يا أبطال الغوطة: لا تقتلونا مرتين

لم يجد اليقظان السيساوي -عليه غضب الله- مَن يُخوّنه سوى مجاهدي الغوطة العظماء الشرفاء الذين صمدوا وصبروا ستَّ سنين تحت الحصار والنار، حتى تحرّقت الأرض تحت أقدامهم وتهدّم البنيان فوق رؤوسهم ولم يبقَ لهم في قوس الصبر مِنْزَع، فيما لم تصمد جبهته المخذولة (عصابة الجولاني) أكثر من أسبوع، ثم انسحبت بلا قتال وأهدت الأرض للنظام.

على أن هذا الافتراء القبيح لم يزعج أحداً من أهل الثورة لأن السفيه اليقظاني أقلُّ قيمةً من دود الأرض، فلا يحفل بكلامه إلا مَن باعوا عقولهم لكهنة الجولاني ومرقّعيه، وهؤلاء لا خيرَ فيهم في دنيا ولا دين، إنما أزعج الناسَ وآلمَهم تخوينُ بعض ثوار الغوطة لبعض وانتشارُ التلاوم والتهم المتبادلة في الصفحات والمنتديات الثورية.

يا قوم، لقد قتلَنا انهيارُ الغوطة وما نزل بأهلها الكرام من بلاء، فيكفينا الموتُ مرة، لا تُفاقموا غمّنا وحزننا بالتلاوم والمهاترات، لا تقتلونا مرتين.

* * *

لا يُلام جيش الإسلام مهما فعل، لأن من حقه، بل من واجبه، أن ينقذ مئتَي ألف مدني يقيمون في دوما من التهجير وسوء المصير، فأيما اتفاق استطاع أن يعقده مع روسيا أو النظام لضمان أمان السكّان فهو معذور فيه. ولا يُلام على انسحابه من شرق الغوطة في أول المعركة، لأن القصف المسعور الذي افتُتحت به الحملة جعل الثبات في الجبهات من المستحيلات.

ولا يُلام أحرار الشام على انسحابهم من حرستا، فقد أعذروا -على قلّة عددهم وضآلة قوّتهم- وحاولوا كسر الحصار وتغيير المسار، فدفعوا ودفع أهلُ حرستا معهم ضريبةً ثقيلةً لفترة طويلة، وعاشوا تحت القصف في الخوف والحرمان أربعة أشهر كاملات حتى نسي الصغار والكبار لون السماء وضوء النهار، وما بقي بينهم وبين الفناء إلا أمتار أو أشبار.

ولا يلام فيلق الرحمن على الانهيار في القطاع الأوسط بعدما صمد الوقت الأطول في جبهة جوبر وجرّع العدو كأس المرارة والهوان، لا يلام على الانهيار بعدما حرق العدوُّ الأرضَ بما عليها واغتال البشر والحجر، حتى بدَت بلداتُ الغوطة وكأنها خارجةٌ من حرب نووية مدمرة هوجاء، وحتى قال لي صديق فلسطيني عاصر قصف غزة وعاش عدوان اليهود على فلسطين عام وسبعة وستين، قال: هذه حرب حقيقية، حرب لا تكاد تحتملها دول وجيوش!

* * *

ليس أحدٌ من هؤلاء محلَّ لوم هذا اليوم، لكنهم جميعاً أهلٌ للملامة على ما فرّطوا في مَواضي الأيام. ولكنّ الجرح النازف لا يحتمل نَثْرَ الملح، فلا يصنعُ ذلك بجريح كليم إلاّ قبيحٌ لئيم. على أنّ ملفات الغوطة لا بد أن تُفتح في يوم آت بعد أن تبرد الجراح، ليس لتصفية الحسابات، بل للدرس والاعتبار، لأن ما تركناه وراء أظهرنا في هذه الثورة من انتصارات وانكسارات لم يعد ملكاً لأعيان الفصائل وأفراد الناس، بل هو ملك للتاريخ وللأجيال الآتيات، ومن حق الذين قدموا التضحيات الباهظات وأهرقوا دماءهم في هذه الثورة أنهاراً جاريات أن يعرفوا حقيقة ما حصل وأسباب ما حصل، ليس في الغوطة وحدها، بل على كامل التراب السوري، ولهذا الأمر يوم غير هذا اليوم الحزين.

نعم، لا لومَ اليوم، ليس بعدما قدم كل طرف ما وسعه تقديمُه، وليس بعدما أبيدت كل قدرة على الصمود ووصلت الغوطة إلى حافة الفناء. على أنهم كلهم يُلامون على ما مضى من تفرّق وخلاف واقتتال وإعراض عن النصح وتقديم للمصالح الفصائلية والأهواء الشخصية على مصلحة الثورة ومصلحة الناس.

ويلام فيلق الرحمن -فوق هذه الملامة المشتركة- بمَلامة خاصة لا يشفعها له طول بلائه، يُلام على احتضانه لجبهة النصرة ودفاعه عنها يوم لم يبق ناصح إلا ونصحه وطالبه بالابتعاد عنها والتبرؤ منها، ويُلام على ترك أعداء الثورة وعملاء النظام أحراراً يسرحون في الغوطة ويفسدون، فكانوا عليها أشدَّ من مدافع وطيارات الأعداء، ويُلام أشد اللوم على التخبط والانقطاع عن الناس وتركهم في ظلمة داجية في وقت حرج عصيب هم أحوج ما يكونون فيه إلى التوجيه والمعلومات.

* * *

أنتم -يا ثوار الغوطة- فخرُ الثورة وشامَتها حيث كنتم وحيث أنتم، في الغوطة أو في المهجر. لقد أديتم ما عليكم، ما كان مطلوباً منكم الصبرُ فوق ما صبرتم، فلا يلومكم على الانهيار والانسحاب منصف عاقل، لا من غيركم ولا من أنفسكم. ولقد رسمنا لكم بصمودكم وثباتكم وتفانيكم العجيب أزهى صورة في الخيال، فلا تلوثوا صورة صمودكم الجميلة الزاهية بالاختلاف والتخوين يرحمكم الله.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين