رسائل مبطنة بليغة

 

ثمة رسائل خفية في بعض الأشياء من حولنا، ودروس مبطنة وصامتة بالغة تنطق بها الأحداث والجمادات ومجريات الأمور التي نعيشها وتعيش فينا ، تعدل في روعتها وأهميتها الرسائل الصريحة والمباشرة ... ولربما كان صمتها ... صمتُ تلك الرسائل أبلغَ من أي كلام، وأبعد وأمضى أثراً من أية موعظة طالت أو قصرت ... على ما يقول الشاعر : 

نطقَتْ بكُمْ موجاتُهُ بسُكوتِها ومن العَجائبِ ساكِتٌ يتكلَّمُ

تعالوا بنا اليوم أيها السادة نتجول في عالمنا القريب لنعي ونتفهم بعض تلك الرسائل الخفية والخافية التي تنطوي عليها الأشياء من حولنا . 

قال بعض الناس لأحد السلف : علام تكثر الجلوس تحت تلك الشجرة، وترسل نظرك بعيداً في أغصانها وأوراقها؟ فقال : إني أفيد منها درساً بليغاً، وأعي عنها موعظة عظيمة ؟ قالوا : درساً وموعظة ؟ ، قال: نعم، قالوا: وما هما؟ قال : تقول لي : إذا رماك الناس بالحجر فارمِ إليهم بأطيب الثمر . 

كن كالنخيل عن الأحقاد مرتفعاً * يُرمى بصخر فيعطي أطيب الثمر 

أيها السادة : 

يولد الواحد منا حين يولد باكياً... محدثاً ضجة في أرجاء البيت أو ردهات المشافي، ولكن أباه مبتهج ... وإخوته فرحون به... وأمه محتفلة بقدومه ناسية لآلامها ... وفي تلك رسالة بليغة عبر أحد الشعراء عنها ؛ فقال: 

ولدتك أمك يا ابن آدم باكياً *** والناس حولك يضحكون سروراً 

فاحفظ لنفسك ان تكون إذا بكوا *** في يوم موتك ضاحكاً مسرورا

إخوة الإيمان : 

نرى الورود في الرياض، والزهور مزورعة حول الغِياض (الغِيَاض: جَمْعُ غَيْضَة، وَهِيَ الشَّجَرُ الملتَفّ) ، فيخطف أبصارنا جمالها، وينعش أرواحنا طيب عطرها ، ويملأ صدرنا عبير عبقها ، ولكن هل أدركنا رسالتها إلينا ؟ إنها تقول لنا:

وكن أرضاً لينبت فيك ورد *** فإن الورد منبته التراب

الصخر لا ينبت زرعاً، والحجرة الصماء لا تعطي كلأً ، والتربة المالحة لا تقدم لزائرها زهرة تهب عطراً ... لا يفعل ذلك إلا التراب ... إلا التربة الرخوة ... اللينة ... التي تُفْلَح ... التي تقلب وجهاً لبطن ... وذاك هو التواضع لا غير ... والتذلل للمسلمين في غير منقصة ... {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }المائدة54. 

حراس الدين والعقيدة : 

قرأنا صغاراً قصة القائد المنهزم، والنملة التي لقنته درساً لم يُلقَّنْه في المدارس العسكرية، ولا في الكليات الحربية ، ولا في دورات القيادة والأركان، ولا وعاها عن قادته ورؤسائه ... وندع الحديث لشيخينا شوقي أبو خليل رحمه الله ونزار أباظة حفظه الله ليحدثانا عنها : 

" ذكروا أنَّ.. قائداً شجاعاً خاضَ حروباً كثيرة فانتصرَ بها، وظنَّ أنَّ النَّصر حليفُهُ دوماً.. فاستهانَ بعدوه الَّذي كان يُهيِّئُ نفسَهُ لقتالِ قائدٍ محنَّكٍ عُرِفَ بالشَّجاعةِ، واشتُهرَ بالنَّصر.

وفي إحدى المرَّات خاض معركةً قاسيةً، فأبطأَ النَّصرُ عليه وتأخَّر، وقُتِل من جنودِهِ أعدادٌ كثيرةٌ، وانسحبَ من المعركةِ يفكِّرُ بتنظيم صفوفِه ثانيةً.

وفي أثناءِ الهدنةِ، فكَّرَ طويلاً، ووازنَ بينَ موقفِهِ وموقفِ عدوِّه، فدخلَ إلى نفسِهِ الخوفُ والاضطرابُ، ثم دبَّ اليأسُ القاتِلُ إلى قلبِه... وقالَ: لقد جاءت النِّهايةُ، وخيرٌ لي ألا أحاولَ مجابَهةَ عدوِّي ثانيةً، لئلا أَرجعَ خائباً مطأطِئ الرَّأسِ إلى بلدي، وقد مَحَتِ الهزيمةُ النَّكراء انتصاراتي القديمةَ، وتاريخيَ المجيد.

وبينما هو كذلكَ في يأسهِ وبؤسهِ، وكأنَّ الهموم كلَّها نزلت عليهِ دفعةً واحدةً، استلقى على سريرهِ يريد أن يستريحَ قليلاً، وإذا بهِ يرى نملةً صغيرةً تحملُ حبَّة قمحٍ تصعدُ بها على الجدارِ، تريدُ أن توصِلَها إلى السَّطح، وكانتِ النَّملةُ كلَّما قطعت مسافةً هوت إلى الأرضِ لثقلِ الحبَّة، وضعفِ قوائِمِها، فتأخذُ الحبَّة مرَّةً أخرى، وتحاول الصُّعودَ ثانيةً.. حتَّى تكرَّر منها ذلك.

لفتتِ النَّملةُ انتباهَ القائدِ، وأنسَتْهُ نفسَه، فكانَ يراقِبُها باهتمامٍ بالغٍ، ويَعُدُّ عليها محاولاتِها المتكرِّرةَ ويعجبُ من إصرارِها غير المحدودِ من أجلِ الوصولِ إلى هدفِها البسيطِ الحقيرِ.. حتى وصلتْ أخيراً – وبعدَ جهدٍ ومشقَّةٍ – إلى السَّطح، وكانَ القائدُ يَعُدُّ عليها محاولاتِها، فبلغتْ أكثرَ من عشرينَ محاولَةً دونَ أن يعرفَ اليأسُ إلى نفسِها سبيلاً.

تعاطفَ القائدُ مع هذه النَّملة، ودهِش من صنيعِها.. لقد تغلَّبت على المصاعبِ في سبيلِ شيءٍ هيَّنٍ.. وانتبهَ لنفسِه وقال: لقد علَّمتني هذه النَّملة درساً عظيماً.. في الجدِّ والمثابرةِ واجتنابِ اليأسِ، فحزمَ أمرَهُ، ووضعَ خطَّةً جديدةً متناسياً أمجادَه الماضيةَ، مفكِّراً في حاضرهِ ومستقبلِه.

جمعَ جنودَه وبثَّ فيهم روحَ العزيمةِ وذكَّرهم بمستقبل وطنِهِم وأهلِهِم، وقصَّ عليهَم حكايةَ النَّملةِ الضَّعيفةِ المجدَّةِ، فسرتْ روحُ العزيمةِ والوطنيَّةِ في قلوبِهم، وخاضوا معركةً مظفَّرة.

الرَأيُ قَبلَ شَجاعَةِ الشُجعانِ *** هُوَ أَوَّلٌ وَهِيَ المَحَلُّ الثاني

فَإِذا هُما اِجتَمَعا لِنَفسٍ مِرَّةٍ *** بَلَغَت مِنَ العَلياءِ كُلَّ مَكانِ

وَلَرُبَّما طَعَنَ الفَتى أَقرانَهُ *** بِالرَأيِ قَبلَ تَطاعُنِ الأَقرانِ

أيها الأماثل : 

أترون إلى النعش الذي نحمل عليه موتانا، ونشيع من خلاله من فقدنا من أحبابنا ... إنه ليس جماداً لا يتحرك، ولا يتكلم، لا ... إنه يقول لكل واحد من ناظريه وحامليه :

انظر إلي بعقلك * أنا المهيأ لنقلك

أنا سرير المنايا * كم سار مثلي لمثلك

كما تحمل غيرك سيحمل يوماً غيرُك ....

وكما تصلي صلاة الجنازة على غيرك سيصلي عليك غيرك ...

وكما تغسل الآخرين سيغسلونك يوماً ما ... يوم يراق عليك الماء وأنت ممد على المغتسل ، فإن كان الماء بارداً لا تستطيع رده، أو ساخناً لا تملك أن تدفعه عن وجهك وجسدك ... 

يومها لا تنزع عنك لباسك الفاخر بإرادتك، بل سينزعونه عنك عنوة، ويجردونك من ساعتك الغالية وخاتمك الثمين .... 

كلها رسائل صامتة ... ورب صمت أبلغ من كلام أيها السادة الكرام ... 

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ }ق37.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين