تركك ما لا يعنيك يرفعك عند ربك ويعليك

تروي كتب السنة عن أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : اسْتُشْهِدَ غُلَامٌ مِنَّا يَوْمَ أُحُدٍ، فَوُجِدَ عَلَى بَطْنِهِ صَخْرَةٌ مَرْبُوطَةٌ مِنَ الْجُوعِ - وكانت العرب إذا أرادت أن تضيق على الجوع مسالكه، وتحاصره في مجاري العروق، وضعت حجراً أو حجرين، وشدتهما على البطن، فتضمر المعدة، وتنكفئ على نفسها؛ فلا تشكو جوعاً، ولا تتألم من مسغبة ، وقد فعل هذا رسولنا صلى الله عليه وسلم ، روى الترمذي عن أبي طَلْحَةَ رضي الله عنه قال : «شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجُوعَ وَرَفَعْنَا عَنْ بُطُونِنَا عَنْ حَجَرٍ حَجَرٍ فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حَجَرَيْنِ» كناية عن أنه كان يجوع أكثر من أصحابه - فَمَسَحَتْ أُمُّهُ التُّرَابَ عَنْ وَجْهِهِ، وَقَالَتْ: هَنِيئًا لَكَ يَا بُنَيَّ الْجَنَّةُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يُدْرِيكِ؟ لَعَلَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، وَيَمْنَعُ مَا لَا يَضُرُّهُ»...

لا تعجلي بالحكم عليه، ولا تتسرعي بتصنيفه في أهل الجنة ... من يدري ؟ فلربما كان يفعل شيئاً لا يرضي ربه، ويرتكب فعلاً لا يزكيه عند خالقه ... لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه، ويتدخل فيما لا يخصه ... 

الله أكبر!!! ألهذه الدرجة يكون التدخل فيما لا يعني المرء من شؤون الناس مدعاة لسخط الله عليه ... وسبباً من أسباب إقصائه عن حظيرة قدسه ورضاه ؟.

ألهذه الدرجة ! وبرغم أن الشاب مات وقد ربط على بطنه حجراً من الجوع ... فجمع فضيلة الجوع والصوم وفضيلة الجهاد في سبيل الله ؟ نعم لهذه الدرجة أيها الإخوة ... كيف ؟ .

إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد منك أيها المسلم أن تنشغل عن هدفك الأسمى والغاية التي أقامها لك في حياتك، وجعل فيها سعادتك، وفيها رهافة حسك، ورقة روحك، وجمال نفسك، وطمأنينة قلبك ... تلك الغاية المتمثلة في قوله تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }الذاريات56. 

فلو انشغلت بقيل وقال ، ولو بحثت عن أحوال الناس، وفتشت عن تطورات حياتهم، وأتبعت نفسك ما يقومون به من أعمال فأنت لا شك مجرم بحق نفسك، ومغتال لروحك، ومسيء إلى إيمانك وإسلامك ، فكان من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ... وكانت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى أم الشاب أنه إنما تتهيأ الجنة لمن لا يُحَاسَب، ومن تكلم فيما لا يعنيه حوسب عليه ، هذا إذا كان كلامه فيما تدخل فيه مباحاً ، أما إذا كان حراماً فمن باب أولى . 

مَرَّ رَجُلٌ بِلُقْمَانَ الْحَكِيمِ – وكان رجلاً ولياً من الصالحين ، وقيل: كان نبياً - وَالنَّاسُ عِنْدَهُ متحلقون حوله يسمعون كلامه ويصدرون عن رأيه ، فَقَالَ لَهُ : أَلَسْت عَبْدَ بَنِي فُلانٍ؟ قَالَ: بَلَى ، قَالَ: ألست الَّذِي كُنْت تَرْعَى عِنْدَ جَبَلِ كَذَا وَكَذَا ؟ قَالَ: بَلَى ، قَال: فَمَا بَلَغَ بِك مَا أَرَى ؟ قَالَ: صِدْقُ الْحَدِيثِ ، وَطُولُ السُّكُوتِ عَمَّا لا يَعْنِينِي .

ومر إبراهيم بن أدهم برجل يتحدث فيما لا يعنيه؛ فوقف عليه؛ فحاوره محاورة عقلانية أراد من خلالها الوقوف به على قبح ما يفعل ، فقال: كلامك هذا ترجو به الثواب ، قال: لا؛ فقال: أفتأمن عليه العقاب؟ قال: لا ، قال: فما تصنع بكلام لا ترجو عليه ثوابًا وتخاف منه عقابًا.

وحكى الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ صاحب كتاب جامع العلوم والحكم أن جماعة دَخَلُوا عَلَى بَعْضِ الصَّحَابَةِ فِي مَرَضِهِ وَوَجْهُهُ يَتَهَلَّلُ، فَسَأَلُوهُ عَنْ سَبَبِ تَهَلُّلِ وَجْهِهِ ، فَقَالَ: مَا مِنْ عَمَلٍ أَوْثَقُ عِنْدِي مِنْ خَصْلَتَيْنِ ، كُنْتُ لا أَتَكَلَّمُ فِيمَا لا يَعْنِينِي ، وَكَانَ قَلْبِي سَلِيمًا لِلْمُسْلِمِينَ.

وكان من سيرة سيدنا أبي بكر رضي الله عنه أن يضع حصاة في فمه ليكف لسانه عن الكلام فيما لا يعنيه ، وكان في السلف قديماً رجل يعرف بعثمان بن عيسى أبي عمر الباقلاوي (ت402هـ ) ، كان يقال له: العابد الصَّموت؛ وذلك لإمساكه عن الكلام فيما لا يعنيه.

ولمَّا ولِيَ عمرُ بن عبد العزيز صَعِدَ المنبرَ في أوَّل خطبة خطبها فحَمِدَ الله، وأثنى عليه، ثم قال: أيُّها الناس، مَن صحبنا فليصحبنا بخمس، وإلاَّ فلا يقربنا: يرفع إلينا حاجةَ من لا يستطيعُ رفعَها، ويعينُنا على الخير بجهده، ويدلُّنا من الخير على مالا نهتدي إليه، ولا يغتابنَّ عندنا الرَّعيةَ، ولا يعترضُ فيما لا يعنيه. قال: فانقشع عنه الشُّعراء والخطباء، وثَبَت الفقهاء والزُّهاد، وقالوا: ما يسعنا أن نفارق هذا الرَّجل حتى يخالف فعلُه قولَه.

وقد تواترت كلمات السلف في تقبيح تدخل الرجل فيما لا يعنيه ، ومن ذلك : قول الفُضيل بن عِياض رضي الله عنه : مَنْ عَدّ كلامَه من عمله قلّ كلامُه فيما لا يعنيه، وقول الإِمام الشافعيّ رحمه الله لصاحبه الرَّبِيع : يا ربيعُ لا تتكلم فيما لا يعنيك، فإنك إذا تكلَّمتَ بالكلمة ملكتكَ ولم تملكها، وقَول أَبي الدَّرْدَاءِ: " عَلَامَةُ الْجَهْلِ ثَلَاثٌ: الْعُجْبُ، وَكَثْرَةُ الْمَنْطِقِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، وَأَنْ يَنْهَى عَنْ شَيْءٍ وَيَأْتِيَهُ"، وقول معروف الكرخي : كلام الرجل فيما لا يعنيه مقت من الله عز و جل، وقد قال الشاعر : 

ما لي وللناس دعني من ملامتهم *** ديني لنفسي ودين الناس للناس

ما عليك من فلان هل ربحت تجارته أو خسر ... وما عليك منه هل تزوج على زوجته أم لا ... وما عليك هل ثمة خلاف بينه وبين أهل بيته ... 

ما الذي يفيدك أن تعرف من أين اكتسب ماله أو اشترى سيارته ...ما الذي ينفعك أن تعلم خفايا منزله وحياته ... ما الذي يجديك في دينك أن تتدخل فيما يتكتم عليه الناس من شؤون الحياة ... عليك بخويصة نفسك ودع عنك أمر العامة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني .

وأنت أيتها المسلمة : لا تتبعي نفسك ولا تتعبيها في اقتفاء أخبار جاراتك وزميلاتك وقريبات زوجك ... من تزوج على من ... ومن طلق من ... ومن ضرب من ... إنها أمور لا تخصك ولا نهاية لها ولا طائل من ورائها ...

أحبتي في الله : 

مداواة النفس من ذاك المرض أمور ثلاثة : 

1- أَن يعلم أَن وقته أعز الْأَشْيَاء عَلَيْهِ ، فيبخل به على الناس ، ويضن أن ينافسوه فيه ، أو يفسدوه عليه . 

2- أن يشغل زمانه بِأَعَز الْأَشْيَاء وَهُوَ ذكر الله والمداومة على طَاعَته، ومطالبته نفسه بالْإِخْلَاص لله ، وَمن ترك مَا لَا يعنيه اشْتغل بِمَا يعنيه وما ينفعه، وَقد قَالَ الْحسن البصري: عَلَيْك بِنَفْسِك إِن لم تشغلها أشغلتك. وقال الامام ابن القيّم : «أنفع الدّواء أن تشغل نفسك بالفكر فيما يعنيك دون ما لا يعنيك، فالفكر فيما لا يعني باب كلّ شرّ، ومن فكّر فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه واشتغل عن أنفع الأشياء له بما لا منفعة له فيه، فالفكر والخواطر والإرادة والهمّة أحقّ شيء بإصلاحه من نفسك؛ فإنّ هذه خاصّتك وحقيقتك الّتي لا تبتعد أو تقترب من إلهك ومعبودك الّذي لا سعادة لك إلّا في قربه ورضاه عنك إلّا بها، وكلّ الشّقاء في بعدك عنه وسخطه عليك، ومن كان في خواطره ومجالات فكره دنيئاً خسيساً لم يكن في سائر أمره إلّا كذلك» ).

3- أن يعلم أن معرفة تلك الأشياء علم لا ينفع كما أن عدم المعرفة بها جهل لا يضر ... وما الله بسائل العبد يوم القيامة عن مجريات الحياة الشخصية لفلانة أو فلان . 

4- أن يعلم أن من لديه فضول في التدخل في أمور الناس والبحث عن دخائلهم إنسان فارغ في الغالب، خلي من الأهداف، عريٌّ عن المعالي ، ولو كان ذا همة لما انشغل بما لا يهمه من أمر الأمة.

وها هنا أمر غاية في الأهمية وهو أن عدم التدخل فيما لا يعنيك لا يعني أن تدع واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من بابة أن الأمر لا يعنيك من قريب أو من بعيد ، وأنك في غنى عن وجع الرأس وضيق الصدر ، وأنك لا تريد أن تخسر الناس وأصدقاءك ... لا بل ستأثم إن تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فليتنبه لذلك.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين