تصحيح تصورات خاطئة في القدر والدعاء (6)

 

آن لنا أن نعرِّي هذا الذي تسوَّر على قضايا عقدية رئيسة سمعية، لم يحط بنصوصها علما، ولو علم منها نصا ذهب فيه إلى حيث مداركه التي امتلأت بتشوهات عقدية طرحها في معالجته، قضية القدر، والدعاء، التي نرجع في الإيمان بها إلى ما أتى فيها من كتاب الله، وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وسأذكر بعضا مما طرح هذا الإنسان عبارة بعد عبارة، وأعلق عليها تعليقا طفيفا لسبق بسط الحقيقة التي غاب بحث الباحث عنها !

أذكر مجموعة من الحقائق المسلَّم بها من قبل علماء الأمة:

1 - الإيمان بالقضاء والقدر هو ركن من أركان الإيمان الستة.

2 - من العلماء من قال : دليله سمعي من الكتاب والسنة.

3 - وقال آخرون: دليله دليل الصفات التي هي جوهره، وهي صفات : العلم، والإرادة، والقدرة، وهي صفات دليلها عقلي نقلي، وعليه فدليل القضاء والقدر عقلي نقلي.

4 - في حديث الرسول عليه الصلاة والسلام أنه قال يحدد أركان الإيمان الرئيسة : أَنْ تُؤمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيوْمِ الآخِر، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ".

5 - علل العلماء تكرار الفعل " تُؤمِنَ " في الحديث بتعليلين، كلاهما سائغ وقوي، فقالوا : إن إعادة العامل، وهو " تؤمن " إما لبعد العهد، لتعدد المؤمن به من الأركان قبل ذكر " القدر "، وإما للاهتمام بشأن الإيمان بالقدر، إذ تثير فيه بعض النفوس غبارا تعكر صفوه، وهو من " السمعيات " في كتب " التوحيد " ولا يدري من أبعاده إلا الحاذق الموفق!

-** هنا بعد أن رزقني الله مرحلة الكهولة، فخرجت بها من فترة المراهقة الفكرية، والتفكير الطفولي على ما قرر الباحث الشاب التفت إليه رأفة به، لأبين المسارب التي تخطى فيها بلا بوصلة صادقة توصله للصواب.

ومما قال الرجل دون مؤهَّل لما يتناوله، لهذا خبط فيه، وخلط في شعابه:

لله مشيئة، وللإنسان مشيئة، أعطاها الله له، ومشيئة الإنسان بلا حدود، ويبرز أن لله القدرة على إنفاذ ما شاءه الإنسان منه !

آيات ساقها الرجل تثبت في رأيه أن الإنسان هو الذي يشاء ، لا الله تعالى مثل : { إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }

في موقف السيدة مريم عليها السلام قد جعل - الباحث الشاب - فاعل فعل { يَشَاءُ } من قوله : { مَنْ يَشَاءُ } الإنسان، وليس الله ، فيكون - بحسب فهمه الشبابي - فعل { يَرْزُقُ } فاعله الله، ولم يذكر الرجل هذا ، وفعل { يَشَاءُ } فاعله الإنسان !!

-قال الباحث الهرم : من القضايا الاساسية والتي يجاب عنها غالبا بطريقة طفولية لا تخلو من السطحية مفهومان أساسيان :

- المفهوم السائد في قضية ربط الأمور وتفاصيلها بإرادة الله *المباشرة* ؟؟

- ومفهوم الدعاء لإنفاذ امر دنيوي ؟؟

- التعليق : الانتفاخ النفسي يورث العدوان على العلماء، والفتك بهم تقزيما لهم، وذبحا لما فعلوا، فالباحث! هنا اعتبر ما قرره العلماء عبر القرون، وكلهم جبل مشهود له في منزلته العلمية، أعمال أطفال، وهو البالغ الراشد الذييدعونا تحديه إلى امتحانه، لنقر له، أو يسقط بأدنى لمسة!

- وصفي للباحث بالشاب، لأنه هجم على علماء الأمة فوصف تفكيرهم بالتفكير" الطفولي " !!!

** مما وصل إليه الباحث أن القضايا التي تجري في الكون تجري وفق سَنَن الله، ومراده من خلال القوانين التي وضعها تعالى وتكمن إرادة الله وتدبيره .

-هنا يبني الباحث على فهمه لمنزلة إرادة الله النتيجة النفيسة، فيقول : إن عزو المصائب والحروب والدمار والتهجير والتقتيل إلى إرادة الله المباشرة في ذلك هو اتهام خطير وادعاء لا يخلو من جهل بالله .

- ثم يتبحبح الباحث في ميدان بحثه، فيُغير عقلُه الشابُ على تشريع الدعاء، فيقول :

أما الدعاء ؛ فلا يمكن بأي حال أن يحقق أمرا دنيويا بذاته ، لا بصورة معجلة ، ولا مؤجلة ، لا في الدنيا ، ولا في الآخرة ، كما المفهوم السائد !!!

- ثم يبدع في تألقه، وكأنه يصطدم بكم من النصوص في الدعاء ، وجبال من الواقع فيه، فيفسر " كلمة الدعاء " بما لم يأت به مفكر من قبله، ولا من بعده، فيقول :

إنما هو وسيلة ليتفتق العقل الإنساني عن إبداع الوسائل، وإيجاد الأسباب لتحقيق مراده بصورة مطلقة.

وكأنه أرجع أمر إجابة الدعاء للداعي نفسي ، والدعاء - هنا - لون إثارة للدماغ ليتفتق عن حلول !.

اعتبر الباحث حيث احترق عقله نضجا أن الجمل التي يقول بها العلماء ليست سوى جمل إنشائية محضة، وعامة، نشأت نتيجة للقراءة الظاهرية للنصوص المختلفة، ومحاولة لتعظيم الله بطريقة خاطئة بنسبة كل شيء إليه سبحانه !!

وهو لم ينكر القدر، بل ذهب به إلى تفسير لا صلة له بالقدر الذي ورد في النصوص الشرعية، ويرى أن نسبة الهيمنة على الكون لون انتقاص، وأن التعظيم يراه الباحث في أن الله قد خلق، وترك الكون يعمل بما وضع فيه، وفي هذا إلغاء لكل النصوص التي تؤكد أن الأمر كله لله، مع تعضيد هذه الحقيقة بكون الكون كله من جنس الجائز، والجائز عقلا يقبل ما لا يعد من الصور، وهو فقير في ذاته إلى من يظهره بإحداها، لاستحالة ظهوره بجميعها دفعة واحدة، وحتى بعد وجوده ويظل فقيرا وهو ما يسمى بالإمداد!

- قال : { كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}

- وقال - تعالى - :{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ }

- وقال : { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } ومعلوم أن من الشرك أن يجعل مع الله خالقا، أو أن يرى من الطبيعة وجودا " خلاقا "

- ألا يكفي منها آية تبين حقيقة افتقار كل المخلوقات!!

- يسند الباحث رأيه بالواقع ، فيقول :

إن الواقع ، وتفاصيل حياتنا ، وتفاعلاتها مع الأحداث، تنفي هذه المفاهيم الإنشائية، بل و تدحض بشكل يكاد أن يكون مطردا!!

- هلا تكرم الباحث فأعطانا نماذج من هذه الأحداث التي يراها فاعلة بذاتها، ولا علاقة لها بالله مشيئته ؟

- ويفصل في القول بأن المسلمين يدعون الله من أكثر من مئة سنة ، و حالهم إلى الأسوأ ، والظلم والجرائم ، والحروب والفساد يزداد ، ونحن بتصرفاتنا التي تمليها علينا عقولنا، وأفكارنا مسؤولون عنها، و سنحاسب عليها عند الله جل في علاه.

- لا أستبعد أمام هذا الطرح أن يكون الباحث في حال ركود عقلي، أغفله عما سبق أن قرره مما رآه حقائق - رآها - ملموسة، حيث قرر أن الدعاء عبارة عن تفتق ذهني يوجد به حل المشكلة، وقرر أن المسلمين يدعون الله من أكثر من مئة سنة، فكيف لم يتحول دعاؤهم الثابت إلى هذا الفتح الحداثي في تفسير الدعاء خلال مئة سنة !

ألا إنها أمّة لا خير فيها ألبتة !! إنه طرح حداثي من نوع الحدث الأكبر على ما يظهر!

ثم زعم الباحث أنه لم يستجب للأمة عبر مئة سنة دعاؤها !!

هلا ذكر الباحث من أين له هذه ؟

ثم إنه خلط بين الأمور التي يستنصر الله بها، وما يقتضي هذا الاستنصار من شروط على الأمّة أن تقوم بها، وأعرض عن دعوات كثيرة استجيبت للأمة، وعلى مستوى الأفراد، ما دعوا به، وما أظن أنه سيقول: قد استقرأت الأفراد عبر البلاد التي شعوبها مسلمة، فلم يذكر له أيٌّ منهم أنه دعا الله لأمرٍ ما، فاستجاب له؟! 

الحلقة الخامسة هنا

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين