رحلة مع كتب العقاد ,, بمناسبة ذكرى وفاته

عباس محمود العقاد شخصيةٌ يمكنُ أن يُقالَ عنها إنها من بدائع الزمان, فهو الصحفي والأديب والمفكر والمؤلف .. ومع ذلك فهو لا يحملُ إلا شهادةَ الابتدائية فقط !! ولكن يبدو بأنّ اجتهادَه على نفسه سابقةٌ فريدة, وعِصاميّتُه أكسبَته جُرأةً في قول كلمتِه ضدّ خصومه, سواءٌ منهم السياسيون أو المفكرون, ولا أدلَّ على ذلك من حادثة نقدِه الجريء للملك / فؤاد / عندما عرّضَ به داخل البرلمان المصري قائلاً : 

" ليس من حقَّ أحدٍ أن يُغيّرَ الدستورَ دونَ إرادة الأمة، ونحنُ على استعدادٍ لأن ندوسَ بأقدامنا أكبرَ رأسٍ في مصرَ إذا فكّرَ في ذلك الأمر ".

عندها قامَ الملكُ باعتقاله, ولكنه ذاكَ الاعتقالُ الذي أتاحَ له تعلّمَ اللغة الألمانية, وتأليفَ كتابه ( عالمُ السدود والقيود ) الذي يحكي فيه عن تجربة سجنه بمنزَعٍ فلسفي!!

مما يوضّحُ لنا البونَ الشاسعَ بين هذا وبين حالِ معتقلات " العسكر " أبناءِ الطبقاتِ الاجتماعية المتَدنّية ذوي النفوس الحاقدة !! الذين قتلوا " الإبداع " فلم نعد نرى بعد مجيئهم القامات السامقة كالسابق !

وكذلك كان العقادُ جريئاً ضدّ خصومه الفكريين, لا سيما الشيوعيون كونهم أصحابَ الحضورِ الأقوى في وقته, لذلك هاجمهم في عدة كتب منها :

( الشيوعية والإنسانية) و ( الشيوعية والصهيونية ) و ( مذهب ذوي العاهات ) و ( أفيون الشعوب ) ..

ورغمَ شموليّة ردّه عليهم إلا أنّ الدافعَ الرئيسي في نقده لهم هو إبطالُ النظرية الشيوعية التي ترى : " دور الجماعة في صناعة التاريخ " بينما هو يعتقدُ عكسَ ذلك, أي بدور الفردِ لا الجماعة.

وفي نظرةٍ لـ (سلسلة العبقريات) نجدُه يدعمُ فكرتَه هذه من خلال تركيزه على دراسةِ كلّ شخصٍ من حيث الفرادة, اِنطلاقاً ممّا يُسمّى : / مفتاح الشخصية /, حيثُ يجعلُ القارئَ يشعرُ أنّ الفردَ فعلاً هو العاملُ الأول في النجاح, أو هو محورُ الحدث, بحيث إن غابَ الفردُ غابَ الحدثُ كلّه ...

ولهذا كتبَ عن نفسه مقالاتٍ, كـ مذكّرات شخصية, وفي مختلف مراحل حياته, جُمعتْ بعد وفاته في كتابٍ يحملُ عنواناً ذا دلالة : ( أنا ) .

وفي عبقرياته هذه لا شكّ أنه كان عميقاً في دراسته ومعالجته لبعض القضايا الحساسة, لكني لا أظنّها تبلغُ هنا درجةَ تحقيق العلامة محمد صادق عرجون, في كتابيه ( عثمان بن عفان ) و ( خالد بن الوليد ), وليُراجَع في ذلك مثلاً قصة / مالك بن نويرة / عند كليهما.

وإذا انتقلنا إلى كتابه ( إبراهيمُ أبو الأنبياء ) فأجزمُ أنه لا يوجدُ باحثٌ في تاريخ الأديان ومقارنتِها يستغني عنه, حيثُ درسَ نشأة الأديان الإبراهيمية بشكلٍ علمي قوي قلّما توجدُ دراسةٌ مثلها.

أما كتابه ( حياةُ المسيح ) فهو مهمٌّ في مقارنة الأديان, وإن كان يغلبُ عليه الطابعُ التأريخي, وقد أزعجني الباحثُ في علم المصريات /د. وسيم السيسي/ المسيحي, حين خرجَ منذ سنوات على قناة / mbc / ليستشهدَ به أكثرَ من مرة وهو ينقدُ رواية \ شيفرة دافنشي \, باعتبار العقادَ ذكرَ وثيقةً تصفُ ملامحَ السيد المسيح من شاهد عيان تخالفُ ما جاء في الرواية, لكن عند رجوعي للكتاب المذكور تتبين لي أنّ الروايةَ ذكرها العقادُ مكذّباً لها, لأنها بلا سند !!

وإذا انتقلنا إلى كتابيّه المتميّزين ( الله ) و ( إبليس ) نجدُ الإبداعَ في أعلى مستوياته, فالأولُ لا يُعلى? عليه في بابه, ولكن يُؤخذُ عليه مجردُ سطرين في المقدمة يُلمّحُ فيهما إلى تطوّر نظرةِ العبودية لله – سبحانه – حيثُ يقولُ إنها بدأتْ وثنيةً ثم ارتقتْ إلى الوحدانية !!

لكنه وبشموليةٍ كبيرةٍ يدرسُ مفهومَ " الله " عند كلّ الشعوب, سواء عند عُبّاد الأسلاف أو الطوطَم أو غيرهما من الأديان الأرضية, إلا أنّ الفصلَ الأكبر في الكتاب هو دراسةُ مفهوم " الله " عند الأديان الإبراهيمية, كلُّ دينٍ على حِدَةٍ, بشكلٍ يمتازُ بالنضج والدقة.., ثم يدرسُ تطوّرَ هذا الدين, من خلال دخولِ فكر الغَنوصيّة والأفلاطونية الحديثة إلى بعض معتقديه.

وقد أبدعَ في معالجته لقضيةٍ فلسفية شائكةٍ اِحتارَ كبارُ الفلاسفةِ فيها, وهي ما يُعرف بـ / مشكلة الشرّ / ووجوده في العالم, بطريقة رصينة لم أرَ أحداً جاراه فيها.

وفي ظني قد فاقَ كتابُه هذا كلَّ المؤلفاتِ التي تكلّمتْ في نفسِ الموضوع, سواءٌ كتاب / د. مصطفى محمود/ الذي يحملُ نفسَ العنوان ( الله ) أو غيره .

أما كتابُه الآخر ( إبليس ) فقد درسَ فيه نشأةَ مفهوم الشيطان عند مختلف الثقافات, مستَقصِياً بشكل دقيق كلَّ العقائد والأديان في العالم, ومن الطريف القول إنّ / صادق جلال العظم / اِعتمدَه بشكلٍ رئيسي في كتابه ( نقد الفكر الديني ) وكذلك خصومُه الذين ردّوا عليه !! .

وإذا ذهبنا إلى كتابه ( عقائدُ المفكرين في القرن العشرين ) نجدُه ممتعاً جداً, كونه درسَ فيه اللوثةَ الفكرية التي أصابتْ كبارَ الفلاسفة والمفكرين الغربيين, خاصةً بعد الحرب العالمية الأولى, وكيف أثّرَتْ الأحداثُ على التفكير..

ويُجملُ فيه الأسبابَ التي ساهمتْ في نشرِ الشكّ والمادية في عقول المفكرين الغربيين عموماً, في خمسة أسباب, هي : 

مسألة دوران الأرض، مسألة القوانين المادية أو الآلية ( فيزياء نيوتن )، مذهب النشوء والارتقاء ( الاتكاء على نظرية دارون )، علم مقارنة الأديان، مشكلة الشرّ وعلاقتها بالقدرة الإلهية.

أما كتابُه ( حقائقُ الإسلام وأباطيلُ خصومه ) فحُقَّ له أن يأمرَ الرئيسُ السادات بترجمته إلى كلّ لغات العالم, حيثُ ندرَ أن يوجدَ كتابٌ ردّ على شبهاتٍ حول الإسلام مثلَه .

في هذه العُجالة لم أستطع التطوافَ إلا على بعض كتبه الفكرية, لأني وبكلّ أسفٍ لم أطّلع على كتبه الأدبية – تقصيراً مني - رغمَ أنّ شهرتَه في هذا الجانب غَلبتْ تلكَ الجوانب التي أشرتُ إليها.

لكني لاحظتُ أمراً مهماً وهو أنه لا يعتمدُ في كتبه على الهوامش ولا ذكرِ مراجِعه, ولعلّ ذلك اِعتداداً بذاته, حيثُ يرى نفسَه أكبرَ من أن يُسمّيَ مصادرَه !!

وجديرٌ بالذكر أنّ الأستاذَ أنور الجندي – وهو باحثٌ كبير - أشارَ في كتابه : (حسن البنا - الإمامُ الشهيد ) إلى نقطةٍ مهمة وهي أنّ " الحركةَ الإسلامية " وأثرَها في المجتمع هي ما دفعتْ كلاً من العقاد وأمثاله كـ / طه حسين وأحمد حسن الزيات ومحمد حسين هيكل وأحمد أمين / وغيرِهم إلى الاهتمامِ بالفكر الإسلامي, والانتقالِ من الحالةِ الصحفية الأدبية البحتة إلى ما صاروا إليه أخيراً من اهتمامٍ واضحٍ بالتأليف في مجال الدراسات الإسلامية.

أمّا ما يُلاحظُ من غيابِ فكرِ العقاد عن الساحة الإسلامية وزُهدِ بعضِ الدعاة فيه, فيُعزَى إلى " فُجورته في الخصومة " كحاله حين طعنَ في " الحركة الاسلامية " بشكّل مُسفٍّ لا يليقُ بمكانته أبداً.

وهنا تجدرُ الإشارةُ – وربما نتيجةً لما سبق - أنه قد أُشيعَ عنه أنه كان لا يُصلّي !! إلا أني شاهدتُ لقاءً مع أبرزِ طلابه وهو الأستاذُ الناقد / أبو همام / يدفعُ هذا الاتهامَ عنه .

بعد هذا الاستعراض السريع يَحارُ الباحثُ أيّ كتابٍ منها يستحقُّ لقبَ " درّة المؤلفات ", وما ذاك إلا لأنّ كلَّ كتبِه على مستوى واحدٍ من العمق والجاذبية, ولا يمكنُ مطلقاً الاستغناءُ عنها, ولولا مللُ قرّاء وسائل التواصل الحديثة لتكلّمتُ أيضاً عن كتابه ( التفكير فريضة إسلامية ) و ( الإنسان في القرآن ) و ( الفلسفة القرآنية ) و ( الديمقراطية في الإسلام ) و ( ساعات بين الكتب ) وغيرها الكثير ..

وأخيراً 

لمعرفة الجوانب الفكرية والشخصية له بشكلٍ أكبر, أنصحُ بمطالعة كتاب أنيس منصور : ( في صالون العقاد, كانت لنا أيام ), ومن الناحية النقدية لفكره أنصحُ بكتاب د. غازي التوبة : ( الفكر الإسلامي المعاصر, دراسة وتقويم ) .

هذا ما بدا لي, واللهُ تعالى أعلى وأعلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين