المقصود بالشعور النفسي : إبراز ما أودع اللّه سبحانه في قلب الأبوين من حب وعاطفة ورحمة نحو أولادهما .. والحكمة في ذلك ؛ هي استهجان عادات جاهلية بغيضة استحكمت في بعض النفوس المريضة ، وفي النظرة السيئة إلى البنات ، وإظهار فضيلة المثوبة والأجر لمن يصبر على فقد الولد ويتجلد لفراقه .. وأخيرًا ماذا يفعل الأبوان إذا تعارضت مصلحة الإسلام مع مصلحة الولد ؟
كل هذه المشاعر النفسية ، والعواطف القلبية ، وكل هذه التصورات والتساؤلات ستجدها - أيها الأخ الكريم - مبيّنة موضحة في هذا الفصل ، وعلى اللّه قصد السبيل، ومنه نستمد العون والتوفيق .
(أ) الأبوان مفطوران على محبة الولد :
من المعلوم بداهة أن قلب الأبوين مفطور على محبة الولد ، ومتأصل بالمشاعر النفسية والعواطف الأبوية لحمايته ، والرحمة به ، والشفقة عليه ، والاهتمام بأمره .
ولولا ذلك لانقرض النوع الإنساني من الأرض ، ولما صبر الأبوان على رعاية أولادهما ، ولما قاما بكفالتهم ، وتربيتهم ، والسهر على أمرهم ، والنظر في مصالحهم .
ولا عجب أن يصور القرآن العظيم هذه المشاعر الأبوية الصادقة أجمل تصوير ، فيجعل من الأولاد تارة زينة الحياة : { المال والبنون زينة الحياة الدنيا ... } .
( الكهف : 46 )
ويعتبرهم أخرى نعمة عظيمة تستحق شكر الواهب المنعم :
{ وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرًا } .( الإسراء : 6 )
ويعتبرهم ثالثة قرة أعين إن كانوا سالكين سبيل المتقين :
{ والذين يقولون ربّنا هب لنا من أزواجنا وذريّاتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إمامًا}.
( الفرقان : 74 )
إلى غير ذلك من هذه الآيات القرآنية التي تصور عواطف الأبوين نحو الأولاد ، وتكشف عن صدق مشاعرهما ، ومحبة قلبيهما تجاه أفلاذ الأكباد ، وثمرات الفؤاد .
وإليك - أيها القارئ الكريم - طاقة مما قاله الشعراء في محبة الأولاد ، وهي أشعار تفيض رقة وحنانًا ، وتتأجج شعورًا وعاطفة .. وهي بمجموعها تؤكد ظاهرة الحب والحنان التي أودعها اللّه في قلبي الأبوين ، ليبذلا قصارى جهودهما ، وغاية مساعيهما في تربية الولد ، وإعداده ليكون إنسانًا صالحًا في الحياة .
ونبدأ بما قاله أمية بن أبي الصلت في حق ولده العاق ، وهي من غُرر القصائد التي تفيض رقة وحنانًا ، والتي تصور صدق المشاعر القلبية الأبوية نحو الولد :
غذوتُك مولودًا وعلتُك iiيافعًا=تَعُلّ بما أجني عليك iiوتنهل
إذا ليلةٌ ضافتك بالسقم لم iiأبت=لسقمك إلّا ساهرًا أتململ
كأني أنا المطروقُ دونك iiبالذي=طُرِقتَ به دوني فعينيَ iiتَهمِل
تخاف الردى نفسي عليك وإنها=لتعلم أن الموت وقت iiمؤجل
فلما بلغت السنّ والغايةَ iiالتي=إليها مدى ما كنت فيك iiأؤمِّل
جعلتَ جزائي غلظةً وفظاظةً=كأنك أنت المنعم iiالمتفضِّل
فليتك إذ لم ترعَ حق iiأبوّتي=فعلتَ كما الجار المجاور iiيفعل
فأوليتني حق الجوار فلم iiتكن=عليَّ بمالٍ دون مالك تبخل
* * *
واسمعوا إلى ما يقوله أبو بكر الطرطوسي فيما يتجرع الأبوان عند فراق الولد :
لو كان يدري الابنُ أيّة iiغُصّةٍ=يتجرّعُ الأبوان عند فِراقهِ
أمٌّ تهيج بوَجْده iiحيرانة=وأبٌ يسحّ الدمعَ من iiآماقه
يتجرعان لِبَيْنه غصصَ الرَّدَى=ويبوح ما كتماه من أشواقه
لَرَثَى لأمٍّ سُلّ من iiأحشائها=وبكى لشيخ هام في iiآفاقه
ولبدّل الخلق الأبيَّ iiبعطفه=وجزاهما بالعطفِ من أخلاقه
* * *
وإليكم ما قاله آخر في العطف الأبوي الدفاق الذي قعد بالأب دون الكفاح من أجل ما يسعى لتحقيقه :
لقد زاد الحياة إليّ حبًا=بناتي إنّهن من iiالضعاف
أحاذر أن يريْنَ الفقرَ iiبعدي=وأن يشربْن رنْقًا بعد iiصاف
وأن يعريْن إن كُسيَ iiالجواري=فتنبو العينُ عن كرم iiعجاف
ولولا ذاك قد سوَّمت iiمُهري=وفي الرحمن للضعفاء iiكاف
أبانا مَنْ لنا إن غبت iiعنا=وصار الناس بعدك في اختلاف
* * *
ومما قيل كذلك :
ولولا بُنيّات كزُغْب iiالقطا=حُطِطْنَ من بعضٍ إلى بعض
لكان لي مضطربٌ iiواسع=في الأرض ذات الطول والعرض
وإنما أولادنا iiبيننا=أكبادنا تمشي على iiالأرض
لو هبّت الريح على iiبعضهم=لامتنعت عيني من iiالغمض
* * *
وأخيرًا فلنستمع إلى ما يقوله الشاعر الكبير الأستاذ عمر بهاء الأميري في صدق الحنان والشاعرية ، وذلك لما سافر أولاده الثمانية من المصيف إلى حلب ؛ فتلبث وحده في خلوة شعرية ليتحف الأدب العربي قصيدة من غرر القصائد في محبة الآباء للأبناء :
أين الضجيج العذبُ والشغَبُ=أين التدارسُ شابَه iiاللعبُ
أين الطفولة في iiتَوَقُّدها=أين الدُمى في الأرض iiوالكتبُ
أين التشاكس دونما iiغرضٍ=أين التشاكي ماله iiسبَبُ
أين التباكي والتضاحكُ iiفي=وقتٍ معًا ، والحزنُ والطربُ
أين التسابق في iiمجاورتي=شغَفًا إذا أكلوا وإن iiشربوا
يتزاحمون على iiمجالستي=والقرب مني حيثما iiانقلبوا
يتوجهون بسَوْق iiفطرتهم=نحوي إذا رَهبُوا وإن رغبوا
فنشيدُهُمْ : ( بابا ) إذا iiفرِحوا=ووعيدُهُمْ : ( بابا ) إذا iiغضبوا
وهتافهُم : ( بابا ) إذا iiابتعدوا=ونجيُّهم ( بابا ) إذا iiاقتربوا
بالأمس كانوا ملءَ iiمنزِلنا=واليومَ ، ويحَ اليوم ، قد iiذهبوا
وكأنما الصمتُ الذي iiهبَطَتْ=أثقاله في الدار إذ iiغَرَبوا
إغفاءةُ المحموم هدْأتُها=فيها يشيعُ الهمّ iiوالتعب
ذهبوا ، أجلْ ذهبوا ، ومسكنُهُمْ=في القلب ، ماشطَّوا وما iiقرَبوا
إني أراهم أينما التفتَتْ=نفسي وقد سكنوا ، وقد وثبوَا
وأحسّ في خلَدي تلاعبُهم=في الدار ليس ينالهم iiنصبُ
وبريقَ أعينهم ، إذا iiظفروا=ودموعَ حُرقتهم إذا غُلبُوا
في كل ركنٍ منهمُ أثرٌ=وبكلّ زاوية لهم iiصَخَبُ
في النافذات زُجاجَها حطموا=في الحائط المدهون قد iiثقَبُوا
في الباب قد كسروا iiمَزالجه=وعليه قد رسموا وقد iiكتبوا
في الصحن فيه بعضُ ما iiأكلوا=في علبة الحلوى التي iiنهبُوا
في الشطر من تفاحَة iiقضموا=في فضلة الماء التي iiسكبوا
إني أراهم حيثما iiاتجهت=عيني كأسراب القطا iiسَرَبوا
بالأمس في ( قرنايلٍ ) iiنزلوا=واليوم قد ضَمتهُمُ ( حَلَبُ ii)
* * *
دمعي الذي كَتّمتُه iiجلدًا=لما تباكوا عند iiماركبوا
حتى إذا ساروا وقد نزعوا=من أضلعي قلبًا بهم iiيجبُ
الفَيْتُني كالطفل iiعاطفةً=فإذا به الغيث iiينسكب
قد يعجب العُذَّال من iiرجلٍ=يبكي ، ولو لم أبكِ فالعجبُ
هيهات ما كل البُكا خَوَر=إني وبي عزم الرجَال iiأبُ
* * *
من هذا كله نعلم قوة العاطفة الفياضة التي أودعها اللّه في قلب الأبوين نحو الأولاد ، وما ذاك إلا ليساقا سوقًا نحو تربيتهم ، ورعايتهم ، والاهتمام بشؤونهم ومصالحهم .
{ فِطْرَتَ اللّه التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق اللّه ... } . ( الروم : 30 )
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول