شُهود الزُّور

أخرج البخاري عن أبى بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟" قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "الإشراك بالله وعقوق الوالدين". وكان متكئاً، فجلس وقال: "ألا وقول الزور، ألا وقول الزور، ألا وقول الزور..." قال: فما زال يكررها حتى قلنا: ليته يسكت!

* * *

في هذا الحديث لفتات مهمة، أولها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينتظر فرصة يسأله فيها أصحابُه عن الكبائر الثلاث التي أراد بيانها، فطرح هو السؤالَ بنفسه ثم طرح الجواب، وهذا السياق يدل على اهتمامه الكبير بالتحذير من تلك الكبائر الموبقات. اللفتة الثانية: أنه قرنَ عقوق الوالدين وقول الزور بالشرك، وفي هذا القِران تعظيمٌ وتفظيع لجُرمَي العقوق وشهادة الزور، لأن الشرك هو الذنب الأعظم على الإطلاق، فلا يُقرَن به إلا ذنب عظيم.

اللفتة الثالثة هي الأهم بين الثلاث، وهي لا تُفهَم إلا بتصور المشهد: كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً باسترخاء (في حالة اتّكاء)، وعلى تلك الحالة حذّر الأمة من جريمتين فظيعتين: الشرك وعقوق الوالدين، فلما وصل إلى الثالثة (شهادة الزور) اعتدل فجلس منتصباً وترك الاتكاء. ولم يكتفِ بذلك، بل راح يكررها مرات لا ندري عددها، مرات كثيرة ملأت قلوبَ أصحابه بالرهبة حتى تمنّوا لو يكفّ ويتوقف عن التكرار.

لماذا كان هذا التعظيم لشهادة الزور؟ لأنها لا تضرّ صاحبها وحده كالشرك، ولا يقتصر ضررها على أفراد معدودين كالعقوق، بل يمتد ضررها حتى يشمل المجتمع كله، فبها يتحوّل الأبرياء إلى مذنبين والمذنبون إلى أبرياء، وبها تلتبس الحقيقة وتضل الأفهام وتضيع الحقوق وتسيل الدماء.

* * *

الكذب والتدليس وقول الزور آفات منتشرة بين الناس، ولكنها أبشع ما تكون وأشنع ما تكون وأفظع ما تكون عندما تصدر ممّن يُحسَبون على الدين والجهاد، فيسيئون إلى الناس ويسيئون إلى الدين والجهاد.

إنني أتابع ما يكتبه منذ زمن طائفةٌ من مرقّعي الجولاني وأحباره، فلا أجد إلا كذباً وتدليساً وشهادات زور موشّاة بأدعية وآيات من القرآن! لقد صارت شهادة الزور عند هؤلاء القوم أهونَ من شربة ماء، ولا غرابة، فإنّ مَن يستحلّ دماءَ الأبرياء لن يستكبر ما دونها من الكبائر والموبقات.

هؤلاء المتواطئون على شهادة الزور باعوا ضمائرهم وأرواحهم للشيطان وأقبلوا على النار غيرَ هيّابين، فبأي شيء سنخوّف من لا يخاف من الله؟ مَن لم يخوّفه وعيدُ الله بالخلود في نار الجحيم من أي شيء يخاف؟ لقد علموا أنّ مَن تعمّد قتل المسلم البريء فإن جزاءه هو الخلود في نار جهنم بصريح القرآن، ثم استحلوا الدم الحرام وأفتوا بقتل المجاهدين المؤمنين، ثم هم ما يزالون يزوّرون الحقائق بلا وجل ويبثّون الأكاذيب.

ليس العتب عليهم، فمَن نسي الله لا ينفعه عتاب، إنما العتب على من يتابعهم في أكاذيبهم وأضاليلهم ومن يسمع منهم تدليسهم وتزويرهم ثم يقبله بلا تمحيص. هؤلاء يُعتَب عليهم ويُخشَى عليهم وتُرجَى لهم الهداية، هؤلاء يتمنى المرء أن يتخلصوا من العصبية والهوى والانقياد الأعمى ويبصروا الحق المبين، أما الآخرون، شهود الزور، فلينتظروا لقاء الله يوم الحساب.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين