وصية شهيد (قصة قصيرة)

ريما حلواني


أفاقتْ مذعورةً على صرخةٍ انطلقتْ مِن حُجرة (أحمد)، كلَّ يوم هو في هذا الحال، لكنَّ الرعب الذي يفطر قلبَ أمِّه كان كما لو أنها المرة الأولى.


طفلٌ في السادسة لم يتعرَّف على الدنيا بعدُ، لم يُدرك محاسنَها، ولم يتحسَّرْ على مساوئها؛ إنه (أحمد)، صفحةٌ نقيَّة، يعلو وجهَه الأبيض تساؤلاتٌ كثيرة، بعلامات استفهامٍ كبيرة، لطالما أحبَّ الناسُ مِن حوله نظراتِ عينيه الواسعتين السوداوين، يُخبرانِك أسرار الطفولة لو أنك فقهتَ ما تنسجان مِن قصص البراءة والحب والخيال، ويعلِّمانك كيف تسبر العيون أغوار الألم والأمل، ويرويان قلبك بالحنان والشفقة والرحمة.


وحيدُ أمِّه، وهل تحبُّ الأم أكثرَ مِن مولودها الأول؟! تعيش معه لحظة بلحظة، تشعرُ بنبضات قلبه، تتحسس أعضاءه التي لم تخرج للحياة بعد، ترقُبُ حركاته وسكناته، وتعدُّ كلماته، وتذرف شفقتها على خدَّيه لو دمعت عيناه.


تلك (أمُّ أحمد)، أحبَّت الأطفال، حتى عشقت براءتهم، ورقَّة طباعهم وهي لم تتزوج بعد، ثم تمنَّتهم متضرِّعةً إلى الله ليجبُر خاطرها بالابن البارِّ، والسند العضُد بعد زواجها بزوجها الذي قتلتْه يدُ البطش والتنكيل التي لم يُشهَد لها مثيل، اليد الإسرائيلية النجسة، بعد ثلاث سنوات مِن زواجها به، لقد تُوِّج ذاك الزواج بحبٍّ عميق جمع بينهما، لم يشهد مثله القطاع الذي تربَّيا على ضفاف بحره، وشربا حتى ارتويا مِن مآثر أبطاله، وتعلَّما مِن تاريخه وأمجاده أنَّ الرؤوس لا ترتفع لتبلغ القمم السامقة، إلا إذا خرَّتِ الجِباهُ ساجدةً للربِّ الواحد الأحد.


أما (غزّة)، تلك حُلُم كان يراود أمها، ثم لم يُقدِّر الله لها الحياة، فقد قتلتْها اليدُ الآثمة نفسها وهي لا تزال في بطن أمِّها - أم أحمد - التي لم تحتمل رؤية زوجها وحبيبها قد فارقها وحيدة كما كانت قبله؛ فإذا بها تسقط "غزّةَ" الحُلُم بعد أن عاشت بين أحشائها ستة شهور ويزيد.


و تركها زوجُها وفي يدها (أحمد)، متوجهًا مِن وسط قطاع غزَّة إلى رفح، لم يكترث لِما يُقال عن انتشار الجنود الصهاينة، وتهديدهم اللئيم؛ فقد اعتاد الشُّجعان نذالة اللئام، واحترقت قلوبهم مِن قبل، فتعلَّموا كيف تُنير القلوبُ المحترقة، والمآقي الدامعة سُبُلَ المعذَّبين والمظلومين، علَّمتهم كيف تستنير باليقين رغم شدَّة الابتلاء، وبالحمد رغم الأكدار والمصائب، وبانتظار الظَّفر وسط باقات الأشواك.
صعد (أبو أحمد) سيارة جاره كعادته، يدْعو الله أن يحفظ أحمد وأمَّه، واستودعهم الله الذي لا تضيع ودائعُه.


هناك استوقفه مشهدٌ لم يسرح به خياله ليراه إلا في شاشات الفضائيات، شابَّة لم تتجاوز السادسة عشرة مِن عمرها، حملتْ على ظهرها حقيبة مدرسية، وبدا مِن عينيها الطُّهر والنقاء، وفي مِشْيتها العفَّة والحياء، ارتدتْ حجابها الأبيض على رأسها، وغطى جسدها جلباب طويل لامس قدميها، متوجهةً نحو حاجز الجنود.
لماذا هي هنا؟! دار السؤالُ في رأس أبي أحمد؛ فالمكان يتجمَّع فيه العمَّال؛ لينقلوا للجوعى ما استطاعوا مِن غذاء وكِساء ودواء - رغم التشديد العنيف مِن السلطات المصرية! - وقلَّما ترتاده النساء إلا للقاء أحد الأقارب مِن على بُعد أميال بين الحدود الفلسطينية والحدود المِصرية!


راقبها (أبو أحمد) مِن بعيد، بدا له أنَّ شيئًا ما يُدبَّر لم يكن مرتاحًا إليه، جُندي إسرائيلي يتحدث إلى الفتاة، ثم تصرخ الفتاة فيه منفعلة، ثم يمدُّ الجندي يده النجسة لينزع حجابها عن رأسها!
لم يحتمل (أبو أحمد) ما رأى، وانطلق كالبرق راكضًا باتجاه الجندي، لم يعِ ما حدث بعدها حتى أفاق على سريرٍ في مستشفى الشفاء ممددًا بين الجثث والجرحى، هناك تذكَّر صوت طلقاتٍ ثم بكاء وعويل، فقد اخترقت ثلاثُ رصاصاتٍ جسدَه بعد أن انكبَّ على الجندي بصفعةٍ هزَّت كيانه - ذلك النذل - خرَّ على إثرها جاثيًا على ركبتيه كأنما أراد أن يحثو وجهه في التراب، ثم امتدَّتْ يد ذلك المسلم الشجاع (أبي أحمد) منتزعًا حجاب الفتاة مِن يد الجندي ليعطيَها إياه، لم يلتفتْ إليها ليراها، لكنَّ صوت نحيبها أحرق قلبَه، وأشعل ثورته، وتصوَّر (غزَّة) - ابنته الغالية لو منحها الله الحياة - مكان (مريم) هذه الفتاة الطاهرة! لكنَّ الصورة أبتْ أن تُكمِل نسيجها في مخيّلته، وهناك اخترقت الرصاصات جسده مِن حيث لا يدري ثم حملته الأرض، عيناه تذرفان، وقلبه ينبض ألمًا وكُرهًا لم يشهده مِن قبل.


لكنَّ الله لم يأذنْ لزوجته أن تراه حيًّا حتى آخر وداعٍ استودعها الله فيه، وصلت إلى المستشفى وكان قد فارق الأحبابَ والأصحاب، وكان قدره أن يلقى الله بذاك الموقف الأخير، الموقف البطوليّ النبيل.


 •     •      •


• أحمد... أحمد، حبيبي أحمد، استيقظ يا بني، كلُّ شيء على ما يُرام، ألن تُفصِح لي عن سبب بكائك وصراخك؟! أرِح قلبي يا صغيري.


• انكبَّ أحمد في حضن أمِّه باكيًا، لكن بصمتٍ هذه المرة.
• أمِّي؟ لم أُرِد أن أخبرك؛ لأنني أعلم أنكِ ستبكين، وأنا لا أحب أن أراكِ تبكين.


• مسحتْ دموعَه بيدها، ومسحت رأسه بحنانها، وعيناها تقولان: أكمِل صغيري.
• إنني أرى أبي يحمل أختي غزَّة بكلتا يديه يبكي كل ليلةٍ، ويقول: "لا تترك غزَّة يا أحمد، أيقظ الجيران، أيقظ الإخوان، أيقظ المسلمين في كلِّ مكان، لا تترك غزَّة يا أحمد، لا تترك غزَّة يا أحمد!".

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين