التغاير الصرفي في اللهجات والمعنى (1)

 

وَمِن التَّغايُرِ الحَاصِلِ فِي تَوارِدِ الصِّيغِ الَّتِي تَتَّضِحُ أَمَامَنا، وَأَثَرِهَا فِي المَعنَى هُوَ رَبطُ النَّصِّ القُرآنِيِّ وَقِراءَاتُهُ بِسِياقَاتِهِ وَمَناسَبَاتِهِ. وَمِن ذلِكَ قَولُهُ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الكُفْرِ}(1)، وَقَولُهُ:{قَدْ نَعلَمُ إِنَّهُ لَيَحزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ}(2)، وَقَولُهُ:{وَلا يَحْزُنْكَ قَولُهُم إِنَّ العِزَّةَ للهِ جَمِيعاً}(3)، وَقَولُهُ:{إِنِّي لَيَحزُنُنِي أَنْ تَذهَبُوا بِهِ}(4)، وَقولُهُ:{لا يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأَكبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ المَلائِكَةُ}(5)، وَقَولُهُ: {وَلا يَحزُنُكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الكُفرِ إِنَّهُم لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيئاً}(6)، وَقَولُهُ:{وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحزُنُكَ كُفرُهُ إِلَيْنَا مَرجِعُهُم}(7)، وَقَولُهُ:{فَلَا يَحزُنُكَ قَولُهُم إِنَّا نَعلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعلِنُونَ}(8)، وَقَولُهُ:{إِنَّما النَّجوَى مِن الشَّيطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا، وَلَيسَ بِضَارِّهِم شَيئاً}(9). 

قَاْلَ ابنُ عَادِلٍ الحَنبَلِيِّ: " قَرَأَ نَافِعٌ (10) (يُحْزِنُكَ) بِضَمِّ حَرفِ المُضَارَعةِ، مِن (أَحزَنَ) رُباعِيَّاً فِي سَائِرِ القُرآنِ إِلَّا الَّتِي فِي قَولِهِ: (لا يَحزُنُهُمُ الفَزَعُ الأَكبرُ) فَإِنَّهُ كَالجَمَاعةِ. وَالبَاقُونَ بِفَتحِ البَاءِ، مِن (حَزَنَهُ) ثُلاثِيَّاً، فَقِيلَ: هُمَا مِن بَابِ مَا جَاءَ فِيهِ (فَعَلَ وَأَفْعَلَ) بِمَعنَىً وَاحِدٍ. وَقِيلَ: بِاختِلافِ مَعنَىً، فَحَزَنَهُ: جَعَلَ فِيهِ حُزناً، نَحوُ: دَهَنَهُ وَكَحَلَهُ، أَي: جَعَلَ فِيهِ دُهناً وَكُحْلاً. وَأَحزَنْتَهُ: إِذا جَعَلْتَهُ حَزِيناً. وَقِيلَ: حَزَنْتَهُ: أَحدَثْتُ لَهُ الحُزنَ. وَأَحزَنْتَهُ: عَرَّضْتُهُ لِلحُزنِ"(11).

وَذَهَبَ جُمهُورُ أَهلِ اللُّغَةِ إِلَى أَنَّ الفِعلَ حَزِنَ وَأَحزَنَ لُغَتَانِ، وَهُما بِمعنَىً وَاحِدٍ، وَقالَ الجَوهَرِيُّ (ت370هـ): حَزَنَهُ لُغَةُ قُرَيْشٍ، وَأَحْزَنَهُ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَقَدْ قُرِئَ بِهِمَا(12). غَيرَ أَنَّ سِيبَويهِ (ت180هـ) يَرَى أَنَّ بَينَهُما فَرقاً، فَيَقُولُ: " وَزَعَمَ الخَلِيلُ (ت175هـ) أَنَّكَ حَيثُ قُلْتَ فَتَنْتَهُ وَحَزَنْتَهُ لَم تُرِدْ أَنْ تَقُولَ: جَعَلْتَهُ حَزِيناً، وَجَعَلْتَهُ فَاتِناً، كَمَا أَنَّكَ حِينَ قُلْتَ: أَدْخَلْتَهُ أَرَدْتَ جَعَلْتَهُ دَاخِلاً. وَلكنَّكَ أَرَدْتَ أَنْ تَقُولَ: جَعَلْتُ فِيهِ حُزْناً وَفِتنَةً، فَقُلْتَ: فَتَنْتَهُ كَمَا قُلْتَ: كَحَلْتَهُ، أَي: جَعَلْتُ فِيهِ كُحْلاً، وَلَو أَرَدْتَ ذلِكَ لَقُلْتَ: أَحزَنْتُهُ وَأَفتَنْتُهُ. وَقَالَ بَعضُ العَرَبِ: أَفْتَنْتَ الرَّجُلَ وَأَحزَنْتَهُ... أَرَادُوا جَعَلْتَهُ حَزِيناً وَفاتِناً فَغَيَّرُوا (فَعَلَ)"(13).

وَالظَّاهِرُ مِن كَلامِ سِيبويه أَنَّ (يَحْزَنَ) مَعنَاهَا أَوصَلْتُ إِلَيهِ حُزناً، وَ(يُحْزِنُ): أَدخَلْتُهُ فِي الحُزنِ، وَبناءً علَى هذا الفَارِقِ الَّذِي هُدِيَ إِلَيهِ نافِعٌ بِاختِيَاراتِهِ، وَتَنَبَّهَتْ إِلَيهِ العَرَبُ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ نَعُدَّ كُلَّ قِراءَةٍ ذاتَ مَعنَىً، فَتَحتَمِلُ قِراءَةُ الجُمهُورِ مُقارَبَةَ الحُزنِ، وَتَحمِلُ قِراءَةُ نافِعٍ المَدَنِيِّ (ت169هـ) أَنَّ الحُزنَ قَد تَمَكَّنَ مِن نَفسِ المَحزُونِ، وَنَستَطِيعُ أَنْ نَذهَبَ هذا المَذهَبَ فِي الآياتِ جَمِيعاً.

وَلِكنْ هُنَاكَ سُؤَالٌ يَطرَحُ نَفسَهُ فِي المُناقَشَةِ العِلمِيَّةِ، أَلا وَهُوَ: لِمَاذا خَالَفَ نافِعٌ أَصلَهُ فِي آيةِ الأنبِياءِ؟؟ وَالجَوابُ: يَظهَرُ لَنا جَلِيَّاً أَنَّ نافِعاً قَد أَدرَكَ الفَرقَ والمُغايَرَةَ بَينَ الصِّيغَتَيْنِ، إِذ إِنَّ المَقصُودَ مِنْ قَولِهِ تَعالَى: {لا يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأَكبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ المَلائِكَةُ}(14)، لا يُصِيبُهُم أَدْنَى حُزنٍ، علَى عَكْسِ قِراءَةِ أَبِي جَعفَرٍ (ت130هـ) الَّتِي تُوحِي بِنَفيِ الحُزنِ الكَثيرِ، وهذا لا يَستَوجِبُ نَفيَ القَلِيلِ، وَمِن هُنا نَجِدُ أَنَّ الجُمهُورَ قَدِ اتَّفَقُوا علَى تِلكَ القِراءَةِ، تَحقِيقاً لِهذا المَعنَى، ولا يَضِيرُ الأَمرُ إِنْ كَانَتَا بِمعنَىً وَاحِدٍ. 

وَمَا مِنْ شَكٍّ أَنَّ النَّبِيَّ-صلَّى اللهُ علَيهِ وَسلَّمَ-كانَ يُحزِنُهُ وَيُؤذِيهِ إِعرَاضُ المُعرِضِينَ عَن دَعوَتِهِ لِلإِسلامِ، حتَّى كَادَ يُهلِكُ نَفسَهُ أَسَىً وَحُزناً علَيهِم، لِأَنَّهُم كَذَّبُوا وَلم يُؤمِنُوا بِدَعوَتِهِ، فَنَهَاهُ رَبُّهُ عَنْ ذلِكَ، لِأَنَّ مَهَمَّتَهُ الكُبرَى هِيَ الإِبلَاغُ وَالإِنذارُ، وَلَيسَ علَيهِ هُدَاهُم بِلِ اللهُ يَهدِي مَنْ يَشَاءُ.

وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُحلِّلَ هذا الفِعلَ " يُحْزِنُكَ " صَرفِيَّاً وَصَوتِيَّاً وَجَدْنا أَنَّهُ علَى وَزنِ يُفْعِلُكَ، فَهُوَ فِعلٌ مُضَارِعٌ. ماضِيهِ " أَحْزَنَ " علَى وَزنِ " أَفْعَلَ ". فَهُوَ فِعلٌ مَاضٍ ثُلاثِيٌّ مَزِيدٌ فِيهِ حَرفٌ وَاحِدٌ، قَبلَ الفَاءِ، وَالزِّيادَةُ فِيهِ للِإِغنَاءِ عنِ المُجَرَّدِ والتَّعدِيةِ. وَهُوَ علَى وَزنِ الرُّباعِيِّ وَغَيرُ مُلحَقٍ بِهِ، صَحِيحٌ سَالِمٌ. يُوقَفُ علَيهِ بِالسُّكُونِ المُجَرَّدِ. وَيَجُوزُ جَعْلُ الهَمزَةِ فِي أَوَّلِهِ بَينَ بَينٍ، لِأَنَّهَا مُتَحرِّكَةٌ بَعدَ فَتحٍ.

وَفِي تَحلِيلِنا الصَّرفِيِّ وَالصَّوتِيِّ لِلفِعلِ "حَزَنَ " نَقُولُ: حَزَنَهُ الْأَمْرُ يَحْزُنُهُ حُزْنًا وَأَحْزَنَهُ، فَهُوَ مَحْزُونٌ وَمُحْزَنٌ وَحَزِينٌ وَحَزِنٌ. وَهُو فِعلٌ ثُلاثِيٌّ مُجَرَّدٌ علَى وَزنِ " فَعَلَ " مِن البَابِ الصَّرفِيِّ الأَوَّلِ فَعَلَ يَفْعُلُ. صَحِيحُ الآَخِرِ. يُوقَفُ علَيهِ بِالسُّكُونِ المُجرَّدِ.

الهوامش:

الآية 41من سورة المائدة.

2 الآية 33 من سورة الأنعام.

3 الآية 65 من سورة يونس.

4 الآية 13 من سورة يوسف.

5 الآية 103من سورة الأنبياء.

6 الآية 176 من سورة آل عمران.

7 الآية 23 من سورة لقمان.

8 الآية 76 من سورة يس.

9 الآية 10 من سورة المجادلة.

10 السبعة في القراءات ص 219. وينظر إتحاف فضلاء البشر 1: 495.

11 اللباب في علوم الكتاب 6: 65-66.

12 لسان العرب مادة (حزن).

13الكتاب: لأبي بشر عمرو بن عثمان بن قنبر(ت180هـ)، بتحقيق وشرح: عبدالسلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط4، 1425هـ-2004م، 4: 56-57.

14 الآية 103من سورة الأنبياء.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين