان وجدت غير ذلك انقلبت تذمّ الزواج وأهله ... ومنهم من يتصوّر الزواج ساحة صراع والبقاء فيها للأقوى، فيأخذ حقوقه وما فوقها، ويمتنع عن أداء بعض واجباته ظلماً ونكاية، ويتصوّر أنه بذلك يثبت قوته وجبروته، وينسى أنه ينسف أهمّ ما جعل الله الزواج لأجله " لتسكنوا اليها " ... ويكون سبباً في تشويه مفهوم الزواج عند صحبه وأقرانه، ودافعاً لهم لذمّه والنفور منه. 

ولعلّ العقلاء ومن يحرصون على تغذية عقولهم بالقراءة والاطّلاع يدركون أن الحياة الزوجيّة جزء من الحياة عامّةً بشموليتها، فيها الحلو وفيها المرّ، فيها السعادة وفيها الحزن، فيها الراحة وفيها التعب ... باختصار فإن نفس قوانين الحياة تسري في الزواج، لا بدّ لك من التعب لتحصد النجاح، ولا بدّ من التعاون بين الشريكين ليسير المركب بهدوء يخترق عباب الحياة ولا تهزّه الرياح ولا العواصف.

ومن المفيد هنا أن نعرّف الجيل الصاعد بالمراحل التي يمرّ بها الزواج، ليكونوا على بيّنة من أمرهم، ولنكون لهم عوناً على بناء بيوت متينة تحفّها المودّة والرحمة كما أرادها لنا الله . وقد وجدت أن من أفضل ما يصف مراحل الزواج ما طرحه الأستاذ المربّي الدكتور ابراهيم الخليفي في احدى محاضراته، اذ يقول أن الزواج يمرّ بثلاث مراحل،

الأولى : مرحلة التعارف حيث يتعرف كلّ طرف على ما يسعد الآخر ويحقق له الطمأنينة والسكينة، وأهم الاحتياجات التي ينبغي تحقيقها في تلك المرحلة :

الحاجة الى الانتماء، والشعور بأن لهما كياناً واحداً يضمهما ويستقلان به عمّن حولهما .

الحاجة الى التقدير: فالرجل يحتاج الى مدح رجولته وقيامه بشأن بيته، والمرأة تحبّ مدح جمالها وحسن صنيعها.

الحاجة الى الترويح: فلا بدّ من كسر جوّ الروتين والخروج للاستمتاع بالطبيعة، وكذلك لا بدّ لكل منهما من إتاحة المجال لشريكه للقاء أصدقائه الذين يأنس بصحبتهم، وتفهّم حاجته لهم، وأن وجودهم مفيدٌ، بل وضروري.

المرحلة الثانية : مرحلة التآلف والوصول الى حالة الاطمئنان بحيث يبوح كل منهما بمكنونات صدره لزوجه، ويأتمنه على أسراره، ويصارحه بما قد يسوؤه منه وما يرضيه دون خوف أو قلق، وهذه المرحلة تأتي بعد تدريب على تبادل المشاعر وتقبّلها بصدر رحب وحمل النفس على التخلّي عن الأنانيّة حرصاً على صحة العلاقة الزوجية .

المرحلة الثالثة : مرحلة التعاضد والتكاتف وهذه المرحلة تأتي غالباً بعد مرور سنوات من الزواج، فيصل الزوجان الى تمام الألفة وتمام الالتحام، ويصبح كل منهما قرّة عين للآخر، وجنّة الدنيا في عينيه، ويرى كل منهما الحياة من خلال زوجه ولا يتصوّرها بغير وجوده.

ولعلّ من المفيد بعد ذلك أن نعلم أنّ الحياة الزوجية تقوم على ما تقوم عليه العلاقات بين الناس فلا بدّ من الاحترام المتبادَل وعدم التجريح أو التقليل من شأن الآخر، ولا بدّ من التغافل عن الزلّات والهفوات، وتقبّل الأعذار، والتعاون على اصلاح الأخطاء، وحسن المصارحة وحسن الاستماع والانصات، وليحرص كل منهما أن يكون نِعم الصديق لصاحبه، فلا يعامله معاملة الندّ للندّ ، ولتكن هناك دوماً مساحةً للمرح والضحك وطرح الهموم ... وبذلك تتحقّق بينهما السكينة وتفيض حياتهما مودّة ورحمة بعون الله.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين