العـرب وتعـدد الهـويات

تعدد الهويات (Multiple identities) : مصطلح يعبر عن التنوع والاختلافات العديدة بين البشر، وهو مصطلح مستحدث بدأ تداوله وانتشاره حديثاً في بعض العلوم الإنسانية، ولاسيما منها علم السياسة بديلاً عن مصطلح "الطائفية" الذي يستخدم غالباً في سياق الخلافات الدينية والمذهبية، أما مصطلح تعدد الهويات فهو أشمل تعبيراً عن الاختلافات التي قدرها الخالق عز وجل بين البشر، وعبر عنها بقوله تعالى : (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ? وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ... الآية) سورة هود 118 ، فقد شاءت حكمة الخالق سبحانه وتعالى وجود هذه الاختلافات بين البشر لكي يحتاج بعضهم إلى بعض، ويكمل بعضهم بعضاً، فيتعارفوا ويتعاونوا كما عبر قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى? وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ? إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ? إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) سورة الحجرات 13 ، ولا يخفى أن في هذه الآية الكريمة دعوة إلى الخير، فهي تصرح بأن الأقرب إلى الله عز وجل هو الإنسان التقي، أي الإنسان الصالح الذي يريد الخير للبلاد والعباد.

واختلاف البشر بعضهم عن بعض يعني أن البشر بطبيعة فطرتهم متعددي الطباع والميول والنزعات والإمكانيات؛ أو متعددي الهويات، ومن ثم فإن حصر بعضهم في هويّة محددة يعد إكراهاً واختزالاً للخيارات التي فطروا عليها؛ وهذا ما يدفعهم إلى التعصب والتطرف والتجمع في "طوائف" بغية حماية فطرتهم، وتحقيق تطلعاتهم، والحصول على حقوقهم .

وقد أثبت التاريخ أن الصراعات الطائفية العنيفة تنشب بين البشر عندما ينتهك بعضهم هوية الآخرين، وهذا ما حصل خلال العقود القليلة الماضية بين شرائح واسعة من الأمة العربية، فاندلعت بينهم صراعات طائفية مازالت تنتشر وتتوسع مهددة مستقبل الأمة ! 

ففي أعقاب "حرب العراق" عام 2003 التي أسفرت عن تسلط إيران على العراق، وظفت إيران الهوية الشيعية في صراعات طائفية دامية راح ضحيتها ألوف مؤلفة من العراقيين، وقد تكرر المشهد المؤلم في "الربيع العربي" ولاسيما منه "الربيع السوري" و "الربيع اليمني" حيث أطلت الطائفية بوجهها القبيح الذي شوه صورة الربيع العربي، وأدى لانحراف بوصلته !

حجم الظاهرة وأخطارها :

تخبرنا شواهد التاريخ أن صراع الهويات، أو الصدامات الطائفية هي من أخطر التهديدات التي تواجه المجتمع البشري، فهذه الصراعات غالباً ما تكون صراعات شرسة لا ترحم؛ لأنها تستند إلى عصبية عمياء تفتقر أبسط عناصر الحكمة، فلا غرابة أن تسفر عن خسائر مادية وبشرية فادحة، كما رأيناها مثلاً في العراق وسوريا واليمن، حيث دمرت المدن، وأزهقت ملايين الأرواح، وشرد الملايين في أرجاء المعمورة، ناهيك عن الشروخ الداخلية العميقة التي سيمر زمن طويل جداً قبل أن تبرأ وقد لا تبرأ أبداً !!

وقد بلغت المسألة الطائفية اليوم في أجزاء من الوطن العربي حجماً مرعباً جعلها ظاهرة لا تؤرق العرب وحدهم، بل باتت تؤرق العالم كله، فقد فجرت هذه الظاهرة صراعات طائفية دامية باتت تهدد بانهيار مدمر في المنطقة العربية، وبدأ شررها يتطاير إلى مناطق أخرى من العالم، إلى درجة باتت تنذر بحروب محلية وعالمية ! وهذا ما جعلها تأخذ حيزاً واسعاً من اهتمام الباحثين في محاولة لتفسير أسبابها وتقدير أبعادها، ووسائل وقفها وعلاجها .

وقد طرح بعض الباحثين حلولاً عدة، ومخارج لكيفية التعاطي مع هذه الظاهرة، وطرح بعضهم سيناريوهات عدة تستهدف تحقيق حالة من الاستقرار في المجتمعات متعددة الهويات التي تتسم بالتنوع الديني والثقافي والفكري والعرقي، كما هي حال مجتمعاتنا العربية .

الأسباب :

ذكر بعض الباحثين أن من أهم الأسباب المؤدية لاندلاع الصراعات الطائفية:

1 الارتهان للتاريخ : أو تمسك المجتمع بالأحداث التاريخية على نحو سلبي يجعل الناس يحتكمون إلى وقائع حدثت في الماضي البعيد لتبرير خلافاتهم الاجتماعية والسياسية، كما هي الحال مثلاً في موضوع الإمامة والخلافة بين الشيعة والسنة عند المسلمين، وموضوع اللاهوت والناسوت عند المسيحيين.

2 غياب التوافق : أو عدم الاعتراف بالاختلافات الفكرية بين شرائح المجتمع .

3 الانحياز : أو انتهاج سياسة انتقائية تغلب مصالح شرائح معينة في المجتمع على مصالح بقية الشرائح!

4 التعصب : بأشكاله المختلفة، ومن أخطرها التعصب الحزبي والتعصب الديني، 

5 غياب رؤية استراتيجية : لإدارة المجتمع إدارة راشدة حكيمة .

6 الارتهان للخارج : أي استجابة الدولة لمتطلبات جهات خارجية إقليمية أو دولية ذات مصالح خاصة .

7 الإعلام الموجه : ونخص به الإعلام الموجه طائفياً، يساهم في إشعال النزاعات الداخلية، ويقوم بدور سلبي في إثارة هذه الطائفة أو تلك . 

المعالجة :

لا جدال بأن السبيل الأجدى للتعامل مع تعدد الهويات، ووقف الصراع الطائفي يتوقف على الاعتراف بالتنوع والاختلافات بين البشر كما قدرها الخالق العظيم؛ فالاعتراف بهذا التنوع يعد خطوة مبدئية لا بد من إدراكها إذا أردنا حقاً التعامل الواقعي مع هذه الظاهرة .

وبناء على اختلاف نظرة كل دولة إلى هذه الظاهرة نجد أن الدول تختلف في تعاملها مع هذه الظاهرة، وفي الإجراءات الوقائية لحماية المجتمع من صراعاتها المدمرة ،

وهناك ركائز أساسية ينبغي الاعتماد عليها في معالجة المسألة الطائفية في أي البلدان متعددة الهويات، وأول هذه الركائز :

1 – تحقيق الديمقراطية : وهي الآلية الرئيسة لمعالجة الطائفية بصورة كلية شاملة، ففي غياب الديمقراطية تصبح مختلف محاولات المعالجة مجرد ترقيعات للمشكلة؛ أما النظام الديمقراطي فهو الصيغة الأجدى لاستيعاب مختلف شرائح المجتمع، فهو الذي يتيح للجميع المشاركة في تشكيل حاضر المجتمع ومستقبله، وبهذا يحس الجميع أنهم جزء حقيقي للمجتمع، فيتحقق ولاؤهم له، وحرصهم على سلامته، وسلامه الأهلي . 

2 تأسيس المواطنة الحقة : أو المواطنة الدستورية التي تضع المواطنين جميعاً على صعيد واحد أمام الدستور والقانون، وتجعلهم متساوين فعلاً في الحقوق والواجبات، وبهذا تشكل المواطنة ضماناً قوياً يوفر السلام الأهلي ويخلق المناخ الصحي الذي يقطع الطريق على الطائفية . 

هذا مع التأكيد بأن البيئة الديمقراطية والمواطنة الدستورية لا تؤديان ما ينتظر منهما بمجرد وضع النصوص الدستورية والمواد القانونية، بل لا بد من العدالة في تطبيق النصوص، والنزاهة والحياد القانوني تجاه مختلف المواطنين، واحترام هوياتهم على اختلافها، فلا يكون أحد فوق الدستور أو القانون، وتكون الفرص متاحة للجميع دون تمييز. وبهذا يتحقق للمجتمع ما ندعوه : "الهوية الصلبة" .

الهوية الصلبة :

يتأسس هذا المفهوم على اعتبار أن إنسانية المواطن هي الأساس لحقوقه وواجباته بصرف النظر عن عرقه أو دينه أو مذهبه؛ وعلى هذا الأساس يتحقق للمجتمع الهوية الصلبة التي تكفل تماسكه ووحدته؛ وعندما تتحقق للمجتمع هذه الهوية نجد الدولة تتسم بجملة من السمات الإيجابية :

أولاً – فهي دولة تعددية تعبر عن مصالح كافة فئات المجتمع، ولا تسمح لفئة معينة بالهيمنة على البلاد والعباد، ولا يتوقف دور الدولة في هذه الحال عند رعاية الهويات المتعددة، بل يتعداه إلى تضييق الخلاف بين الهويات المختلفة من خلال برامج وخطط تبني ثقافة مشتركة، وهوية وطنية جامعة، تجمع الكل في إطار جامع؛ فهي دولة مواطنة تعمل لتحقيق الاندماج الوطني على قاعدة "الوطن للجميع"

ثانياً – هي دولة دستور ومؤسسات؛ لا مكان فيها للقرارات الارتجالية والهوى والأمزجة الشخصية، وفي هذه الدولة تصبح كافة الحقوق والواجبات مكفولة بموجب الدستور، والقوانين فيها ملزمة للجميع وليست إطاراً شكلياً كما هو حادث في كثير من بلداننا العربية حالياً .

وبمقدار نجاح الدولة في تحقيق هذه الهوية الصلبة يكون نجاحها في تحقيق السلام الأهلي، واستقرار المجتمع، وتحقيق الحياة الكريمة للجميع، وتعزيز ولائهم للوطن.

***

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين