الرحمة بالأولاد منحة من الله للعباد

ومن المشاعر النبيلة التي أودعها اللّه في قلبي الأبوين ، شعور الرحمة بالأولاد ، والرأفة بهم ، والعطف عليهم .. وهو شعور كريم له في تربية الأولاد وفي إعدادهم وتكوينهم أفضل النتائج ، وأعظم الآثار .

والقلب الذي يتجرد من خُلق الرحمة ؛ يتصف صاحبه بالفظاظة العاتية ، والغلظة اللئيمة القاسية .. ولا يخفى ما في هذه الصفات القبيحة من ردود فعل في انحراف الأولاد ، وفي تخبطهم في أوحال الشذوذ ، ومستنقعات الجهل والشقاء ..

لهذا كله نجد شريعتنا الإسلامية الغراء ، قد رسَّخت في القلوب خلق الرحمة ، وحضّت الكبار من آباء ومعلمين ومسؤولين على التحلي بها ، والتخلق بأخلاقها .

وإليكم اهتمام الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه بموضوع الرحمة ، وحرصه الزائد على تحلي الكبار بهذا الخلق الكريم ، والشعور النبيل :

- روى أبو داود والترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي اللّه عنهم قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : " ليس منا من لم يرحم صغيرنا ، ويعرف حق كبيرنا " .

- وروى البخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال : ( أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ ومعه صبي ، فجعل يضمه إليه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أترحمه ؟ قال : نعم ، قال: فاللّه أرحم بك منك به، وهو أرحم الراحمين ) .

- وكان عليه الصلاة والسلام إذا رأى أحدًا من أصحابه لا يرحم أولاده يزجره بحزم ، ويوجهه إلى ما فيه صلاح البيت والأسرة والأولاد ... فقد روى البخاري في الأدب المفرد عن عائشة رضي اللّه عنها قالت : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أتقبِّلون صبيانكم ، فما نقبلهم ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أوَ أملك لك أن نزع اللّه من قلبك الرحمة ؟ " .

- وروى البخاري أن أبا هريرة رضي اللّه عنه قال : قبَّل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي ، وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالس ، فقال الأقرع : إن لي عشرة من الولد ما قبلتُ منهم أحدًا ، فنظر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إليه ثم قال : " من لا يَرحم لا يُرحم " .

- وروى البخاري في أدبه عن أنس بن مالك قال : ( جاءت امرأة إلى عائشة رضي اللّه عنها ، فأعطتها عائشة ثلاث تمرات ، فأعطت كل صبي لها تمرة ، وأمسكت لنفسها تمرة ، فأكل الصبيَّان التمرتين ونظرا إلى أمهما ، فعمدت الأم إلى التمرة فشقتها ، فأعطت كل صبي نصف تمرة ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبرته عائشة فقال : وما يعجبك من ذلك ؟ لقد رحمها اللّه برحمتها صَبِيَّيْها ) .

- وكان عليه الصلاة والسلام إذا رأى طفلًا يحتضر ، وأوشكت أن تفيض روحُه فاضت عيناه بالدموع حزنًا وعطفًا على الصغار ، وتعليمًا للأمة فضيلة العطف والرحمة ... روى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد رضي اللّه عنهما قال : أرسلَتْ بنتُ النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبيها أن ابني قد احتُضر (1) فاشْهَدْنا ، فأرسل عليه الصلاة والسلام يُقرئ السلام ، ويقول : " إن للّه ما أخذ وله ما أعطى ، وكل شيء عنده بأجلٍ مسمى فلتصبر ولتحتسب " . فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينها ، فقام ومعه سعد بن عبادة ، ومعاذ بن جبل ، وأُبي بن كعب ، وزيد بن ثابت ، ورجال رضي اللّه عنهم ، فرفع إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الصبي ، فأقعده في حجره ، ونفسه تقعقع (2)، ففاضت عيناه ، فقال سعد : يا رسول اللّه مَا هذا ؟ فقال : " هذه رحمة جعلها اللّه تعالى في قلوب عباده". وفي رواية : " جعلها اللّه في قلوب من شاء من عباده ، وإنما يرحم اللّهُ من عباده الرحماء " .

وينبغي ألا يغرب عن البال أن ظاهرة الرحمة إذا حلت قلب الأبوين ، وترسخت في نفسيهما ؛ قاما بما يترتب عليهما من واجب ، وأديا ما عليهما من حق تجاه من أوجب اللّه عليهما حق الرعاية ، وواجب المسؤولية ، ألا وهم الأولاد !!..

(جـ) كراهية البنات جاهلية بغيضة :

الإسلام بدعوته إلى المساواة المطلقة والعدل الشامل ، لم يفرق في المعاملة الرحيمة، والعطف الأبوي ، بين رجل وامرأة ، وذكر وأنثى ، تحقيقًا لقوله تبارك وتعالى : {اعدلوا هو أقرب للتقوى } .( المائدة : 8 )

وتنفيذًا لأمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم القائل في الحديث الذي رواه أصحاب السنن ، والإمام أحمد ، وابن حبان عن النعمان بن بشير رضي اللّه عنهما : " اعدلوا بين أبنائكم ، اعدلوا بين أبنائكم ، اعدلوا بين أبنائكم " .

فانطلاقًا من هذا الأمر القرآني والتوجيه النبوي ، حقق الآباء في أولادهم عبر العصور والتاريخ مبدأ العدل والمساواة في المحبة ، والمعاملة ، والنظرة الحانية ، والملاطفة الرحيمة ، دون أن يكون بين الذكور والإناث أي تمييز أو تفريق !!..

وإذا وُجد في المجتمع الإسلامي آباء ينظرون إلى البنت نظرة تمييز عن الولد ؛ فالسبب في هذا يعود إلى البيئة الفاسدة التي رضعوا منها أعرافًا ما أنزل اللّه بها من سلطان ، بل هي أعراف جاهلية محضة ، وتقاليد اجتماعية بغيضة ، يتصل عهدها بالعصر الجاهلي الذي قال اللّه تعالى فيه : { وإذا بُشِّر أحدُهم بالأنثى ظل وجهه مسودًّا وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بُشِّر به ، أيمسكه على هُونٍ أم يدُسُّه في التراب ، ألا ساء ما يحكمون } .( النحل : 59 )

والسبب في ذلك أيضًا يعود إلى ضعف الإيمان ، وزعزعة اليقين ، لكونهم لم يرضوا بما قسمه اللّه لهم من إناث لم يملكوا هم ولا نساؤهم ، ولا من في الأرض جميعًا أن يغيروا مِن خَلْق اللّه شيئًا ألم يسمعوا إلى ما يقوله اللّه تبارك وتعالى في تدبيره المبرم ، وإرادته النافذة ومشيئته المطلقة وأمره الغالب في شأن الإناث ، وشأن الذكور ؟

{ للّه ملكُ السمواتِ والأرض يخلقُ ما يشاء ، يَهبُ لمن يشاء إناثًا ، ويهًب لمن يشاءُ الذكور * أو يزوِّجهم ذكرانًا وإناثًا ، ويجعلُ من يشاء عقيمًا إنه عليم قدير } .( الشورى : 50 - 49 )

ومن طرائف ما يروّى أن أميرًا من العرب يكنى بأبي حمزة ، تزوج امرأة ، وطمع أن تلد له غلامًا ، فولدت له بنتًا ، فهجر منزلها ، وصار يأوي إلى بيت غير بيتها ، فمر بخبائها بعد عام ، وإذا هي تداعب ابنتها بأبيات من الشعر تقول فيها :

ما لأبي حمزة لا iiيأتينا=يظلّ في البيت الذي يلينا

غضبان ألّا نلد iiالبنينا=تاللّّه ما ذلك في iiأيدنا

وإنما نأخذ ما iiأُعطينا

فغدا الرجل حتى دخل البيت بعد أن أعطته درسًا في الإيمان ، والرضى ، وثبات اليقين ، فقبل رأس امرأته ، وابنتها ، ورضي بعطاء اللّه المقدر ، وهبته المقسومة !!.

ولكي يقتلع رسول الإسلام صلوات اللّه وسلامه عليه من بعض النفوس الضعيفة جذور الجاهلية ؛ خص البنات بالذكر ، وأمر الآباء والمربين . يحسن صحبتهن ، والعناية بهن ، والقيام على أمورهن ، ليستأهلوا دخول الجنة ، ورضوان اللّه عز وجل .. وبالتالي حتى تكون تربية البنات ، وتحقيق الخير لهن على الوجه الذي يرضي اللّه سبحانه ، ويأمر به الإسلام !!..

وإليكم بعض التوجيهات النبوية في وجوب العناية بالبنات ، والاهتمام بهنّ :

- روى مسلم عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : " من عال جاريتين حتى تبلغا ، جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين - وضم أصابعه - " .

- وروى الإمام أحمد في مسنده عن عقبة بن عامر الجهني قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : "من كانت له ثلاث بنات فصبر عليهن ، وسقاهن وكساهن من جِدَته -أي ماله - ، كن له حجابًا من النار " .

وروى الحميدي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات ، أو بنتان أو أختان ، فأحسن صحبتهن ، وصبر عليهن ، واتقى اللّه فيهن دخل الجنة " .

فما على المربين إلا أن يأخذوا بهذه الإرشادات النبوية ، والتعاليم الإسلامية في وجوب العناية بالبنات ، وتحقيق العدل والمساواة بينهن وبين الذكور .. ليحظوا بجنة عرضها السموات والأرض ، ورضوان من اللّه أكبر ، في مقعد صدق عند مليك مقتدر !.

(د) فضيلة من يتجلد لموت الولد :

عندما يصل المسلم إلى درجة عالية من الإيمان ، ويبلغ منزلة رفيعة من اليقين ، ويؤمن حقيقة بالقضاء خيره وشره ، من اللّه تعالى ، تصغر في عينيه الأحداث ، وتهون أمامه المصائب ، ويستسلم للّه سبحانه في كل ما ينوب ويروع ، وتطمئن نفسه، ويستريح ضميره لصبره على البلاء ، ورضائه بالقضاء ، وخضوعه لمقادير رب العالمين .

من هذا المنطلق الإيماني أخبر النبي صلوات اللّه وسلامه عليه ، أن من يموت له ولد فيصبر ويسترجع ؛ يبني اللّه له بيتًا في الجنة اسمه بيت الحمد .. فقد روى الترمذي وابن حبان عن أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : " إذا مات ولد العبد قال اللّه عز وجل لملائكته : قبضتم ولد عبدي ؟ فيقولون : نعم ، فيقول : قبضتم ثمرة فؤاده ؟ فيقولون : نعم ، فيقول : ماذا قال عبدي ؟ فيقولون : حمدك واسترجع (4) ، فيقول : ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة ، وسموه بيت الحمد " .

ولهذا الصبر ثمرات ، يقتطفها الصابر المحتسب ، في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون.

فمن ثمراته أنه سبيل إلى الجنة ، وحجاب من النار .. روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال للنساء مرة : " ما منكن امرأة يموت لها ثلاثة من الولد ، إلا كانوا لها حجابًا من النار ، فقالت امرأة : واثنان ؟ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : واثنان " .

- وروى أحمد وابن حبان عن جابر رضي اللّه عنه قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : " من مات له ثلاثة من الولد فاحتسبهم دخل الجنة ، قال : قلنا يا رسول اللّه: واثنان . قال : واثنان " .. قال أحد الرواة لجابر : أراكم لو قلتم : واحدًا ، لقال : واحدًا ، قال جابر : وأنا أظن ذلك .

ومن ثمرات الصبر كذلك أن الولد الذي يموت وهو صغير يشفع لأبويه يوم القيامة .

- روى الطبراني بإسناد جيد عن حبيبة أنها كانت عند عائشة رضي اللّه عنها ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم حتى دخل عليها ، فقال : " ما من مسلمَين يموت لهما ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحِنْث ( أي سن البلوغ ) إلا جيء بهم يوم القيامة حتى يُوقفوا على باب الجنة ، فيقال لهم : ادخلوا الجنة ، فيقولون : حتى يدخل آباؤنا ، فيقال لهم : ادخلوا الجنة أنتم وآباؤكم " .

وروى مسلم في صحيحه عن أبي حسان قال : توفّي ابنان لي فقلت لأبي هريرة رضي اللّه عنه : سمعت من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حديثًا تحدثناه تطيب به أنفسنا عن موتانا؟ قال : نعم ، " صغارهم دعاميص (5) الجنة يلي أحدهم أباه - أو قال أبويه - فيخذ بناحية ثوبه أو يده ، كما آخذ بصَنِفةِ (6) ثوبك هذا ، فلا يفارقه حتى يدخله اللّه وإياه الجنة " .

ومن المواقف البطولية الإيمانية التي كان يقفها نساء الصحابة رضي اللّه عنهن ، والتي تدل على الصبر والرضى والإيمان عند موت الولد ؛ موقف أم سليم - رضي اللّه عنها - الرائع ، وتجلدها العظيم .. وإليكم القصة بكمالها كما رواها البخاري ومسلم: عن أنس رضي اللّه عنه قال : كان ابن لأبي طلحة رضي اللّه عنه يشتكي ، فخرج أبو طلحة . فقُبض (7) الصبي ، فلما رجع أبو طلحة قال : ما فعل ابني ؟ قالت أم سليم - وهي أم الصبي - أَسَكْنَ (8) ما كان ، فقربت له العشاء فتعشى ، ثم تصنعت (أي تزيَّنت ) أحسن ما كانت تَصنَّعُ قبل ذلك ، فوقع بها ( أي جامعها ) فلما رأت أنه قد شبع وأصاب منها ؛ قالت : يا أبا طلحة أرأيت لو أن قومًا أعاروا عاريتهم أهل بيت ، فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم ؟ قال : لا ، فقالت : فاحتسب ابنك ( أي ابنك مات فاطلب الأجر من اللّه ) ، قال : فغضب ، ثم قال : تَركْتِني حتى إذا تلطَّختُ ( أي أصابتني جنابة بسبب الجماع ) ، ثم أخبرتِني بابني ، فانطلق حتى أتى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان - فأقر عليه الصلاة والسلام أم سليم على ما فعلت - ثم قال : " بارك اللّه ليلتكما " . وفي رواية قال : " اللّهم بارك لهما " ، فولدت غلامًا سماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد اللّه ، فقال رجل من الأنصار : فرأيت تسعة أولاد كلهم قد قرأوا القرآن - يعني من أولاد ( عبد اللّه ) المولود - وما ذاك إلا استجابة لدعوة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حين دعا : ( اللّهم بارك لهما ) .

ولا شك أن الإيمان باللّه سبحانه ، إذا ترسخ في قلب مؤمن ، فإنه يصنع الأعاجيب لكونه يصيّر من الضعف قوة ، ومن الجبن شجاعة ، ومن الشح والبخل بذلًا وسخاء ، ومن الجزع والهلع صبرًا واحتمالًا .

فما أجدر الآباء والأمهات أن يتذرّعوا بالإيمان ، وأن يتسلحوا باليقين حتى إذا أصابتهم مصيبة لم يجزعوا ، وإذا مات لهم ولد لم يتبرّموا ، وإنما كان قولهم : ( إن للّه ما أخذ ، وله ما أعطى ، وكل شيء عنده بأجلٍ مسمى ، فلتصبر ولتحتسب ) حتى يحظوا بالثواب والأجر عند من له الحكم والأمر .

اللهم هوّن علينا مصائب الدنيا ، ورضّنا بقضائك وقدرك ، وتولَّنا في الدنيا والآخرة فإنك خير المتولين يا رب العالمين .

 الهوامش

(1) أي حضرته مقدمات الموت .

(2) تقعقع : أي تتحرك وتضطرب .

(3) يسترجع : يقول : " إنا للّه وإنا إليه راجعون " .

(4) دعاميص : واحد دعموص : أي صغار أهلها ، وأصله دويبة تكون في الماء لا تفارقه ، أي أن هذا الصغير في الجنة لا يفارقها .

(5) بصنفة ثوبك : أي طرفه .

(6) قبض : أي مات .

(7) تقصد أنه مات ، وفهم أبو طلحة أنه تماثل نحو الشفاء .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين