تصحيح تصورات خاطئة في القدر والدعاء (5)

حقائق من الوحي والكون تصوِّب التصور

لو تكلمنا مع كتاب الله الذي هو كلام الله، ليحدثنا عن الله الذي انزل القرآن، لأتى بكمّ كبير من الآيات التي يحدثنا الله فيها عن مشيئته، والمسلم لا ينكر آية منها، ولكن قد يتراءى لبعضهم أن معناها غير معناها الذي أجمع عليه مواكب الجهابذة من العلماء، فأخذوا يلوون أعناق النصوص لتتواءم مع إدراكهم المغبر، أو مع ما يرغبون به من الدسيسة، وربما سندوا ليّ عنق آية لأنهم فهموا منها فهما انزرع في نفوسهم من غير الآية، فظنوا الآية تقول به، فاتجهوا إلى تحريف معناها، علما أن كثرة النصوص تؤكد مجموعة من الحقائق الكبرى في مسألة " المشيئة " أبدأ بها، ثم أعرض ما تيسر من النصوص التي تنطق بالحقائق بأقوى نطق :

- نقول لمن يبحث في مشيئة الله، وفي حدود ما أعطي الإنسان من مشيئة، إن الله تعالى يقول : { قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ}؟!!

- ثم أتناول في آيات من الآيات المعنى البارز الذي لا يضل عنه عاقل من كلٍ منها، وما الذي يجب على العقل أن يعيه:

{ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}.

عالمية الدعوة، دعت المكلف لاختيار الاستقامة في الحياة، وأخذت قضية التخيير من قوله: { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ } فأثبت له المشيئة في الاختيار، ما يشاؤه الإنسان يرجع إلى مشيئة الله، فإذا شاء المكلف طريقا، فهذا الاختيار قد علمه الله أزلا، وقد خصصت إرادته سبحانه ذلك أزلا، ويجلي حديث الرسول الذي رواه البيهقي :

قال الْأَوْزَاعِيُّ : أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودِيُّ فَسَأَلَهُ عَنِ الْمَشِيئَةِ، فَقَالَ:" الْمَشِيئَةُ لِلَّهِ تَعَالَى ".

- قَالَ: فَإِنِّي أَشَاءُ أَنْ أَقُومَ! قَالَ:" قَدْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَقُومَ ".

- قَالَ: فَإِنِّي أَشَاءُ أَنْ أَقْعُدَ! قَالَ: " فَقَدْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَقْعُدَ ".

- قَالَ: فَإِنِّي أَشَاءُ أَنْ أَقْطَعَ هَذِهِ النَّخْلَةَ! قَالَ:" فَقَدْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَقْطَعَهَا ".

- قَالَ: فَإِنِّي أَشَاءُ أَنْ أَتْرُكَهَا! قَالَ:" فَقَدْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَتْرُكَهَا ".

- قَالَ: فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الْصَّلَاةُ وَالْسَّلَامُ فَقَالَ:" لُقِّنْتَ حُجَّتَكَ كَمَا لُقِّنَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ".

- فموقف الجدل أكد هذه الحقيقة مع محاولة السائل التلوين في المواقف، وقد جاء الفعل المسند للسائل بصيغة المضارع " أَشَاءُ أَنْ أَقْعُدَ " الدال على الحاضر، وجواب الرسول قد أتي بالفعل الماضي: " فَقَدْ شَاءَ اللَّهُ " الدال على سبق مشيئة الله !

أرجو أن يكون الشاب قد دخل في الكهولة، ووعي عطاء القرآن للقضية العقدية التي لم يحسن الباحث الخوض فيها، وقد بحث فيها دون نص، ولو ذكر نصا لم يحسن فهمه!

- {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا }

- أثبت النص للإنسان مشيئة في اتخاذ القرار الصائب، وبيَّن النص أن أيَّ قرار يتخذه الإنسان قد أحاط الله به علما، وشاءه من الأزل، ذكر الربوبية في النص يلمع إلى أن الدعوة من مظاهر تربية الله لهذا المخلوق، وترقية سلوكه مع تصوره، والدعوة، وهي تبصر بالسداد، دعوة من عليم حكيم، لمّا أكد النص مشيئة الإنسان عبر عنها بالفعل الماضي: { شَاءَ اتَّخَذَ }، واكب النص بالتعبير بين ما يشاؤه الإنسان ومواكبة مشيئة الله له، وعبر في هذا بالفعل المضارع: { تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ } فكأنه قال: إن مشيئتي تظهر، وهي أزلية، في ظهور ما يختار الإنسان، وعليه فإنه إذا لم يكن قد شاء فإن الإنسان لن يقترب مما يريد !

{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ }

- هذه الآية تجلي العبارة الأخيرة من التعليق على الآية السابقة:{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }

- يجلي النص العلاقة بين القدرة في إبراز المخلوق، وبين شأن الإرادة الأزلية المخصصة لهذا المخلوق، حيث يخصص الله بإرادته المخلوق ببعض ما يجوز عليه، فوجود التخصيص للمخلوق أزلا من وراء إبراز القدرة المخلوق على ما خصصته الإرادة فيما لا يزال، وبالبداهة نرى أنه ما من مخلوق ظهر إلا وقد أراد الله ظهوره، ولا شأن للإنسان في هذا الظهور، ولا محاسبة له عليه بمجرد كونه : أبيض، أو طويلا، أو امرأة، أو مولود في جنوبي إفريقيا!

{قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}

بيَّن النص أن الله يخلق ما يشاء عبر سُنن علمنا منها ما علمنا، ولكن لا يذهبن بال الباحث إلى أن السنن تقيد طلاقة قدرة الله، وأنه إذا لم تكن الأسباب حاضرة، فلا عمل للقدرة ؟

إن قالب السنة الكونية يضبط من وُضع فيه، لا من وضعه!

{وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}

لم يشأ هداية الجميع، وأراد هداية من اهتدى، وحيث لم يرد دل على أنه علم وجود مثل فرعون وأبي جهل، ووجود الفاروق وسيف الله خالد، والإرادة تخصص على وفق العلم.

{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا}

علم من الأزل أنهم يشركون، فظهر علمه في عبَّاد الأصنام وفق ما علمه الله، ونقول للمشرك: لم يشأ لك أن توحد الله، لأن الله علم أنك ستشرك، وعلمه لا يتغير، وقد أشركت أنت في دار التكليف باختيارك السوء، ولو افترضنا أنه ليس هناك رسالات تدعو إلى التوحيد، ولا عِلمٌ تعلق بك أزلا على ما ستكون عليه، لكنت مشركا كما أنت عليه الآن.

{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}

أهناك أكثر بيانا من هذه الجملة القرآنية التي تثبت سلوك الإنسان { اقْتَتَلُوا } وتؤكد أن الله لو أراد لما كان ، وحيث كان فقد أراد.

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ}

توفية الله ثمرة الأعمال يرجع إلى أن هؤلاء عملوا، والله خلق آثار تلك الأعمال، فله خلق ثمرات الأعمال التي يقوم بها المكلف.

{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ }

كل الأسباب الداعية إلى الإيمان لا يقع منها ذرة من تأثير إلا بمشيئة الله العليم الحكيم، وأخشى أن يكون الباحث ممن تناولهم النص، بقوله:{ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ}!!

{فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}.

الكفر فعل من المكلف، والإيمان فعل من المكلف، وقد أعطى الله المكلف حرية الاختيار، والدليل وقوع التنوع فيه في الواقع، سلوك المكلفين جميعا أتى باختيار المكلف، وما اختاره قد شاءه الله من الأزل.

ظواهر كونية تشهد بالحق:

أرجو أن يستفيد الباحث من عطائها الذي هو محض شهادة للتوحيد الخالص، وأن هذا اللون بكل ظواهره لم يخلق نفسه، ولم يخرج بعدما دخل في الوجود عن قبضة القدير العليم الحكيم !

هذه شهادات يسجلها مجموعة من الظواهر الكونية، تشهد بأنها وجدت على مراد الله تعالى وأنها مازالت في قبضة قدرته يقلبها على ما يشاء كما يقلب الليل والنهار!

تعليق على صور كونية تبرز مسألة صلة المسلم بالله ، وتؤكد بدليل الحس أن التكوين يرجع كله لله ، ولا يملك مخلوق ذرة من القدرة على أن يكون وجوده على ما يشاء ، ويرد هذا:العقل، والسنن الكونية، والفطرة، وكون كل مخلوق من جنس الجائز، والجائز يقبل ما لا يعد من الصور، ولا يمكن أن يظهر بجميعها جملة واحدة، ولا بد من مرجح لواجب الوجود من خارجه.

** ذكرٌ مشروعٌ عند استقبالِ يوم جديد:

ما أسعد من يلجأ إلى الله، فيكون في كنفه!

أصبحنا، وأصبح الملك لله، اللهمّ إنا نسألك خيرَ هذا النهار، وخيرَ ما فيه، ونعوذ بك - اللهمّ - من شر هذا النهارِ، وشرِ ما فيه.

** الجمال الساحر في وقفة تأمل

- يتجلى من وقفته دلال الجمال، فتراه رافعا رأسه عند عنقود من زهر انعقد على بذور العطور!

- همست في سمعه: مالك - أيها الجميل - شامخا ؟ عجب من همسي، وكاد أن يخرج من جلده، وقال : أأعمى أنت ؟! أما ترى كمال صنع ربي بي ؟!

أما أخذتك رعشة الرونق الآسر في شكلي، وفي لوني، وفي تمكيني من وقفتي ؟

شهدت له بحضور الفطرة، واعترفت له بغلظ حجابي !

**النحلة عاشقة الزهور

- عشق النحلة تلك الطائر العجيب للعبير ، وغرام بمصدره من عالم الزهور!

قد ملأ ذات هذا الطائر مهمة لو قام بها إنسانٌ لكان من الأرقى سلوكا!

هي مدرسة بجدها الدائب تعلم الدارس : أن عليك أن تقدم للناس شرابا خاليا من الغش، يشيع في أجسام شاربيه قوة، ونشاطا، علاوة على الشفاء!

تقول سيرتها الراقية: مرابع عملي الزهر، وفوح العبير، وما يخطر بالبال لحظة ان أكسر غصنا لوردة، ولا أثقل عليه، بل آتي إليه بكل لطف، وأقبله بكل حنان!

أيظن الباحث أن عالم النحل هو الذي اختار ما هو عليه من مهام أم أن الله هو الذي ألهمه وظيفته، كما يلهم الذرات والمجرات!

** بين خلق الله وصناعة الإنسان

من النعم الخفية التي يغفل عنها كثيرون:وظيفة الكلى.

إذا تعطلت الكلى تلوث الدم تلوثا ينذر بالموت:

هدي الإنسان إلى صنع آلة بقدر " الثلاجة الصغيرة " تعمل عمل " الكلية " تقوم بتصفية الدم ، ومن تعطلت كليته يلجأ إليها مرة أو أكثر في الأسبوع !

الملاحظة أن الآلة بقدر حجم الثلاجة، لا تحمل لكبر حجمها، مما يضطر معه المريض إلى الحضور كلّ مرة إلى " المشفى " ويظل المريض معها مدة اربع ساعات، حيث تقوم بغسل الدم خلالها ثلاث عشرة مرة!

وهذه صورة " الكلية " خلقها الله مع سائر ما خلق من الأحشاء، وجعلها في مكان آمن من الصدر، هذا، وما دامت الكلية سليمة فإنها تقوم بغسل الدم في مدة أربع ساعات خمسا وثلاثين مرة، دون أن يدري صاحب الكلية بعملية الغسل هذه، ولا بالكلية نفسها، لا وزنا، ولا عملا، ولا توصيل أنابيب تتصل بالدم المغسول، ولا حضور إلى مكان محدد يحبس فيه ساعات!

**الجمال المرجاني:

الجمال في الكون بادٍ للبصيرة والبصر !

مَن ذا الذي لا يشهد الجمال الباهر المتنوع على وجه الأرض ؟!

مَن ذا الذي لم يطلع على التناسق الساحر في كل الكائنات البحرية بعد أن يسر لنا الاطلاع عليها عبر آلاف من المشاهد المصوّرة ؟!

 

إن رؤية القلب لكل الظواهر صغيرها، وكبيرها، تلهج اللسان بالتسبيح، بعدما غمر الذات سحر ما وقعت عليه الأبصار!!

يتبع 

الحلقة الرابعة هــنا

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين