حدث في الرابع عشر من جمادى الآخرة

في الرابع عشر من جمادى الآخرة في سنة 505 توفي في طوس، عن 55 عاماً، الإمام الجليل حجة الإسلام أبو حامد الغزالي، محمد بن محمد بن محمد ابن أحمد الغزالي. وفي نسبته قولان؛ الغزّالي لأن والده كان يعمل في الغزل، والغزَالي نسبة إلى قرية تسمى غزالة.

ولد الإمام الغزالي سنة 450 في طوس، وهي اليوم مشهد في شمال شرقي إيران، ودرس فيها، ولدراسته قصة ذكرها هو رحمه الله وهي أن والده كان يغزل الصوف ويبيعه في دكانه بطوس، فمات وخلف له ولأخيه مقداراً يسيراً، وأوصى بولديه محمد وأحمد إلى صديق له صوفي صالح، فعلمهما الخط، وفني ما خلف لهما أبوهما، وتعذر عليهما القوت، فقال: أرى لكما أن تلجأ إلى المدرسة كأنكما طالبان للفقه عسى يحصل لكما قوت، ففعلا ذلك. قال الغزالي: فصرنا إلى مدرسة نطلب الفقه، ليس المراد سوى تحصيل القوت، فكان تعلُّمُنا لذلك، لا لله، فأبى أن يكون إلا لله.

وبعد دراسته في طوس رحل الغزالي إلى نيسابور التي تبعد مسيرة يوم غرباً، ودرس في المدرسة النظامية على إمام الحرمين، عبد الملك بن عبد الله الجويني الشافعي، المتوفى عن 59 سنة في سنة 478 رحمه الله تعالى، وبرز من بين الطلبة بعلمه وانكبابه على الدراسة والتحصيل، فبرع في الفقه في مدة قصيرة، ومهر في الكلام والجدل، حتى صار عين المناظرين، ومعيد الدرس للطلبة، وشرع في التصنيف، ولم يزل ملازماً لإمام الحرمين إلى حين وفاته.

وكان من زملاء الغزالي في الدراسة عند إمام الحرمين تلميذ اشتهر فيما بعد بحسن المناظرة وإفحام الخصوم، وهو أبو المظفر الخَوافي، أحمد بن محمد الخوافي الشافعي، والذي عُدَّ أنظر أهل زمانه، وولي القضاء بطوس ونواحيها، وتوفي فيها سنة 500، وكان من زملائه إلكِيا الهراسي، أبو الحسن علي بن محمد الطبري، المولود سنة 450 والمتوفى ببغداد سنة 504، والذي كان فقيهاً محدثاً ومن أبرز تلاميذ إمام الحرمين الجويني، وكان إمام الحرمين يقول عن تلامذته الثلاثة: الغزالي بحر مغرق، وإلكيا أسد مطرق، والخوافي نار تحرق.

وتعرف الغزالي في هذه الفترة على الشيخ أبي علي الفارمذي، الفضل بن محمد بن علي المتوفى سنة 477، وكان واعظ خراسان وشيخها، وصاحب طريقة حسنة في تربية المريدين والأصحاب، وكان مجلس وعظه روضة فيها أنواع الأزهار والثمار، وهو الذي أسس لنزعة التصوف التي اتجه إليها الغزالي فيما بعد.

وبعد وفاة أستاذه إمام الحرمين سافر الغزالي إلى بلاط السلطان السلجوقي مُلكشاه، والتقى بوزيره نظام الملك في بغداد، وكان وزيراً صالحاً يحب العلم والعلماء، فأكرمه الوزير، وجرت مناظرات بينه وبين بعض العلماء ممن كان بحضرة الوزير، فظهر عليهم في هذه المناظرات، واشتهر اسمه، فولاه الوزير في سنة 483 تدريس النظامية، وهو في ريعان الشباب، وعظمت مكانته ببغداد حتى علت على الأمراء والكبار، وأعجب به أهل العراق، وتتلمذ عليه عديد من طلبة العلم الذين سيكون لهم شأن في المستقبل، منهم الإمام الكبير المجتهد أبو بكر ابن العربي، محمد بن عبد الله الأندلسي الإشبيلي المالكي، المولود سنة 468 والمتوفى سنة 543.

وفي هذه المرحلة ألف الغزالي كثيراً من كتبه في الأصول والفقه والكلام والحكمة والفلسفة، وأثار خوضه في الفلسفة اعتراضاً كبيراً عليه، لمخالفته ما درج عليه كبار العلماء من تجاهل الفلسفة وتكفير الفلاسفة، قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء: وأدخله سيلانُ ذهنه في مضايق الكلام، ومَزَّال الأقدام، ولله سِرٌّ في خلقه.

ولكن الغزالي يتحدث في كتابه المنقذ من الضلال عما دفعه للرد على الفلاسفة ومنهجه في ذلك، ما نورده بشيء من التصرف، يقول رحمه الله:

ثم إني لما فرغت من علم الفلسفة وتحصيله وتفهمه وتزييف ما يزيف منه، علمت أن ذلك أيضاً غير واف بكمال الغرض، وأن العقل ليس مستقلاً بالإحاطة بجميع المطالب، ولا كاشفاً للغطاء عن جميع المعضلات، وكان قد ظهرت دعوة التعليمية... ومبدأ مذهبهم إبطال الرأي وإبطال تصرف العقول، ودعوة الخلق إلى التعلم من الإمام المعصوم، وأنه لا مدرك للعلوم إلا التعليم... فعنّ لي أن أبحث في مقالاتهم، لأطّلع على ما في كنانتهم. ثم اتفق أن ورد علي أمر جازم من حضرة الخلافة، بتصنيف كتاب يكشف عن حقيقة مذهبهم... فابتدأت بطلب كتبهم وجمع مقالاتهم... فجمعت تلك الكلمات، ورتبتها ترتيباً محكماً مقارناً للتحقيق، واستوفيت الجواب عنها، حتى أنكر بعض أهل الحق مبالغتي في تقرير حجتهم، فقال: هذا سعيٌ لهم، فإنهم كانوا يعجزون عن نصرة مذهبهم بمثل هذه الشبهات لولا تحقيقك لها، وترتيبك إياها. وهذا الإنكار من وجهٍ حقٌ، فقد أنكر أحمد بن حنبل على الحارث المحاسبي رحمهما الله تصنيفه في الرد على المعتزلة، فقال الحارث: الرد على البدعة فرض. فقال أحمد: نعم، ولكن حكيتَ شبهتهم أولاً ،ثم أجبت عنها، فيم تأمن أن يطالع الشبهة من يعلق ذلك بفهمه، ولا يلتفت إلى الجواب أو ينظر في الجواب ولا يفهم كنه؟ وما ذكره أحمد بن حنبل حق، ولكن في شبهة لم تنتشر ولم تشتهر، فأما إذا انتشرت، فالجواب عنها واجب ولا يمكن الجواب عنها إلا بعد الحكاية.

وحكى واحد من أصحابي المختلفين إليَّ، بعد أن كان قد التحق بهم، وانتحل مذهبهم، أنهم يضحكون على تصانيف المصنفين في الرد عليهم، بأنهم لم يفهموا بعد حجتهم... فلم أرض لنفسي أن يُظن فيَّ الغفلة عن اصل حجتهم، فلذلك أوردتها، ولا أن يظن بي أني وإن سمعتها لم أفهمها، فلذلك قررتها. والمقصود، أني قررت شبهتهم إلى أقصى الإمكان ثم أظهرت فسادها بغاية البرهان.

وبعد مضي خمس سنوات من مكابدته للفلسفة وشكوكها ومناظرة دعاتها، وتدبيج الكتب فيها، أصبح الغزالي ممن يشار إليه بالبنان في علومها وبين أقرانها، ولعله في هذه المرحلة اكتسب لقب: حجة الإسلام، ولكن الغزالي رحمه الله تبرم بالفلسفة التي لم تزده من الله قرباً، ولم تملأ قلبه خشوعاً وجوارحه خضوعاً، وأصبح في قلق نفسي شديد من جراء ذلك.

قال رحمه الله في كتابه المنقذ من الضلال: وكان قد ظهر عندي أنه لا مطمع لي في سعادة الآخرة إلا بالتقوى، وكف النفس عن الهوى، وأن رأس ذلك كله، قطع علاقة القلب عن الدنيا، بالتجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود... ثم لاحظت أحوالي، فإذا أنا منغمس في العلائق، وقد أحدقت بي من الجوانب، ولاحظت أعمالي - وأحسنها التدريس والتعليم - فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير مهمة، ولا نافعة في طريق الآخرة، ثم تفكرت في نيتي في التدريس، فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت، فتيقنت أني على شفا جرف هار، وأني قد أشفيت على النار، إن لم أشتغل بتلافي الأحوال.

فلم أزل أتفكر فيه مدة، وأنا بعد على مقام الاختيار، أصمم العزم على الخروج من بغداد ومفارقة تلك الأحوال يوماً ... فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلى المقام، ومنادي الإيمان ينادي: الرحيل الرحيل! فلم يبق من العمر إلا قليل، وبين يديك السفر الطويل، وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وتخييل! فإن لم تستعد الآن للآخرة، فمتى تستعد؟ وإن لم تقطع الآن هذه العلائق فمتى تقطع؟

ووقع الغزالي إزاء هذا الصراع النفسي في اكتئاب توقف فيه عن التدريس وعاف الطعام والشراب، قال في المنقذ من الضلال: فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا، ودواعي الآخرة، قريباً من ستة أشهر أولها رجب سنة 488، وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار، إذ أقفل الله على لساني حتى اعتُقِل عن التدريس، فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوماً واحداً تطييباً للقلوب المختلفة إليّ، فكان لا ينطلق لساني بكلمة واحدة ولا أستطيعها البتة، حتى أورثت هذه العِقلة في اللسان حزناً في القلب، بطلت معه قوة الهضم ومراءة الطعام والشراب، فكان لا ينساغ لي ثريد، ولا تنهضم لي لقمة، وتعدى إلى ضعف القوى، حتى قطع الأطباء طمعهم من العلاج وقالوا: هذا أمر نزل بالقلب، ومنه سرى إلى المزاج، فلا سبيل إليه بالعلاج، إلا بأن يتروح السر عن الهم الملم.

ثم لما أحسست بعجزي، وسقط بالكلية اختياري، التجأت إلى الله تعالى التجاء المضطر الذي لا حيلة له، فأجابني الذي يجيب المضطر إذا دعاه وسهل على قلبي الإعراض عن الجاه والمال والأهل والولد والأصحاب، وأظهرت عزم الخروج إلى مكة وأنا أدبر في نفسي سفر الشام حذراً أن يطلع الخليفة وجملة الأصحاب على عزمي على المقام في الشام، فتلطفت بلطائف الحيل في الخروج من بغداد على عزم أن لا أعاودها أبداً... ففارقت بغداد، وفرقت ما كان معي من المال، ولم أدخر إلا قدر الكفاف، وقوت الأطفال، وترخصاً بأن مال العراق مرصد للمصالح، ولكونه وقفاً على المسلمين. فلم أر في العالم مالاً يأخذه العالم لعياله أصلح منه.

وغادر الغزالي بغداد وترك التدريس في النظامية، فتولاه نيابة عنه أخوه الأصغر أحمد، المتوفى سنة 520، وكان فقيهاً وواعظاً، واستقر الغزالي في مدينة دمشق مدة يتعبد في زاوية المسجد الشمالية الغربية التي عرفت به فصارت تدعى المدرسة الغزالية، وكان في عزلته يجاهد نفسه ويروضها، وهو مع إعراضه عن المناصب والوجاهة يُدرِّس في الجامع الأموي تذمماً من كتمان العلم، وألَّف في هذه المرحلة كتابه الكبير إحياء علوم الدين، ثم توجه إلى بيت المقدس بالقدس سائحاً عابداً على عادة الصوفية آنذاك، ثم توجه إلى الحج وفي نيته المجاورة ببيت الله الحرام، ولكنه ما لبث أن عاد إلى دمشق لينضم إلى أطفاله الذين طال شوقهم إليه.

قال رحمه الله في المنقذ من الضلال: ثم دخلت الشام، وأقمت به قريباً من سنتين اشغل الشغل لي إلا العزلة والخلوة، والرياضة والمجاهدة، اشتغالاً بتزكية النفس، وتهذيب الأخلاق، وتصفية القلب لذكر الله تعالى، كما كنت حصلته من كتب الصوفية. فكنت أعتكف مدة في مسجد دمشق، أصعد منارة المسجد طول النهار، وأغلق بابها على نفسي، وثم رحلت منها إلى بيت المقدس، أدخل كل يوم الصخرة، وأغلق بابها على نفسي. ثم تحركت في داعية فريضة الحج، والاستمداد من بركات مكة والمدينة وزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من زيارة الخليل صلوات الله وسلامه عليه، فسرت إلى الحجاز، ثم جذبتني الهمم، ودعوات الأطفال إلى الوطن، فعاودته بعد أن كنت أبعد الخلق عن الرجوع إليه، فآثرت العزلة به أيضاً حرصاً على الخلوة، وتصفية القلب للذكر.

وعاد الغزالي إلى بغداد في سنة 491 في حالة من الزهد والتقشف كان على النقيض مما كان عليه حين غادرها، قال أبو منصور الرزاز الفقيه: دخل أبو حامد بغداد فقوَّمنا ملبوسه ومركوبه خمسمئة دينار، فلما تزهد وسافر وعاد إلى بغداد فقومنا ملبوسه خمسة عشر قيراطاً.

وبقي الغزالي في حالة الخلوة والعزلة قرابة 11 سنة، تنازعه فيها دواعي العيش وعلائق العيال، وانتهى إلى أن مفتاح النجاة في الآخرة هو التفكر في العاقبة، وأن الإيمان نور في القلب يدخله بالبحث الصادق عن الحقيقة، والحرص على خلاص النفس من الأدران والشبهات، وترك التعلق بالدنيا والمناصب، والبعد عن الشهرة والظهور، فاستبدل التصوف الروحي بالفلسفة المنطقية.

ولم يكن الغزالي منقطعاً تمام الانقطاع عن الناس، بل فيما يبدو كان يستقبل طلبة العلم، ففي هذه الفترة اجتمع به في بغداد مؤسس الدولة المؤمنية في المغرب محمد بن عبد الله بن تومرت، الذي زارها لأنه كان في عداد طلبة العلم.

قال في المنقذ من الضلال: وكانت حوادث الزمان، ومهمات العيال، وضرورات المعيشة، تغيّر في وجه المراد، وتشوش صفوة الخلوة، وكان لا يصفو لي الحال إلا في أوقات متفرقة، لكني مع ذلك لا أقطع طمعي منها، فتدفعني عنها العوائق، وأعود إليها، ودمت على ذلك مقدار عشر سنين، وانكشفت لي في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها، والقدر الذي أذكره لينتفع به؛ أني علمت يقيناً أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى، خاصة وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو جُمع عقل العقلاء، وحكمة الحكماء، وعِلمُ الواقفين على أسرار الشرع من العلماء، ليغيروا شيئاً من سيرهم وأخلاقهم، ويبدلوه بما هو خير منه، لم يجدوا إليه سبيلاً، فإن جميع حركاتهم وسكناتهم، في ظاهرهم وباطنهم، مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به.

ويزعم بعض المؤرخين أنه قصد مصر وأقام بالإسكندرية مدة، وعزم منها على ركوب البحر للاجتماع بأمير المرابطين يوسف ابن تاشفين في مراكش لما بلغه منه من محبة أهل العلم والإقبال عليهم، ثم بلغته وفاته فعدل عن ذلك. قال اليافعي في مرآة الجنان: هذه الزيادة في ذكر دخوله مصر والإسكندرية، وقصده الركوب إلى ملك بلاد المغرب غير صحيحة، فلم يذكر أبو حامد في كتابه المنقذ من الضلال سوى إقامته ببيت المقدس ودمشق، ثم حج ورجع إلى بلاده، والعجب كل العجب، كيف يذكر أنه قصد الملك المذكور لأرب، وهو من الملوك والمملكة هرب! فقد كان له في بغداد الجاه الوسيع، والمقام الرفيع، فاحتال في الخروج عن ذلك، وتعلل بأنه إلى الحج سالك، لأداء ما عليه من فروض المناسك، ثم عدل إلى الشام، وأقام بها ما أقام.

ورغم العزلة والخلوة كانت نفس الغزالي تحدثه بأن واجب العلماء الدعوة إلى الله وإظهار الحق، ولكنه كان يرى أن الظروف لا تساعده في ذلك، فترخص في القعود عن هذا الواجب، قال في المنقذ من الضلال: والزمان زمان الفترة، والدور دور الباطل، ولو اشتغلتَ بدعوة الخلق، عن طرقهم إلى الحق، لعاداك أهل الزمان بأجمعهم، وأنَّى تقاومهم فكيف تعايشهم، ولا يتم ذلك إلا بزمان مساعد، وسلطان متدين قاهر، فترخصتُ بيني وبين الله تعالى بالاستمرار على العزلة تعللاً بالعجز عن إظهار الحق بالحجة.

وقدر الله أن الوزير فخر المُلك علي ابن الوزير الكبير نظامِ الملك دعا الغزالي للقدوم إلى نيسابور، فرفض الغزالي ذلك في أول الأمر وكتب للوزير الرسالة التالية:

بسم الله الرحمن الرحيم

ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات

اعلم أن الخلق في توجههم إلى ما هو قبلتهم ثلاث طوائف:

إحداها: العوام الذين قصروا نظرهم على العاجل من الدنيا، فمنعهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ما ذئبان ضاريان في زريبة غنم بأكثر فساداً من حب المال والسرف في دين المرء المسلم.

وثانيها: الخواص، وهم المرجحون للآخرة العالمون بأنها خير وأبقى، العاملون لها الأعمال الصالحة، فنسب إليهم التقصير بقوله صلى الله عليه وسلم: الدنيا حرام على أهل الآخرة، والآخرة حرام على أهل الدنيا، وهما حرامان على أهل الله تعالى.

وثالثها: الأخص، وهم الذين علموا أنَّ كلَّ شيء فوقه شيءٌ آخر فهو من الآفلين، والعاقل لا يحب الآفلين، وتحققوا أن الدنيا والآخرة من بعض مخلوقات الله تعالى، وأعظم أمورهما الأجوفان: المطعم، والمنكح، وقد شاركهم في ذلك كل البهائم والدواب، فليست مرتبة سنية، فأعرضوا عنهما وتعرضوا لخالقهما وموجدهما ومالكهما، وكُشِفَ عليهم معنى ?والله خير وأبقى?، وتحقق عندهم حقيقة لا إله إلا الله، وأن كل من توجه إلى ما سواه فهو غير خال عن شرك خفي، فصارت جميع الموجودات عندهم قسمين: الله، وما سواه، واتخذوا ذلك كفتي ميزان، وقلبُهم لسان الميزان، فكلما رأوا قلوبهم مائلة إلى الكفة الشريفة حكموا بثقل كفة الحسنات، وكلما رأوها مائلة إلى الكفة الخسيسة حكموا بثقل كفة السيئات.

وكما أن الطبقة الأولى عوام بالنسبة إلى الطبقة الثانية، كذلك الطبقة الثانية عوام بالنسبة إلى الطبقة الثالثة، فرجعت الطبقات الثلاث إلى طبقتين.

وحينئذ أقول: قد دعاني صدر الوزراء من المرتبة العليا إلى المرتبة الدنيا، وأنا أدعوه من المرتبة الدنيا إلى المرتبة العليا التي هي أعلى عليين، والطريق إلى الله تعالى من بغداد ومن طوس ومن كل المواضع واحد، ليس بعضها أقرب من بعض، فأسأل الله تعالى أن يوقظه من نوم الغفلة، لينظر في يومه لغده، قبل أن يخرج الأمر من يده، والسلام.

ويبدو أن الوزير رحمه الله أصر على الغزالي إصراراً لم يعد معه مجال لاعتذار، ولم يعد الغزالي يستطيع تبرير التقاعس عن القيام بواجب الدعوة وبخاصة في خراسان وغيرها، حيث شاعت فيها دعوات الإسماعيلية والطوائف الباطنية وأشباهها، فخرج إلى نيسابور في ذي القعدة سنة 499، وعن ذلك قال الغزالي في المنقذ من الضلال: فقدر الله تعالى أن حرك داعيةَ سلطان الوقت من نفسه، لا بتحريك من خارج، فأمر إلزام بالنهوض إلى نيسابور، لتدارك هذه الفترة، وبلغ الإلزام حداً كان ينتهي لو أصررتُ على الخلاف إلى حد الوحشة، فخطر لي أن سبب الرخصة قد ضعف، فلا ينبغي أن يكون باعثك على ملازمة العزلة الكسل والاستراحة، وطلب عز النفس وصونها عن أذى الخلق، ولمِ ترخصُ لنفسك عسر معاناة الخلق، والله سبحانه وتعالى يقول:? الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ?... فشاورت في ذلك جماعة من أرباب القلوب والمشاهدات، فاتفقوا على الإشارة بترك العزلة، والخروج من الزاوية، وانضاف إلى ذلك منامات من الصالحين كثيرة متواترة، وتشهد بأن هذه الحركة مبدأ خير ورشد قدرها الله سبحانه على رأس هذه المائة... وقد وعد الله سبحانه بإحياء دينه على رأس كل مئة، ويسر الله الحركة إلى نيسابور... وهذه حركة قدرها الله تعالى، وهي من عجائب تقديراته التي لم يكن لها انقداح في القلب في هذه العزلة.

ثم يقول الغزالي في صراحة المؤمن الصادق وتواضع العالم الصالح: وأنا أعلم أني - وإن رجعت إلى نشر العلم - فما رجعت! فإن الرجوع عودُ إلى ما كان، وكنتُ في ذلك الزمان أنشر العلم الذي به يُكتسب الجاه، وأدعو إليه بقولي وعملي، وكان ذلك قصدي ونيتي، أما الآن فأدعو إلى العلم الذي به يُترك الجاه، ويعرف به سقوط رتبة الجاه، هذا هو الآن نيتي وقصدي وأمنيتي، يعلم الله ذلك مني وأنا أبغي أن أصلح نفسي وغيري، ولست أدري أأصل مرادي أم أخترم دون غرضي؟ ولكني أؤمن إيمان يقين ومشاهدة أنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وأني لم أتحرك ولكنه حركني، وأني لم أعمل ولكنه استعملني، فأساله أن يصلحني أولاً ثم يصلح بي، ويهدني ثم يهدي بي، وأن يريني الحق حقاً ويرزقني اتّباعه، ويريني الباطل باطلاً ويرزقني اجّتنابه.

ولعله في تلك الفترة كتب أبو حامد الغزالي رسالة للسلطان محمد بن ملكشاه جاء فيها: اعلم يا سلطان العالم أن بني آدم طائفتين: طائفة غفلاء نظروا إلى مشاهد حال الدنيا، وتمسكوا بتأميل العمر الطويل، ولم يتفكروا في النَفَس الأخير، وطائفة عقلاء جعلوا النفس الأخير نصب أعينهم، لينظروا إلى ماذا يكون مصيرهم، وكيف يخرجون من الدنيا ويفارقونها وإيمانهم سالم، وما الذي ينزل من الدنيا في قبورهم، وما الذي يتركون لعيالهم من بعدهم ويبقى عليهم وباله ونكاله.

وفي طوس جاء الوزير فخر الملك إلى الغزالي والتمس منه أن يدرِّس في النظامية بنيسابور فاعتذر وقال أريد العبادة، فألحَّ عليه وقال له: لا يحل لك أن تمنع المسلمين الفائدة منك. فدرَّس فيها فترة، ثم تركها وعاد إلى طوس، وكان له من الأموال إرثاً وكسبا ما يقوم بكفايته، وقد عُرِضت عليه أموال، فما قبلها، واتخذ خانقاه للصوفية ومدرسة للمشتغلين بالعلم في جواره، ووزع أوقاته على وظائف الخير من ختم القرآن ومجالسة أهل القلوب، حتى توفي سنة 505 رحمه الله تعالى، ولم يخلف ولداً من الذكور، إذ لم يعقب إلا البنات.

ترك الغزالي من المؤلفات ما كان أهم من البنين في تخليد ذكره، وتتناول مواضيعها الفقه والفلسفة والتصوف، ومن مصنفاته في الفقه: المستصفى من علم الأصول ألفه سنة 503، والمنخول من تعليقات الأصول، والوسيط والبسيط والوجيز والخلاصة في الفقه الشافعي، والمنتحل في علم الجدل، واللباب، وبداية الهداية، وكيمياء السعادة، والمآخذ والتحصين والمعتقد، وإلجام العوام، والرد على الباطنية، ومقاصد الفلاسفة، وتهافت الفلاسفة، وجواهر القرآن، والغاية القصوى، وفضائح الإباحية، وغور الدور، ومعيار العلم، والمضنون به على غير أهله، والمقصد الأسنى في شرح الأسماء الحسنى، ومشكاة الأنوار، والمنقذ من الضلال، والقسطاس المستقيم، وحقيقة القولين، ونصيحة الملوك بالفارسية، والذي ترجمه إلى العربية بعد أكثر من 100 سنة صفي الدين علي بن المبارك ابن المستوفى.

كان الغزالي على ورعه وتقواه ومعرفته بالفقه والأصول، غير متمكن من علوم الحديث تمكناً يليق بأمثاله، ويبدو ذلك واضحاً في كتابه إحياء علوم الدين، فقد أورد فيه كثيراً من الأحاديث الموضوعة والضعيفة، والأقوال السائرة، وقد شعر بذلك في أواخر حياته، فأقبل على سماع الحديث، وسمع الصحيحين على الإمام الحافظ أبي الفتيان الرواسي، عمر بن عبد الكريم الدهستاني الرواسي، المتوفى بسَرْخَس سنة 503 عن 75 سنة، ولكن لم يتفق للغزالي رحمه الله رواية حديثية معتبرة.

ألف الغزالي رحمه الله كتاب إحياء علوم الدين، وكان جديداً في بابه لم يسبق إليه، فقد كانت كتب الوعظ تعتمد على المحسنات البديعية والصور البيانية، فأراد الغزالي أن يعتمد في الدعوة إلى اتباع تعاليم الدين الحنيف على المنطق المحض، وأن يبين أن ما أمر به الشرع هو خير وفلاح ولو نظرنا إليه بمعزل من مصدره الرّباني، واستعمل في توجيهه وإرشاداته أساليب أشبه بما نسميه اليوم علم النفس، مما يسهل على المهتدي سلوك سبل الهداية ويثبت أقدامه على الصراط المستقيم، وقدم في الكتاب أمثلة عملية لمشاكل عصره وحلولاً لها، ومزج ذلك بمذهب المتصوفة في ترويض النفس وإذلالها وحملها على ما تكره من التقشف والخشونة. وقد تناول الغزالي في سِفْرِه الضخم كل المواضيع التي تتعلق بالدين والدنيا من عقيدة وعبادات ومعاملات وآداب في الفرد والأسرة والمجتمع، فهو دليل عملي يشمل كافة جوانب الحياة.

قال رحمه الله في مقدمة كتابه مبيناً أن ما بعثه على تأليفه هو رغبته في تدارك تقصير العلماء في تبيان روح الدين: ولقد خَيّلوا إلى الخلق أن لا علم إلا فتوى حكومة تستعين به القضاة على فصل الخصام عند تهاوش الطغام، أو جدل يتدرع به طالب المباهاة إلى الغلبة والإفحام، أو سجع مزخرف يتوسل به الواعظ إلى استدراج العوام، إذ لم يروا ما سوى هذه الثلاثة مصيدة للحرام وشبكة للحطام.

فأما علم طريق الآخرة وما درج عليه السلف الصالح مما سماه الله سبحانه في كتابه: فقهاً وحكمة وعلماً وضياء ونوراً وهداية ورشداً، فقد أصبح من بين الخلق مطوياً وصار نسياً منسياً.

ولما كان هذا ثلماً في الدين ملماً وخطباً مدلهماً، رأيت الاشتغال بتحرير هذا الكتاب مهماً، إحياء لعلوم الدين، وكشفاً عن مناهج الأئمة المتقدمين، وإيضاحاً لمباهي العلوم النافعة عند النبيين والسلف الصالحين.

وقد أثار الكتاب ومنهجه المبتكر، وخلطه الفلسفة والمنطق بالوعظ والإرشاد، كثيراً من الجدل لا يزال قائماً إلى يومنا هذا، بين معجب ومعترض، فمن المعجبين من غالى في مدح الكتاب فقال: لو ذهبت كتب الإسلام وبقي الإحياء لأغنى عما ذهب! أما المعترضون عليه فمنهم أبو بكر الطرطوشي الذي أوصى بإحراق الكتاب، ومنهم الشيخ جمال الدين أبو الفرج ابن الجوزي الذي جمع أغلاط الإحياء في كتاب سماه إعلام الأحياء بأغلاط الإحياء، وأشار إلى توجيهات تتناقض مع الشرع، منها ما أورده الغزالي على سبيل الاستحسان أن أحد كبار المتصوفة قال: نزلت في محلة فعُرِفتُ فيها بالصلاح، فتشتت عليَّ قلبي، فدخلت الحمام وعدلت إلى ثياب فاخرة فسرقتها ولبستها ثم لبست مرقعتي فوقها وخرجت، وجعلت أمشي قليلاً قليلاً، فلحقوني فنزعوا مرقعتي وأخذوا الثياب وصفعوني وأوجعوني ضرباً، فصرت بعد ذلك أعرف بلص الحمام فسكنت نفسي.

وكما أسلفنا أورد الغزالي في كتاب الإحياء كثيراً من الأحاديث الموضوعة والضعيفة، فأنكر عليه معارضوه ذلك، وتعلل مؤيدوه بأن مثل هذا يجوز في الترغيب والترهيب، وقد قام الحافظ العراقي زين الدين عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن، المتوفى سنة 806، بتخريج أحاديثه في كتاب أسماه المغني عن حمل الأسفار في الأسفار.

ومدح الغزالي ومؤلفّه الفقيه أبو الفضل يوسف المعروف بابن النحوي فقال:

أبو حامدٍ أحيا من الدّين عِلمَهُ ... وجدّد منه ما تقادم من عهدِ

ووفّقه الرحمانُ فيما أتى به ... وألهمَهُ في ما أراد إلى الرُّشد

ففصّلها تفصيلَها فأتى بها ... فجاءت كأمثال النجوم التي تهدي

ولكن الكتاب لم يلق ذلك القبول عندما دخل إلى المغرب والأندلس، فقد كانت دولة المرابطين تتسم بالبساطة البدوية وتكره الفلسفة وعلم الكلام، وترى أنه بدعة في الدين، وربما أدى أكثره إلى الاختلال في العقائد، فلما دخلت كتب أبى حامد الغزالي رحمة الله المغرب، أمر أمير المسلمين يوسف بن تاشفين بإحراقها، وتوعد من وُجِدَ عنده شئ منها بسفك دمه ومصادرة أمواله.

اتسم أسلوب الإمام الغزالي في كتاباته بالبساطة والمنطق، ومن أمثلة ذلك حديثه عن الفرق بين الرجاء والأمنية، قال رحمه الله: الرجاء يكون على أصل، والتمني لا يكون على أصل، مِثالُه من زرع واجتهد وجمع بيدراً ثم يقول أرجو أن يحصل منه مئة قفيز فذلك منه رجاء. وآخر لا يزرع زرعاً ولا يعمل يوماً، قد ذهب ونام وأغفل سنة فإذا جاء وقت البيادر يقول أرجو أن يحصل لي مئة قفيز، فيقال: من أين لك هذه الأمنية التي لا أصل لها؟! فكذلك العبد إذا اجتهد في عبادة الله تعالى وانتهى عن معاصيه يقول: أرجو أن يتقبل الله هذا اليسير، ويُتِمَّ هذا التقصير ويُعظِمَ الثواب. فهذا رجاء منه، وأما إذا غفل وترك الطاعات وارتكب المعاصي، ولم يبال بسخط الله ورضاه، ووعده وعيده، ثم أخذ يقول: أرجو من الله الجنة والنجاة من النار. فذلك منه أمنية لا حاصل لها، وسمَّاها رجاء وحُسنَ ظنٍّ خطأً منه وجهلاً.

كان الإمام الغزالي ينظم الشعر ومن قوله في تحبيب العزلة:

لا تجزعنَّ لوِحدة وتَفَرُّدِ ... ومن التفرد في زمانك فازْدَدِ

ذهب الإخاء فليس ثَمَّ أُخوةٌ ... إلا التملق باللسان وباليد

فإذا كشفت ضمير ما بصدورهم ... أبصرت ثَمَّ نقيع سُمِّ الأسود

ولما حضره الموت سأله بعض أصحابه: أوصِِ. فقال: عليك بالإخلاص، فلم يزل يكررها حتى مات. ولما توفي الغزالي رثاه أبو المظفر محمد الأبيوردي بقصيدة منها:

مضى، وأعظمُ مفقودٍ فُجِعتَ به ... من لا نظير له في النّاس يخلُفُهُ

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين