محطات في مسيرة العلم ؟

(( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات )) قرآن كريم

في تاريخ العلم محطات بارزة تستحق منا التوقف والتأمل طويلاً؛ ولعل من أبرز هذه المحطات :

• أن تاريخ العلم قد ارتبط بأسماء كثير من العلماء الذين اشتغلوا بفك طلاسم الطبيعة، وأحرزوا اكتشافات مهمة واختراعات عظيمة ساهمت مساهمة كبيرة في تطوير الحياة البشرية، وقد قدَّر الفيلسوف الإنكليزي برتراند راسل (1872 - 1970) في كتابه النظرة العلمية "Scientific outlook" أن النهضة العلمية المعاصرة تدين بالفضل إلى 100 دماغ بشري علمي لا أكثر هي التي أسهمت في النهضة التي نعيش اليوم إنجازاتها العظيمة ! وقد ذكرت في كتابي "قراءة في تاريخ الوجود" من منشورات دار السلام بالقاهرة 2007م ؛ سيرة عدد كبير من هؤلاء العلماء 

• ومن المفارقات الطريفة في تاريخ العلم أن الكثير من الاكتشافات والاختراعات العلمية التي كان لها أثر حاسم في التقدم البشري لا يعرف اسم العالِم الذي أنجزها، منها على سبيل المثال : العلم بأسرار "النار" وكيفية السيطرة عليها وتسخيرها، وهي النقلة التي يعدها المؤرخون أول سطر في سجل العلوم ، وأول خطوة خطاها الإنسان باتجاه الحضارة ؛ فمن هو أول عالِم تجرأ فاقترب من النار واستطاع أن يروضها ؟ لا أحد يعلم! ومن هو العالِم الذي زرع أول شتلة في الأرض مفتتحاً بذلك "عصر الزراعة" الذي نقل البشرية من عصر الصيد والقنص والترحال إلى الاستقرار والبدء ببناء الحضارات ؟ لا أحد يعرف ! ومن هو العالِم الذي خطَّ أول حرف، من حروف الأبجدية ، وصاغ أول "أبجدية" وكان وراء أعظم اكتشاف في تاريخ العلم والتعليم والمعرفة ؟ لا أحد يعرف ! ومن هو العالِم الذي اخترع "العجلة" التي أصبحت الركيزة الأساسية في وسائل النقل وفي معظم الأجهزة التي أحدثت الثورات الصناعية المتلاحقة ؟ أيضاً لا أحد يعرف ! ومن هو العالِم الذي فكر بتقسيم الزمن إلى أقسام متساوية وساهم باختراع أول ساعة في التاريخ ونظَّم بذلك إيقاع الحياة البشرية ؟ لا أحد يعرف ! وهكذا نجد أن الكثير من الاكتشافات والاختراعات التي سجلها التاريخ باسم مجهول، هي التي شكلت الركائز الأولى للحضارة البشرية، وهي بلا جدال تعد أعظم الاكتشافات والاختراعات التي شهدتها البشرية في تاريخها؛ بما فيها تحطيم الذرة وغزو الفضاء وثورة الاتصالات والهندسة الوراثية ... وغيرها من الإنجازات العلمية العظيمة، بل لا نبالغ إذا قلنا إن الاختراعات والاكتشافات الأولى ـ التي لا نعرف اسم العالِم الذي حققها ـ تفوق في أهميتها معظم الاكتشافات والاختراعات التي ارتبطت تاريخياً بأسماء لامعة تملأ القلب والبصر، ونال أصحابها الجوائز العالمية، وسجلت أسماؤهم بمداد من ذهب !

العلم في مواجهة المحظورات :

وتجدر الإشارة إلى أن معظم الإنجازات العلمية التي أبدعها الإنسان كانت حاضرة في المخيلة البشرية منذ وقت مبكر من التاريخ، وذلك بفضل الكتب السماوية التي حفلت بالحديث عن عناصر الكون وظواهره ومخلوقاته وسنن الله في خلقه، وأيضاً بفضل "المعجزات" الخارقة للعادة التي شاهدها البشر تجري على أيدي الأنبياء عليهم السلام، فإن تلك الكتب وهذه المعجزات حرَّضت المخيلة البشرية على السياحة في ملكوت الله، ودفعت العقل البشري للتأمل والتفكر في مخلوقات هذا الكون الفسيح، وبهذا شكلت الأديان السماوية - وليست الأفكار الفلسفية كما يزعم بعض الباحثين - القاعدة النظريةللعلوم، ويمكننا بشيء من التجاوز تشبيه المعجزات بالتجارب العلمية العملية، فقد رأى البشر ظواهر خارقة للعادة تجري تحت أبصارهم فبدأ العقل العلمي يفكر بكيفية حصولها ومحاولة تقليدها، وعلى هذه الشاكلة تعد المعجزات محرضات مهدت الطريق للعقل البشري لكي يبحث ويدرس ويجرب ويكتشف، ومكنته آخر المطاف من الإبداع والابتكار والاختراع، ويكفي للدلالة على هذه الحقيقة أن نطالع ما قاله الفلاسفة الأقدمون لنجد أنهم قدموا للعالم كل الأفكار الأساسية في حقول العلم والمعرفة والفكر التي صاحبت البشرية حتى يومنا الحاضر، فهل كان بإمكان العقل الفلسفي - في تلك العصور المبكرة ـ أن يبدع كل تلك الأفكار المدهشة دون مصدر سماوي ؟ الجواب قطعاً : لا ؛ فإن ما قدمه اؤلئك الفلاسفة من أفكار مبدعة لم تكن مجرد تأملات عقلية؛ وإنما نرجح أنها كانت أصداء لبعض الحقائق التي وردت في الرسالات السماوية السابقة التي وصلت إليهم؛ فقد كانت تلك الرسالات هي المصدر الأول للعلم، وهذا ما يوجب علينا نحن المسلمين أن نعود إلى القرآن الكريم وفق هذه الرؤية لنكتشف فيه ما لم نكتشفه بعد؛ فالقرآن الكريم حافل بالكثير من الإشارات العلمية التي تحتاج إلى عقل مبدع يستخرج منها كنوز العلم والمعرفة .

ومن الملاحظات التي تستحق التأمل في سياق علاقة العلم بالدين أن معظم العلماء لم يحفلوا في يوم من الأيام بالحدود المتعارف عليها دينياً، ولا قانونياً، ولا أخلاقياً، يدفعهم لهذا الموقف شغفهم بالبحث والكشف عن حقائق هذا العالم، ومايزال هذا الشغف للعلم هو ديدن العلماء الحقيقيين، وهناك مؤشرات عديدة تشير أن هناك مختبرات ومراكز بحث سرية عديدة في العالم تجرى فيها تجارب وبحوث لم تأذن بها القوانين ولا الأعراف ولا الأديان، منها على سبيل المثال بحوث تجري حول الاستنساخ البشري Human Cloning"" غير عابئة بالحظر العالمي على هذه التجارب !

ولا بد من الاعتراف بأن هذا الموقف من العلماء قد أتاح لكثير من الكشوف والإنجازات العلمية أن ترى النور، وأن تقدم للبشرية خدمات جليلة كانت ستحرم منها لو أن العلماء التزموا بتلك الحدود وتوقفوا عن الخيال والحلم والبحث والتجريب!

ولابد من الاعتراف في الوقت نفسه أن تاريخ العلوم قد أثبت بأن الحدود التي كان يُطلب من العلماء أن يتوقفوا عندها لأسباب دينية أو أخلاقية أو قانونية .. قد أثبتت الأيام أنها حدود واهية أو وهمية لا تقوم على أسس علمية، ويستوقفنا منها بصورة خاصة الأسباب الدينية التي استندت إلى تأويلات غير دقيقة للنصوص الدينية مما جعل رجال الدين يحرمونها، والأمثلة على ذلك كثيرة، قديماً وحديثاً، نذكر منها تحريم رجال الدين تشريح جثث الموتى، مما اضطر بعض الأطباء الشغوفين بالعلم إلى سرقة الجثث من المقابر لتشريحها ومعرفة طبيعة تكوين الجسم البشري، وقد أثبت التاريخ أن علم التشريح كان له الفضل الأول في تطور علوم الطب، ولو أن الأطباء امتثلوا للتحريم الذي ذهب إليه رجال الدين لتوقفت علوم الطب عصوراً طويلاً وكنا حتى اليوم نكتفي في علاج أمراضنا بالكي والحجامة، وخرافات "العشابين" أدعياء الطب القديم !

لكن – لحسن الحظ - أن هذه المواقف المعارضة للعلم التي قال بها رجال الدين قديماً راحت تتغير مع مرور الوقت لصالح العلماء، وهذا التغير في المواقف لا يرجع بالضرورة إلى علة في نصوص السماء التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، بل يرجع هذا التغير إلى قصور رجال الدين في التأويل الصحيح للنصوص، وهذه نقطة مهمة يجب الانتباه إليها جيداً لما لها من علاقة قوية بحرية البحث العلمي، فهي تدعو رجال الدين إلى التريث طويلاً قبل أن يصدروا أحكامهم على ما يستجد من بحوث أو اكتشافات علمية أو تجارب، لاسيما وأن مسيرة البحث والكشف والتجريب لن تتوقف مادام هناك علماء مدفوعين بذلك الشغف المبارك للكشف عن حقائق الوجود، وإن من يراجع تاريخ العلوم ليدرك هذه الحقيقة بكل وضوح، وهذا الشغف لدى العلماء يوحي بأن هناك برنامجاً إلهياً موقوتاً تمضي البحوث العلمية على منواله قدماً إلى الأمام للكشف عن سنن الله في خلقه .. واستكمال عمارة هذا الكون .

مفارقات العلم :

ونلاحظ من خلال تاريخ العلوم أن العلم قد حقق للبشرية إنجازات عظيمة وخدمات جليلة، لكن تاريخه ظل مشوباً ببعض المفارقات الغريبة !

ولعل من أشد هذه المفارقات غرابة أن العلم الذي حقق لنا تلك الإنجازات والخدمات الجليلة هو نفسه الذي كان ولم يزل يحول بيننا وبين السعادة المنشودة، فقد ارتكب العلم عبر تاريخه الطويل أخطاء فادحة، وأثمرت يداه ـ في مناسبات عديدة ـ المُرَّ والعلقم، ومن هذا مثلاً ترسانات "أسلحة الدمار الشامل" التي تهددنا في كل لحظة بتدمير شامل يجعل كوكبنا وحياتنا أثراً بعد عين !

ونحن هنا – بطبيعة الحال - لا ندين العلم نفسه، فالعلم في حقيقته لا يعدو أن يكون حقائق مجردة (بحوث، تجارب، قوانين، معادلات، إحصائيات ..) إنه مفهوم محايد لا يملك من أمره شيئاً؛ فهو لا يملك أن يحسن أو يسيء، وأما الذين يمكنهم أن يحسنوا أو يسيئوا فهم أولئك المسؤولون عن توظيف العلم في الخير أو في الشر، وفي مقدمتهم الساسة والزعماء، فهؤلاء هم الذين كانوا على مدار التاريخ وراء تحويل العلم عن أهدافه الخيرة !!

فلا جدال بأن العلم الذي أعطانا منجزات عظيمة ( الكهرباء، المذياع، الهاتف، الطائرة، الكومبيوتر، الإنترنت ... المضادات الحيوية، الهندسة الوراثية، اللقاحات ...) لم يكن علماً سيئاً على الإطلاق، بل كان علماً رائعاً أتاح لنا الكثير من الراحة والمتعة والصحة والأمان !

وإنما يتحول العلم عن الخير إلى الشر بفعل الإنسان (إنهُ كانَ ظَلوماً جَهولاً) سورة النجم 39 ، فالإنسان قبل أن يوصله العلم إلى اختراع السيف قتل أخاه بالحجر، وقبل أن يصوِّب إليه البندقية صوَّب إليه الرمح، وقبل أن يفجِّر به الذَّرة فجَّر به الديناميت، وقبل أن يرميه بالصَّاروخ رماه بالمنجنيق !

وفي هذا دليل ساطع على أن الإنسان هو المسؤول أولاً وأخيراً عن تسخير العلم في الخير أو في الشر؛ وما تاريخ الجنس البشري إلا المحصلة لكسب كل فرد من أفراده، وهذا ما عبرت عنه الآية الكريمة : (وأنْ ليسَ للإنسانِ إلا ما سَعى * وأنَّ سَعْيَهُ سوفَ يُرَى) سورة النجم 39 و 40 ، فالإنسان هو وحده الذي يتحمل مسؤولية فعله والنتائج التي تترتب على هذا الفعل، ولن يتغير شيء من أحواله ما لم يغيِّر ما بنفسه ويعدِّل طريقة تفكيره وسلوكه، كما قال تعالى : (إنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بقَوْمٍ حتَّى يُغَيِّروا ما بأنفُسهِم) سورة الرعد11.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين