القلنسوة المائلة

قالوا: ما معنى قوله تعالى: "وإذا بشر أحدهم بالأنثى  ظل وجهه مسودا وهو كظيم، يتوارى  من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هونٍ أم يدسه في التراب"؟ 

قلت: نعى الله على أهل الجاهلية اتخاذهم لله البنات، وجعلهم الملائكة إناثا، مقرِّعا لهم عائبا عليهم صنيعهم، وهم يكرهون البنات لأنفسهم مستهينين بهن ومحقِّرين إياهن تحقيرا.

قالوا: لماذا بلغ الهوان بالمرأة وضيمها هذا المدى؟ 

قلت: إن عامة الناس لا يحترمون إلا القوة أو ما هو بديل عن القوة. 

قالوا: ماذا تعني بالبديل؟ قلت: المال. 

قالوا: سألناك عن امتهان الرجل المرأة، وعدلت عنه إلى موضوع القوة والمال. 

قلت: تعد المرأة من سقط المتاع لأنها تزهد فيما يتنافس فيه الرجال من السعي لإحراز أسباب القوة والمال، وترغب فيما يزهدون فيه من تنشئة الجيل الجديد وتربيته تربية تؤهله للمستقبل وتعده له إعدادا.

قلت: ومن ثم كان الجاهليون يحتفلون بميلاد الذكور شادين طربين، ويتهادون التبشير به متهللين ومغتبطين، ويطوون ميلاد البنات مكفهرة وجوههم ممتعضة بواطنهم كاظمي الغيظ، وقد يتهور بعضهم في سفه وطيش إلى وأد البنات ودسهنَّ في التراب، متسلطة عليهم جنود إبليس لاعبة بعقولهم وساخرة من فعالهم، فيا لفظاظة القلوب! ويا لبشاعة المشهد الذي يتندى له الجبين وتشمئز منه النفوس، وشاع فيهم القول المأثور: "دفن البنات من المكرمات".

وهذا أعرابي أنشد قصيدة يفخر فيها بوأده ابنته ومطلعها:

سميتها إذ ولدت تموت

والقبر نزل طيب وبيت

وقال بعض أهل الجاهلية:

يا رب حسبي من بنات حسبي

شـيبن رأسي وأكـلن كسبي

إن زدتـنى أخرى خلعت قلبي

وزدتنـى همًّـا يـدق صلبي

وقال آخر:

لكل أب بنت يرجى بقاؤها

ثلاثة أصهار إذا ذكر الصهر

فبيت يغطيها وبعل يصونها

وقبر يواريها وخيرهم القبر

إني وإن سيق إلي المــهر

ألف وعبدان وذود عشر

أحب أمهارى إلي القبر

قالوا: هل اشتركت المجتمعات الجاهلية في إهدار كرامة المرأة، أم هو إثم تولى كبره أناس دون أناس؟

قلت: هي جريمة تفشت في الشعوب والأقوام، ووباء تعدى إلى عامة الأصقاع والبلاد، وليست ظاهرة انفردت بها العرب في جاهليتها، وقد رويت قصة أعجمية تدل على توغل الاستهانة بالمرأة في قلوب الرجال، قالوا: وما هي؟

قلت: زعموا أنه كان من شعار الملوك الفرس وضع القلانس على الرؤوس مائلة ومزورَّة ازورارا، وقلدهم الناس في هذه الهيئة الدالة على الفخر والبطر، وحاكوهم محاكاة، فشدد ملك على الرعية وحرم عليها إمالة القلانس على رؤوسها، وأمر أنه من اطلع عليه وهو مائلة قلنسوته قبض عليه وألزم بدفع غرام مالي قيمته دينار، فارتدع الناس من ذلك إلا رجل من أغنى التجار وأثراهم، يبرز في السوق مساء لابسا زيا جميلا مائلة قلنسوته، فتقبض الشرطة عليه وتشخصه إلى الملك، ولا يفك أساره حتى يؤدي الغرام المطلوب، ويعود التاجر إلى ذلك كل مساء غير مكترث بما يلزم من إتاوة، حتى انقطع يوما، فقال الملك: كنت أعلم أن الرجل مهما كان غنيا، فإن ماله سينفد، ولكني أعجبني الرجل دأبا وإلحاحا، فتقصوه لماذا انقطع، فبحثوا عنه، ورفعوه إلى الملك، فقال الملك: إن الثري يملق إملاقا إذا خرج جزء من ماله كل يوم إتاوة وغراما، فقال الرجل: أيها الملك! ما فني مالي ولا بادت ثروتي، وعندي من المال ما لو بقيت أدفع هذا الغرام كل يوم وكذلك أولادي من بعدي فإنه لن ينقضي، فقال الملك: فما لك أحجمت عن لبس القلنسوة المائلة؟ قال: لأنه ولدت لي بنت، فلم تبق لي كرامة أن أضع على رأسي القلنسوة المائلة.

قالوا: قد بلغت إهانة المرأة غايتها في تلك المجتمعات، وإنا نعيش في عصر أعاد إلى المرأة كرامتها.

قلت: إن هوان المرأة على الرجال داء دوي فيهم لا يستأصل، حتى إن كثيرا من الحريات التي تتمتع بها المرأة اليوم ليس وراءها إلا سلب شرفها وتحويلها إلى بضاعة يستمتع بها.

قالوا: ولكن قد تقضت العادة الوحشية الهمجية من وأدها ودسها في التراب والتظاهر بإهانتها. 

قلت: لا، بل إن الوأد مستمر في أبشع أشكاله وأقبح صوره وأنكر مظهره، فكم من البنات يقتلن وهنَّ أجنة في بطون أمهاتهن، وكم من الفتيات يغتصبن ليلا ونهارا وعلى مرأى من العالم ومسمع منه، وكم من النساء يتعرضن لأرهب أنواع الضرب والاستحقار والطرد وأفظعها في الدول المتقدمة والراقية، وذلك لما يغلب الرجال من الرعونة والعنجهية والاستكبار والتعالي وعدم احترام الأنثى وإدراك كرامتها وقيمتها.

قالوا: ما كرامتها في دين الله؟ 

قلت: هي بشر من البشر، تشارك الرجل في البشرية، أبوهما آدم، وقال تعالى: "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء". وهي تشارك الرجل في عبودية الله تعالى، خلقت للعبادة كما خلق الرجل للعبادة، قال تعالى: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"، وقال: "من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة"، وقال: "من يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة".

ولقد غير الإسلام رؤية الناس نحو البنات، فبدأو يحتفلون بهن احتفالهم بالأبناء، فهذا شاعر يقول وهو يهتف ابتهاجًا بولادة ابنة له:

أشرقي كالبدر نورًا وسناء

املئي الدنيا جمالاً ورواء

جلَّ من سواك حسنَا وبهاء

ثم زان الحسن طهرًا وحياء

وقال أمير الشعراء أحمد شوقي:

مولاي إن الشمس في عليائها

أنثى وكل الطيبات بنات

وللشاعر الأمير عبد الله الفيصل من قصيدته – إلي ابنتي سلطانة:

يا زهرة لي نضيرة=ونجمة لي مُنيرةِ

أضأت بالنور عُمري=أيا ابنة لي صغيرةِ

أعدت لب صفو أمسي=وعاد لي فيك أنسي

واخضل دَوح حياتي=من بعد صُفرة يأسي

يا نغمة في وجودي=أوحت إليّ نشيدي

وبعد ما طال صمتي=ألهمتني من جديد

أن داعبتني يداك=برقة كالملاك

أحسستُ عَوْد شبابي=مُجسدا في صباك

علي مهاد وثير=نامي بطرف قرير

ترعاك يا بعض نفسي=عين الإله القدير.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين