حدث في السابع من جمادى الآخرة

 

في السابع من جمادى الآخرة من سنة 987=1/8/1579 رفع الجيش الصفوي حصاره عن مدينة تفليس، وهي اليوم تبليسي عاصمة دولة جورجيا شرقي البحر الأسود، بعد أن حاصر الجيش العثماني فيها 6 أشهر، وذلك ضمن الحرب الصفوية - العثمانية الثالثة والتي دامت 12 سنة.

وكانت أول حرب بين الصفويين وبين العثمانيين قد نشبت بعد أن استطاع الشاه إسماعيل الصفوي أن يحصل على تأييد القبائل التركمانية لمسعاه في تشكيل دولته، وأمر إسماعيل جنوده أن يضعوا قبعات حمراء عليها اثنا عشر خطاً ترمز لأئمة الشيعة، وعُرِفوا بها فصاروا يسمون القِزِلباش، وأسس إسماعيل سلطنته في سنة 907=1502، واستولى على بغداد سنة 914، وانتهت هذه الحرب سنة 920 بهزيمة الصفويين أمام السلطان سليم الأول في معركة جالديران.

وجاءت الحرب الثانية في أيام السلطان سليمان القانوني ابن السلطان سليم، والذي تولى العرش سنة 926، فبعد وفاة الشاه إسماعيل في سنة 930 تولى ابنه طهماسب الأول عرش البلاد، وعاد لإثارة المشاكل على حدود الدولة العثمانية الشرقية، فشنَّ السلطان سليمان القانوني حملة كبيرة في سنة 940 هزم فيها طهماسب واستولى على تبريز، ولكنه لم يستطع القضاء على طهماسب الذي تجنب خوض أية معركة حاسمة مع السلطان، محتفظاً بأغلب قواته حتى إذا انسحب السلطان عاد هو فاسترجع كثيراً من الأراضي التي استولى عليها السلطان بما فيها تبريز، وأدى هذا أن يعود السلطان سليمان القانوني لشنِّ حملة أخرى في سنة 955، فتحت تبريز، وفر من مواجهتها طهماسب، ولما انسحب السلطان عاد طهماسب فاحتل ما خسره، وهاجم شرق الأناضول مستغلاً انشغال الدولة العثمانية بمعاركها الأوروبية، فشنَّ السلطان سليمان حملة ثالثة في سنة 960 انتهت بعد قرابة سنتين بمعاهدة أماسيا التي اعترفت فيها الدولة العثمانية بالدولة الصفوية وسلطتها على بلاد فارس.

وجاءت الحرب الثالثة التي نتحدث عنها في أيام السلطان مراد الثالث، الذي تولى العرش سنة 982=1574 بعد وفاة والده السلطان سليم الثاني، وشنَّتها الدولة العثمانية مستغلة الفوضى والضعف الذين مرت بهما الدولة الصفوية آنذاك، رغم أن العلاقات بين الصفويين والعثمانيين كانت جيدة، ولما تولى السلطان مراد أرسل الشاه طهماسب الأمير دقماق أكبر أمرائه بهدايا يعجز الوصف عنها، حملتها قافلة من 500 جمل.

ففي 26 صفر سنة 984=25/5/1576 توفي الشاه طهماسب الأول، مسموماً على الأرجح، وتفرق القزلباش أحزاباً تؤيد أبناء طهماسب المتنافسين على السلطنة، وكانت نتيجة ذلك أن قُتِل ابنُه الأميرُ حيدر بعد بضع ساعات من إعلانه ملكاً على البلاد وحتى قبل دفن أبيه، فدفن الأب والإبن معا، ورجحت كفة أخيه الأمير إسماعيل الذي نودي به ملكاً على فارس، وكان له ميل إلى التسنُّن، فجرى تسميمه وتوفي في أواخر سنة 985=1578، وخلفه أخوه محمد خُدابند وكان مكفوف البصر، فسيطرت زوجته، وتدعى خير النساء، على أموره، فزالت هيبة الدولة ودبّت في أوصالها الفوضى والانقسام، وقام بعض القزلباش بقتل الأم بعد قرابة 8 شهور، فزاد الاضطراب وقوي مركز أمراء القزلباش على حساب الشاه، وتعاظم التنافس فيما بينهم وأصبحت الدولة في وضع ضعيف للغاية.

وكان بعض أمراء أذربيجان من الأسرة الشيبانية السُّنية قد انتهزوا تزعزع الدولة الصفوية وشنوا عليها هجمات في مناطق خراسان حققت نجاحاً ملحوظاً، واستنجد هؤلاء بالسلطان مراد الثالث الذي رأى في ذلك فرصة لمحاربة الدولة الصفوية والاستيلاء على الأراضي التي كان جده سليمان القانوني قد بسط عليها سلطة الدولة العثمانية من قبل، وكان الصدر الأعظم صُقللي باشا لا يحبذ الحرب، فقد رأى أن موارد الدولة المادية إضافة إلى علاقاتها المتوترة مع أوربا لا تسمح لها بخوض الحرب، ولكن السلطان قرر شنَّ الحرب وذلك بمشورة من وزيره ومربيه لالا مصطفى باشا.

وبرى بعض المؤرخين أن هذه الحرب كانت في جانب منها ضد الإمبراطورية الروسية قدر ما كانت ضد الشاه الضعيف، ذلك إن تطلع روسيا للتوسع جنوباً والاستيلاء على القوقاز كان أحد أركان السياسة الروسية، وكان الروس قد احتلوا أغلب البلدات الإسلامية على مجرى نهر الفولغا الذي ينبع من أواسط روسيا ويصب في بحر قزوين، فاحتلوا قازان سنة 959=1552 وأستراخان، قرب مصب الفولغا في بحر قزوين، سنة 963=1556، وكان من شأن وجود حكومة ضعيفة في إيران أن يغريهم بمتابعة توسعهم، ولذا يعتقد هؤلاء المؤرخون أن الباب العالي بادر واستولى على هذه المناطق قبل أن يقوم الروس بذلك.

وتولى التخطيط للحرب صقللي باشا، رجل السياسة والحرب المخضرم، فأرسل جيشين أولهما يقوده الوزير لالا مصطفى باشا وسيتجه شمالاً للاستيلاء على شيروان والكُرج، وهما اليوم أذربيجان وجورجيا، والثاني يقوده سنان قوجا باشا وسيتجه جنوباً ليهاجم تبريز والساحل الجنوبي لبحر قزوين والمناطق التي تليه، ونذكر هنا أن جيش لالا مصطفى باشا كان يتضمن 2800 جمل تحمل مهماته.

وعلم الصفويون بخبر الجيش الجرار القادم فلم ينتظروا وصوله بعد شهر، بل بادروا بإرسال قوة للاستيلاء على مدينة وان؛ أقرب المناطق العثمانية إلى حدودهم، ولكن واليها خسرو باشا هزمهم، وأتبع ذلك الصفويون بأن أرسلوا لاعتراض الجيش العثماني جيشاً من 30.000 فارس بقيادة الأمير دقماق، فعهد لالا مصطفى بالتصدي له لقائد من خيرة قواده هو عثمان أُزدميرأوغلو باشا، المولود في القاهرة، والذي حارب من قبل في اليمن والحبشة، وتولى منصب الوالي فيهما ثم منصب والي ديار بكر، فالتقى الجيشان في منتصف سنة 986= 1578، في معركة حصن جلدر في أقصى الشمال الشرقي لتركيا، وانجلت المعركة عن هزيمة الصفويين ومقتل 5.000 جندي منهم وأسر 3.000، وأصبح الطريق مفتوحاً أمام العثمانيين للاستيلاء على جورجيا.

ودخل لالا مصطفى باشا تبليسي في 20 جمادى الآخرة سنة 986=10/8/1578، وقسم الباشا البلدان التي استولى عليها إلى أربعة مناطق، وعين ولاة لها تابعين للدولة العثمانية، واختار لولاية جورجيا الأمير الجورجي مَنوشار، الذي اعتنق الإسلام وتسمى باسم مصطفى، فجعله بمرتبة نائب السلطان فيها، وكذلك جعل العثمانيون أخاه والياً على لواء أولتو قرب أرضروم، وهو تقليد ندر أن شذ عنه العثمانيون في فترات حكمهم لجورجيا، وفي المناطق الجبلية والنائية من جورجيا والتي يصعب احتلالها والسيطرة عليها، مثل أبخازيا، اكتفى العثمانيون بأن يعلن المتنفذون فيها ولاءهم للدولة العثمانية ليبقوهم في مناصبهم.

وكان الملك على إقليم كارتلي في وسط جورجيا هو الملك داود باشا الذي كان في الأصل أميراً جورجياً اعترف بالسيادة الصفوية قبل حوالي 20 سنة في أيام الشاه طهماسب، واعتنق الإسلام، فسانده الشاه في حربه ضد أخيه سيمون حتى هزمه، وسجن الصفويون سيمون في قلعة ألموت، ولعجزه عن مواجهة العثمانيين هرب داود باشا لاجئاً إلى أسياده الصفويين.

وكانت المرحلة الثانية من الخطة العثمانية هي الاستيلاء على شيروان، أو شمالي أذربيجان، وأدرك الصفويون ذلك فشنوا هجوماً لقطع الطريق على العثمانيين قاده دقماق خان مع 20.000 خيال، ولقي هزيمة منكرة قرب نهر آراس على يد عثمان أُزدمير أوغلو باشا، وسرعان ما وصلت الجيوش العثمانية إلى الضفة الغربية لبحر قزوين مسيطرة على المناطق ذات الأغلبية السنية التي رحبت بالعثمانيين.

وبعد انتصاريه في هذه الحرب برزت كفاءة عثمان باشا العسكرية، وأضحى من ألمع وأشهر القادة العثمانيين في زمانه، وكان من حكمة لالا مصطفى باشا أن تراجع وترك له قيادة المعارك دون أن يبدي أي غيرة أو حسد على النحو الشائع آنذاك بين رجالات الدولة العثمانية.

وكان لدى لالا مصطفى خياران: أن يتجه شمالاً نحو داغستان أو جنوباً نحو تبريز، وقرر الاتجاه شمالاً نحو داغستان لكون أهلها من السُّنة، ولما أراد التوجه إليها واجه مشكلة في تعيين وال على شيروان، فقد رفض قادته المنصب لعلمهم أن الجيش الصفوي سيهاجم شيروان بقوة ما أن ينطلق الجيش العثماني نحو داغستان، وإزاء هذا التخاذل تقدم عثمان باشا للمنصب مضحياً بمستقبله العسكري اللامع، فقبل منه ذلك لالا مصطفى ورفّعه إلى رتبة المشير، وجعله والياً على شيروان وداغستان، مع صلاحيات تعيين نائب له في كل منها.

وانسحب لالا باشا إلى أرضروم لقضاء الشتاء، الذي لا يمكن استمرار القتال في غضونه لشدة البرد وتراكم الثلوج في هذه الأصقاع، وسرعان ما سار باتجاه شيروان جيش صفوي قوامه 25.000 جندي ويقوده عروج خان والي شيروان السابق، فسار شمالاً وعبر نهر كورا باتجاه مقر عثمان باشا في بلدة شماخي، وعاضده جيش آخر قوامه 15.000 جندي اتجه غرباً إلى بلدة أرش بغرض تطويق الجيش العثماني من اتجاهين، واستولى هذا الجيش على أرش بعد أن دافعت عنها الحامية العثمانية حتى أبيدت، وارتكب مذبحة قتل فيها عدداً كبيراً من أهاليها من السُّنة.

وكان لالا مصطفى قد توقع مثل هذا الهجوم وطلب من خان القِرِم إمداد الجيش العثماني في شيروان بفرسانه المعتادين على حرب الشتاء، فأرسل أخاه عادل كيراي مع 15.000 جندي، ولكنهم وصلوا متأخرين بعد أن انتهت معركة شماخي بنصر ساحق حققه عثمان باشا وأباد فيه جيش عروج خان وأسره مع ابنه، وأمر بإعدامهم عقوبة على مذبحة أرش.

وبعد هذه الهزيمة المشينة شكل الصفويون جيشاً قوامه 100.000 جندي يرأسه الأمير حمزة ميرزا ولي العهد، وكانت رئاسته صورة فقط لرفع المعنويات، فقد كان الأمير في الثالثة عشر من عمره، وكانت القيادة بيد الوزير الأعظم الميرزا سلمان جابري أصفهاني، ووصل هذا الجيش إلى شماخي التي كان أوزدمير أوغلو يتحصن في قلعتها، وكان فرسان القِرِم مرابطين خارجها، وفي 27 رمضان سنة 986=27/11/1578 بادر هؤلاء الفرسان على طريقتهم المعهودة في شن الهجوم على الصفويين، الذين كانوا قد أعدوا كميناً ارتد على المهاجمين، واستطاع تشتيت شملهم، وأسر الصفويون عادل كيراي وأخذوه إلى قزوين حيث قيل إن امرأة الشاه وقعت في حبه، وكان نصيبه في آخر المطاف القتل بعد أن رفض اعتناق المذهب الشيعي.

ولم تفت هذه الهزيمة في عضد عثمان أوزدمير أوغلو رغم خسارته أكثر من نصف جنوده، وقرر الانسحاب شمالاً إلى دربند في داغستان، واستولى الصفويون ثانية على شيروان، وشجعهم هذا على مهاجمة تفليس/تبليسي عسى أن يستردوها قبل أن يصل لالا باشا بالمدد كما هو متوقع، فبدأوا حصارها في 1 صفر سنة 987=30/3/1579.

وكانت الحامية العثمانية في تفليس لا تزيد عن 1800 جندي يقودهم فرهاد محمد زاده باشا يقابلهم 15.000 جندي صفوي، وكان من المتوقع في البداية ألا يطول الحصار أكثر من شهر أو شهرين، وبخاصة أنه بدأ في فصل الربيع حين من المتوقع أن يتحرك لالا مصطفى باشا بقواته من أرضروم، ولكن لالا مصطفى لم يتحرك إلا بعد 100 يوم من بدء الحصار، فقد أرسل يطلب الجنود من الولايات المختلفة حتى أصبح لديه جيش مكون من 100.000 جندي فسار بهم ليهاجم الصفويين ويفك الحصار.

وفي هذه الأثناء كانت الأقوات تشح في القلعة المحاصرة، واضطر الجنود بعد أن أكلوا الخيول إلى أكل الحمير والكلاب والقطط، وبدأت الأمراض تفتك بهم فلم يبق منهم سوى 800، وبدأت أخبار جيش لالا مصطفى تصل إلى مسامع الصفويين، ولما وصل إلى قارص أمر ببناء قلعة محصنة فيها، ثم بدأ في التحرك إلى تفليس، ولما علم القائد الصفوي أن طلائع الجيش العثماني بموسيقاها المألوفة قد اقتربت من المدينة، انسحب في 7 جمادى الآخرة من سنة 987=1/8/1579، ورفع الحصار الذي دام 124 يوماً.

وخلال 4 شهور استرجع العثمانيون شيروان من الصفويين، وقام لالا مصطفى ومعه أوزدمير أوغلو بتأسيس الوجود العثماني في المنطقة، فشيد لالا مصطفى في قارص المساجد والمدارس والحمامات وجلب إليها أهل الأطراف، وأنشأ أوزدمير أوغلو أسطولاً في بحر قزوين قاعدته دربند، وكان من المتوقع أن يكون هدف الحملة في الربيع القادم الاتجاه جنوباً إلى منطقة خراسان والقضاء على الدولة الصفوية.

ولكن حدثاً في استانبول لم يكن في الحسبان قلب الأمور في الميدان، ففي 20 شعبان سنة 987=13/10/1579 اغتيل في إستانبول الصدر الأعظم محمد صُقُللي باشا، وخسرت الدولة العثمانية رجلاً قديراً محنكاً عارفاً بأبواب السياسة والحروب، وأخذ مكانه الوزير أحمد باشا، وصار لالا مصطفى باشا من حيث الأقدمية ثاني وزير في الدولة العثمانية.

وأصبح تفكير لالا مصطفى باشا منصباً على الحصول على منصب الصدر الأعظم، فقد كان مقتنعاً أن أحمد باشا ذو شخصية ضعيفة، وأن السلطان لن يلبث أن يعزله، وأن المنصب الذي فات لالا مصطفى باشا قبل 13 سنة سيأتيه بعد ذلك، وكما هي العادة توقفت الأعمال العسكرية في الشتاء وانسحب لالا مصطفى إلى أرضروم وهو يتطلع إلى رسالة من السلطان تدعوه إلى استانبول.

ولم يطل انتظاره فقد دعاه السلطان إلى استانبول بعد شهر ونيف، وجعل محله قائداً سنان قوجا باشا الذي كان سيء السجايا، عديم الأخلاق، ضعيفاً من الناحية العسكرية، ولكنه كان ماهراً في التبجح والدعوات العريضة، ووعد السلطان أنه ابن بَجْدَة هذه الحرب، وأنه لن يعود إلا مع الشاه مكبلاً في السلاسل، وكان هذا التعيين نذير سوء على عثمان أوزدمير أوغلو باشا فقد كانت بينه وبين سنان باشا عداوة متأصلة.

وعاد لالا مصطفى إلى استانبول وبوفاة أحمد باشا بعد بضعة أسابيع حقق أمله في أن يصبح الصدر الأعظم ووكيل السلطنة، وبدأ يخطط للتخلص من سنان باشا، ولكنه لم يمتع طويلاً بالمنصب فقد مات بعد 99 يوماً، وجاء سنان باشا من تفليس ليصبح مكانه في منصب الصدر الأعظم! ما أبهظ الثمن الذي تدفعه الأمم عندما تتحكم بقادتها المطامع والمصالح الذاتية.

ولم يكن في نية سنان باشا أن يُمد أوزدمير أوغلو بما يحتاجه من جنود وعتاد ليشن حرباً يأمل أن تنتهي بالقضاء على الدولة الصفوية، إذ لو تحقق ذلك أو هزمت الدولة الصفوية هزيمة منكرة فإن أوزدمير أوغلو سيكون بطل الأمة وسينافسه على الزعامة، فأخذ يماطل ويسوف ويتعلل حتى مضت سنتان من الوقت الثمين استطاعت أثناءهما الدولة الصفوية من إعادة تنظيم قواتها وحشد جيوشها والاستعداد لجولة أخرى.

أما أوزدمير أوغلو فتصرف في مصلحة البلاد بما أملاه عليه ضميره ووفقاً لما تحت يده من إمكانيات، فنقل مقر قيادته إلى باكو على شاطئ بحر قزوين، واهتم بتحسين إنتاج آبار نفط باكو وإصلاح قلعتها، وبقي ينتظر قدوم الجنود الذي لم يتحقق، ولم يأته سوى 5000 جندي من القِرِم، وحشد الصفويون جيشاً قوامه 18.000 جندي اتجه نحو باكو، فهاجمه العثمانيون أثناء عبوره نهر كورا وأبادوا جنوده عن بكرة أبيهم، وذلك في آخر سنة 988=أول سنة 1581، فأعد الصفويون جيشاً آخر ترأسه الوزير الأكبر سلمان جابري هدفه حصار باكو، ولكن عثمان أوزدمير أوغلو باشا استطاع هزيمته.

وبعد سنة من المحاولات الفاشلة جنح الصفويون للصلح، وأرسلوا إلى إستانبول الأمير التركماني إبراهيم خان رسولاً في 4 ربيع الأول سنة 990=29/3/1582، وتضمن العرض الصفوي إقامة الصلح على أساس تنازل الصفويين عن جورجيا وداغستان وأن يعيد العثمانيون لهم شيروان، وغضب السلطان مراد من هذا الطلب وعزل سنان باشا من منصب الصدر الأعظم لأنه فكر في قبول مثل هذه التسوية.

وفي تلك الأثناء كان الأمير التركستاني عبد الله الشيباني، الذي يتصل نسبه بجنكيز خان، قد شن حملة على الدولة الصفوية حققت نجاحاً ملحوظا، ولو كان لدى أوزدمير أوغلو القوات الكافية لأمكنه أن يشن حرباً على الصفويين وهم في أضعف الحالات، ولكن الجيش الذي حشده سنان باشا بقي في أرضروم ينتظر أوامر ما كان في نية سنان باشا أن يصدرها.

وتشجع الصفويون الذين أدركوا حرج موقف أوزدمير أوغلو في شيروان، وأرسلوا جيشاً قوامه 15.000 جندي يقوده الأمير باكير فتصدى له أمير القرم غازي كيراي مع 3.000 فارس، فانتصر باكير وأسر غازي كيراي وأرسله إلى السجن في قلعة ألموت.

وفاض الكيل بأوزدمير أوغلو فأرسل رسالة إلى السلطان مراد الثالث يشتكي فيها من تلاعب سنان باشا ورجال الديوان ومماطلتهم، وأن هذا قد أضاع الفرص الثمينة ويوشك أن يوقع هزيمة تدنس شرف الدولة، واستاء الصدر الأعظم ورجال الديوان السلطاني من أن يتجاوزهم أوزدمير أوغلو ويخاطب السلطان مباشرة، وحاولوا التمويه على السلطان، ولكن ذلك لم ينجح وأمر السلطان على الفور بحشد جيش تحت قيادة جعفر باشا يسير شمالاً من القِرِم عبر جبال القوقاز إلى باكو، ووصلوا إلى مقصدهم في آخر سنة 990=1582، وأخيرا حصل عثمان أوزدمير أوغلو باشا على القوات التي كان ينتظرها منذ 3 سنوات.

وأرسل السلطان فرهاد باشا قائداً عاماً للجبهة الشرقية مع جيش تعداده 64.000 جندي و300 مدفع ومعه 10.000 عامل بناء للعمل في التحصينات والقلاع، وعلم الصفويون بتحرك الجيش من أرضروم فبادروا بالهجوم على عثمان باشا فور وصول الجيش في سهل بيلاسا قرب بلدة قوبا، في الشمال الشرقي من أذربيجان، وبدأت المعركة في 16 ربيع الثاني سنة 991= 9/5/1583 ودامت على غير المألوف 3 أيام دون توقف نهاراً، وليلاً على ضوء المشاعل، قبل أن تنجلي عن خسارة فادحة للصفويين ومقتل قائدهم الأمير إمام قولي، وكانت هذه المعركة، التي تسمى كذلك معركة المشاعل، نقطة فاصلة في الحرب اتضح فيها رجحان الكفة العثمانية.

ودخل أوزدمير أوغلو بلدة شماخي للمرة الخامسة وأمر ببناء قلعة كبيرة فيها أنجزت خلال 44 يوماً، ثم سار منها إلى باكو، وبعدها غادر إلى إستانبول عبر السفوح الشمالية لجبال القوقاز في رحلة ستدوم 8 أشهر، وقد أنعم عليه السلطان مراد وهو في شماخي بأن جعله نائب الوزير الأعظم وطلبه إلى استانبول.

أما فرهاد باشا فسار من قارص ودخل يروان، عاصمة أرمينيا اليوم، دون مقاومة تذكر، وشيد فيها قلعة كبيرة، وأجرى سلسلة من التعيينات وزع فيها ضباطه وقواتهم على البلدات والحصون في المنطقة، ثم انسحب عائداً إلى أرضروم لقضاء فصل الشتاء.

ووصل عثمان أوزدمير أوغلو باشا إلى استانبول بعد 6 سنوات من مغادرته لها، فلاقاه سكانها بحفاوة واحتفالات لم يسبق لها مثيل، واستقبله السلطان مراد الثالث في قصره واجتمع به منفرداً مدة 4 ساعات، وعند انتهاء الزيارة خلع السلطان سيفه وخنجره وحلية تاجه وأهداها إلى عثمان باشا في إكرام لم يسبق له مثيل من قبل، تكريماً لعبقريته العسكرية وشجاعته وانتصاره في 4 حروب تحت أقسى الظروف.

وبعد شهر من وصوله إلى استانبول أصدر السلطان أمره بتعيين أوزدمير أوغلو في منصب الوزير الأعظم، وبقي هذا المحارب المخضرم في استانبول 3 أشهر ثم غادرها ليتابع معركته مع الدولة الصفوية، وأمر قادته وجيوشهم بالتجمع في سيواس، استعداداً لمعركة فاصلة تتم في السنة القادمة سنة 993=1585.

واجتمع في سيواس 200.000 جندي أصبح من الصعب تدبير أمور إقامتهم ومعيشتهم فأمر أوزدمير أوغلو بعودة ربعهم، وتحرك في الصيف على رأس جيشه نحو تبريز، فوصلها بعد 40 يوماً، وسيراً على منهج صفوي قديم قرر الشاه أن خوض معركة نظامية مع الجيش القادم هو ضرب من التهور، فانسحب من تبريز تاركاً ابنه الكبير حمزة ليهاجم الجيش العثماني ويناوشه، ودخل العثمانيون تبريز للمرة الرابعة في تاريخهم في 29 رمضان سنة 993.

وكانت السنوات الست التي قضاها أوزدمير أوغلو في برد أذربيجان والقوقاز قد بدأت تفعل فعلها في بدنه وآثارها تظهر على صحته، وهو الذي قضى أغلب سني عسكريته في السودان واليمن والبصرة والأحساء، فقد منعه ألم المفاصل من ركوب جواده العربي الأسود الذي أمضى مع فارسه 30 سنة، وصار يركب في محفة، وبعد فتحه تبريز بشهر خرج ليتابع مسيره غير عابئ بصحته المتدهورة، ولكنه توفي بعد يوم من خروجه، عن 58 سنة، ونقل جثمانه حسب وصيته إلى دياربكر حيث دفن فيها، ويعد المؤرخون هذا القائد، العربي الأصل من ناحية الأم، أعظم قائد عسكري عثماني في زمانه.

وكان الصفويون قد علموا بمرض أوزدمير أوغلو، ولما سمعوا شائعة مبكرة تضمنت موته شنوا هجوماً ليلياً مفاجئاً على مؤخرة الجيش العثماني فشل في تحقيق أية نتيجة فانسحبوا، ولما تأكدوا من وفاته عاد ولي العهد الصفوي الأمير حمزة فأعد جيشاً وصل حتى أسوار تبريز، وحاصرها ما يزيد على 9 أشهر دون أن ينجح في انتزاعها فقد كان عثمان باشا قد شحنها بالطعام والعتاد، وتحسباً للحصار وتوفيراً للطعام أخرج العثمانيون أهل تبريز من الشيعة، وفي 15 رمضان سنة 994=30/8/1586 فوجئ العثمانيون المحاصَرون أن الأمير حمزة قد انسحب ورفع الحصار عن تبريز، ثم تبين لهم أن ذلك كان لاقتراب وصول فرهاد باشا بجيش عدده 80.000 جندي سار به من أرضروم، ولم يطل مكث فرهاد باشا في تبريز، فقد عاد لقضاء الشتاء في أرضروم بعد أن ترك في تبريز 20.000 جندي مع الأقوات والعتاد، ولكن الشتاء جاء بكثير من الأحداث التي ستغير مجريات الأمور في الجانب الصفوي.

فقد اغتيل ولي العهد الصفوي حمزة ميرزا في آخر سنة 994=1586، وهو الذي كان معقد الآمال الصفوية لكونه عسكرياً خاض غمار الحرب ونجح في مواجهة العثمانيين دون خسارة حاسمة قاصمة، فاتجهت الأنظار إلى أخيه عباس البالغ من العمر 14 سنة، والذي كان في هراة يحارب الشيبانيين تحت وصاية مرشدقُلي خان أحد زعماء القزلباش ووالي سِستان ومن بعدها باخرز وخواف، والذي أصبح أقوى رجل في البلاد.

وفي سنة 995=1587 جمع الأزبكيون الشيبانيون جيشاً كبيراً وهاجموا خراسان، وتحرك العثمانيون جنوباً فاحتلوا همدان ولورستان وخوزستان حتى وصلوا لسواحل الخليج ودان لهم كثير من أمراء المناطق، وحاول والي همدان قرقماز خان التصدي لهم في معركة جامساب فهزم وأسر بعد أن خسر 9.000 قتيل من جنوده.

واستغل مرشد قولي هذه الخسارات ودخل قزوين، عاصمة الصفويين، بصحبة الأمير عباس وخلع الشاه خُدابند، ونادى بعباس ملكاً على فارس في 14 ذي القعدة سنة 996=16/10/1587، دون أن يبدي الأب أي اعتراض أو مقاومة، وهكذا صار عباس شاه حاكم إيران الإسمي وهو في السابعة عشرة من عمره، أما حاكمها الفعلي فكان مرشد قولي خان الذي بث أعوانه في المناصب الكبيرة في الدولة وأصبح عباس شاه في حكم المحجور عليه في قصره لا حول له ولا قوة.

ويأخذ المؤرخون على فرهاد باشا أنه في أثناء كل هذه الأحداث لم يبادر ويتحرك لاحتلال قزوين مستغلا هذه التغيرات وما يصاحبها من فراغ في السلطة وخلخلة لمراكز القوى، وأنه كذلك لم ينسق مع ملك أذربيجان عبد الله الشيباني الذي جمع جيشاً بلغ تعداده 100.000 جندي وهاجم به مدينة مشهد وحاصرها قبل أن ينجدها الأمير الشاب عباس، وكانت هذه آخر هجمة كبيرة يقوم بها الشيبانيون، إذ ستدب فيما بعد الفرقة والانقسام في صفوفهم ويصبحوا أضعف من أن يواجهوا الدولة الصفوية.

ويعزو المؤرخون ذلك إلى أن فرهاد باشا أصبح يتطلع لمنصب الصدر الأعظم وصار يخشى أن يفلت من يديه إن هو أخفق أو أخطأ، ولذلك صار يبحث عن انتصار سهل، وتلكأ في تنفيذ أوامر السلطان بالهجوم على قزوين، وبدلا من ذلك اتجه من جورجيا جنوباً نحو وسط أذربيجان، قراباخ اليوم، حيث انحازت إليه دون كبير عناء كثير من قبائل القزلباش التركمانية معلنة ولاءها له، ثم اتجه فرهاد باشا فاحتل مدينة كنجة، في شمالي غربي أذربيجان اليوم، موقعاً هزيمة كبيرة بالصفويين المدافعين عنها، ثم عاد لقضاء الشتاء في أرضروم.

وكان الصفويون لا يزالون يأملون في أن يستطيعوا هزيمة العثمانيين وانتزاع تبريز عاصمة الصفويين ومقر دولتهم، ولكنهم أدركوا بعد هزيمتهم في كنجة أن ذلك صعب المنال، ولذا جنحوا للصلح وأرسلوا سفارة لذلك ترأسها الأمير الفتى حيدر ابن الأمير حمزة أخي الشاه عباس، والذي جاء إلى استانبول حيث استقبله السلطان مراد الثالث في احتفال باهر أقامه في 3 ربيع الآخر سنة 999= 29/1/1591، وكانت مطالب الصفويين لا تتجاوز إسدال الستار على الماضي وأن يسود السلام وعدم الاعتداء في إطار المحافظة على الوضع الراهن، وانتهت المفاوضات بتوقيع معاهدة استانبول في =21/3/1590 التي حررها الشيخ سعد الدين أفندي، وفيها بلغت الدولة العثمانية أقصى حدودها الشرقية والشمالية الشرقية والجنوبية الشرقية حيث ضمت تركستان وأذربيجان وداغستان وجورجيا وكرمنشاه وخوزستان، وتضمنت المعاهدة تعهد الصفويين باحترام حرية السكان في اتباع المذهب السني والامتناع عن سب الصحابة.

وقد بدأنا موضوعنا بالحديث عن حصار تبليسي في جورجيا، ونعود للحديث عن نتائج هذه الحرب في جورجيا فنقول: إنه رغم وجود عدد كبير من المسلمين بين سكان جورجيا إلا أنهم كانوا متركزين في تبليسي وأبخازيا، فيما بقي سكان أغلب المناطق على الديانة المسيحية الأرثوذكسية، وبعد استيلاء العثمانيين على جورجيا وعجز الصفويين عن مواجهتهم في ميدان المعركة، قرر هؤلاء أن يلجأوا لحرب عصابات يشنها سكان جورجيا من المسيحيين على العثمانيين، فجاء الصفويون بسيمون من سجنه، وطلبوا منه أن يعتنق الإسلام مقابل أن يخلعوا أخاه داود ويعلنوه ملكاً على إقليم كارتلي في وسط جورجيا، فقبل منهم ذلك، واتخذ اسم نواز، وأمدوه بخمسة آلاف جندي مع الأسلحة والعتاد، واستطاع أن يشن حرباً ناجحة على العثمانيين سيطر فيها على معظم إقليم كارتلي، ولما لام بعض القادة العثمانيين الأمير مانوشار على تسببه في إحدى الهزائم، هرب منهم وتمرد على الدولة العثمانية وأعلن ارتداده عن الإسلام ومساندته لسيمون في مقاومة العثمانين، فما كان من العثمانيين إلا أن شنوا في سنة 1587 حملة كبيرة هزمت سيمون ومانوشار وبسطت سلطان العثمانيين على جورجيا.

وعاد الشاه عباس فشنَّ في سنة 1603 الحرب الرابعة بين الصفويين والعثمانيين، واسترد أغلب ما كسبته الدولة العثمانية في الحرب الثالثة بما فيها جورجيا، وصدق حدس صُقللي باشا عندما عارض البدء بالحرب الثالثة التي استمرت 12 عاماً دون أن تحقق في خاتمة الأمور أية نتائج تذكر لصالح الدولة العثمانية.

ونختم بحديث مختصر عن الإسلام في دولة جورجيا والتي عُرِّبَ اسمُها إلى بلاد الكُرج، وغالباً ما يتحدث عنها المؤرخون والجغرافيون المسلمون ضمن إقليم يضم أراضي أرمينيا وأذربيجان والشمال الشرقي لتركيا، وتتكون شعوبه من الأرمن والكرج والأبخاز، وكثير من الأسماء التي يوردها هؤلاء لم تتغير إلى اليوم مثل نهري الرس والكُرِّ، وبردعة وكنجة، ويسمون الممالك والمناطق الجورجية أسماء معربة لا تبعد كثيراً عن أسمائها اليوم، وبقيت تفليس مدينة إسلامية فترة طويلة من الزمن، وباسمها كتب الحريري في مقاماته؛ المقامة التفليسية، وينسب إليها جماعة من الفضلاء والمحدثين.

ويعود الوجود الإسلامي في المنطقة إلى سنة 22 حين أمر عمر بن الخطاب بشن حملة عسكرية كبيرة استهدفت أرمينيا وجورجيا وأذربيجان، قادها حبيب بن مسلمة الذي كان يقال له: حبيب الروم، لكثرة غزوه لهم، وأرسل حبيب سراقة بن عمرو لفتح تفليس، ولكنه فيما يبدو لم يفتحها، وفتحها حبيب صلحاً في سنة 25 مع عدة حصون ومدن تجاورها، وكان في عهده لأهل تفليس أنه: إن عرض للمسلمين شغل عنكم وقهركم عدوكم، فإن ذلك غير ناقض عهدكم بعد أن تفوا للمسلمين. ويقال إن الصحابي قيس بن سعد بن عبادة بن دُليم الأنصاري الخزرجي هرب من معاوية إلى تبليس سنة 58، ويقال إنه بقي فيها حتى توفي سنة 85، والأصح أنه توفي بالمدينة.

وجلب الحكم المسلم معه النظام والاستقرار، وتحولت تفليس إلى مدينة مسلمة وأضحت أهم مركز تجاري في الإقليم، وفي سنة 147 هاجمت قبائل الخزر جورجيا واستولوا على تفليس وقتلوا وسبوا المسلمين وأهل الذمة، فوجه الخليفة العباسي المنصور جيشا لقتالهم ولكن الجيش هُزم، فأرسل المنصور في السنة التالية حميد بن قحطبة لدحرهم، فلما وصل بجيشه بلاد تفليس انسحبوا من وجهه ولم يجد منهم أحدا.

وفي سنة 237 أساء يوسف بن محمد، الذي ولاه الخليفة العباسي المتوكل على أرمينيا وأذربيجان، التصرف مع بطارقة الأرمن فثاروا عليه وقتلوه، وانضمت تفليس للتمرد بزعامة إسحاق بن إسماعيل أحد موالي بني أمية، فوجه المتوكل إليها في سنة 238 الأمير بغا الكبير فسار إليهم وأخضعهم، وحاصر تفليس وقتل إسحاق بن إسماعيل، وضرب نفاطوه تفليس بالنار فاحترقت لكون بيوتها من الخشب، وقتل في ذلك 50.000 من سكانها، وقضى على التمرد.

وانتقل حكم تفليس للدولة السلجوقية حتى انتهى في سنة 514، ففي تلك السنة بلغ الخلاف أشده بين محمود وبين أخيه مسعود ابنَي محمد بن ملكشاه، فانتهز ذلك الضعف الجورجيون وثاروا بقيادة ملكهم داود وحاصروا تفليس، وأرسل أهلها إلى ملك ماردين نجم الدين إيلغازي الأرتقي يستنجدونه فأنجدها ومعه اثنان من سلاطين السلاجقة، ولكن الكرج هزمومهم وأخذوا البلد عنوة، ونقل الملك داود عاصمته إليها من كوتايسي في الغرب، وتوفي الملك داود سنة 518، وكان عادلاً في الرعية يحضر يوم الجمعة ويسمع الخطبة ويحترم المسلمين، ويعد عهده العصر الذهبي لجورجيا، ويسميه الجورجيون داود المؤسس. قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء: ونازل اللعين تفليس وأخذها بالسيف، وبدع، ثم جعلهم رعية له، وعدل ومكنهم من شعار الإسلام، وأمر أن لا يُذبح فيها خنزير، وبقي يجئ ويسمع الخطبة، ويعطي الخطيب والمؤذنين الذهب، وعمر رُبُطا للصوفة، وكان جوادا محترِما للمسلمين.

وفي شتاء سنة 617 دخل المغول بقيادة جنكيزخان هذه المناطق وشنوا حملات على مختلف بلدانها وقتلوا أعداداً هائلة من أهاليها، وبادر ملك الكرج فطلب من ملك أذربيجان أزبك بن البهلوان ومن ملوك المسلمين في شرق تركيا تناسي العداوات وتكوين حلف عسكري لمواجهة الهجوم المغولي المتوقع في الربيع، ولكن المغول لم ينتظروا حلول الربيع بل هاجموا شتاءً، وانضم إليهم مملوك تركي يدعى أقوش انشق عن ملك أذربيجان وجمع حوله التركمان، وقاتل الملك الكرجي الذي هزمه.

وكانت الدولة الخوارزمية قد توسعت في المنطقة وتطلعت للاستقلال والإيقاع بالخلافة العباسية في بغداد، قال الإمام الذهبي في تاريخ الإسلام في حديثه عن السلطان محمد بن تِكش المتوفى سنة 618: قطع خُطبة بني العباس من مملكته، وترك غزو الكفار، وأخذ يتصدّى لعداوة قِبلة الإسلام وقلْب الشريعة بغداد، وعزم على قصد تفليس ليجعلها سرير مُلكه، ويحكم منها على بلاد الروم والأرمن والقفجق، وسائر بلاد العرب والعجم. وقام ابنه جلال الدين منكوبرتي يبسط سلطانه على أذربيجان وشمال إيران، وطلب من الملكة روسودان أن تخضع لسلطانه، وينقل الإمام الذهبي عن ابن اللباد قوله عن حصار خوارزم شاه لتفليس ثم استيلائه عليها: والغدر خُلقٌ لا يزايلهم... ثمّ إنّ ابن السديد التفليسي قصد الإصلاح ظنّاً منه أنّهم يشبهون الناس، وأنّ لهم قولاً وعهداً، فخرج يطلب الأمان لأهل المدينة أجمعين؛ المسلمين والكرج واليهود، فأخذ خطّ جلال الدّين وأخيه غياث الدّين وحميّته وختومهم، ولوحاً من فضة مكتوباً بالذهب يسمّى بايزة، وتوثّق. فساعة دخلوا نهبوا مماليك ابن السّديد ونعمته، وندم، وعملوا بجميع الناس كذلك، وسمّوا المسلمين مرتدّين، واستحلّوا أموالهم وحريمهم.

وهكذا أصبح الكرج والمسلمون من الضعف بمكان فلم يثبتوا للمغول في معركة كبيرة وقعت في ذي القعدة سنة 618، وهزموا بعد أن قتل منهم 30.000، وحشد الكرجيون جيشاً آخر لمواجهة المغول ولكنهم رأوا أنهم أعجز من مواجهتهم فأخلوا المدن والبلدات وذهبوا في الجبال التي لم يتجاسر المغول أن يتوغلوا فيها، ثم ما لبث أن مات ملك الكرج وتولت أخته الملكة روسودان وطلبت من ملك أرضروم مغيث الدين طغرل بن قلج أرسلان أن تتزوج ابنه في مصاهرة دفاعية ضد المغول على أن يتنصر، ففعل وتزوجها.

وفي سنة 622 حشد الكرج جيشاً هاجموا به مديتة كنجة وحاصروها، ولكن أهلها استطاعوا الصمود وقاتلوهم قتالاً شديداً انسحبوا على إثره، وكان ملك شيروان ملكاً شيء السيرة كثير الفساد والظلم، فأخرجه العسكر منها ونصبوا ابنه مكانه، فاستعان بالكرج ووعدهم بنصف البلاد إن هم ساندوه حتى عاد إلى عرشه، فأعدوا جيشاً سار إلى شيروان، ولكن أهلها هزموهم بعد معركة مريرة، وحاول الكرج الكرة مرة ثانية بعد شهور، فتصدى لهم المسلمين في كمين جبلي وأوقعوا بهم خسارة كبيرة.

وثم عاد المغول فبسطوا سلطانهم في المنطقة التي بقوا فيها قرابة 100 سنة؛ حتى سنة 730، حين استغل الملك جورج الخامس ضعف الدويلات المغولية وطرد المغول من جورجيا، ووحد البلاد وأنشأ علاقات دبلوماسية مع المماليك في مصر، كانت في جانب هام منها تدور حول ممتلكات الكنيسة الجورجية في القدس الشريف وتسهيل أمور حجاج الكرج إلى بيت المقدس.

وفي سنة 822 احتل تيمور لنك تفليس وأغلب جورجيا، وكان ذلك بداية تفتت الدولة الجورجية التي دخلت في سنة 905=1500 تحت النفوذ الصفوي، ثم العثماني، فالصفوي، فالروسي، حتى استقلت بعد تفكك الاتحاد السوفياتي في سنة 1990، وتبلغ نسبة المسلمين في جورجيا اليوم حوالي 11% من عدد السكان البالغ قرابة 4 ملايين نسمة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين