الغوطة الشرقية.. حيث غابت الإنسانية

غوطة الشام ريف جميل وممتد حول العاصمة يمدّها بما تحتاجه من خضار وثمار، وفيها عدد من القصبات والأحياء العامرة، ورد ذكرها في بعض الأخبار أنها فسطاط المسلمين، وفي معجم البلدان أنها واحدة من «جنان الدنيا». 

اليوم تتعرض هذه الجنة للحرق الشامل والتدمير الكامل على يد حلف الشيطان، الذي قرر إبادتها وأهلها ونساءها وأطفالها وكل متحرك أو واقف فيها، ولم يدّخر عنها شيئاً من مخزون أحقاده ولا من مخزون أسلحته الذكية والغبية، الكيمياوية والتقليدية، علماً أن الغوطة بريئة مما يُسمّى بـ «الإرهاب»، فلم تدخلها «داعش» ولا أخوات «داعش». 

العالم كل العالم يشاهد ويتابع ويراقب، لكنه يلوذ بالصمت، هو صمت أقرب إلى القبول والرضا، ومنهم من يصرّح بذلك فيمد يده أمام الملأ لمباركة عصابات القتل، نعم يباركها وهو يرى أنيابها تغوص في أشلاء إخوانه وأخواته! 

العرب كأنما أصابهم الشلل التام، عروشهم وجيوشهم وشعوبهم، مَن في السلطة ومن في المعارضة، المستقلون والمسيّسون، كلهم يتفرّجون، لا مظاهرة تملأ الشوارع أو تحاصر السفارات كما كنا نرى في السابق، ولا تنديد أو استنكار ولو لذرّ الرماد في العيون، بل من مفارقات هذا العصر وغرائبه وعجائبه أنك ترى بعض دعاة القومية العربية وأحزابها وتياراتها يتحالفون جهاراً نهاراً مع الفرس ضد العرب، ومع الأجنبي الغازي ضد ابن البلد المدافع عن أرضه وعرضه وعروبته!! 

هناك أقوام آخرون ظلوا زماناً طويلاً يفاخروننا بإنسانيتهم وتحضّرهم ورقّة مشاعرهم، تقوم قيامتهم لو مسّ مخلوق ما قطة من القطط أو كلباً من الكلاب، يا إلهي أين هم الآن؟ 

يجيبك أحد المغررين من أبناء جلدتك: يا أخي هم مسؤولون عن شعوبهم، وليس عن شعوبنا، وهم معنيون بنشر الرحمة وقيم العدل والاحترام في بلادهم وليس في بلادنا! هكذا؛ فالقيم الإنسانية، وفق الحضارة الجديدة، تقف عند حدود جغرافية معينة؛ فالقلب الرحيم تمتد رحمته إلى نهاية حدود بلاده، فإذا تعدّاها لا بأس أن ينقلب إلى وحش يقتل ويسلب وينهب، ويمارس كل أنواع الدمار والخراب، ويمد المجرمين بكل ما يحتاجونه من سلاح وعتاد وذخيرة! نعم، إنه في بلاده لا يستطيع أن ينام الليل لو رأى كلباً جريحاً أو قطة جائعة. أما خارج بلاده، فينام ملء عينيه ويضحك وسع شدقيه حينما يرى آلاف الأطفال يموتون بالرصاص وبالغازات السامة وبالجوع والحصار والحرمان! 

إنها الإنسانية المصنّعة تصنيعاً على وفق المقاسات السياسية والتجارية، فلأن سوق السلاح الذي تنتجه الدول الغربية بحاجة إلى حروب تستعر وفوضى تستمر، إذاً فأوعِزوا لصنّاع قيمة الرحمة أن يفصّلوها على مقاس معيّن لا تمتد خارج مقاسها؛ فالرحمة يجب أن تتوقف حينما تبدأ المصلحة. 

إن الغوطة، ومن قبلها حلب والفلوجة والموصل وسجن أبي غريب، قد كشفت عوار هذه الحضارة المصنّعة، وأنها حضارة عنصرية لا تنظر إلى الإنسان إلا من خلال جنسيته وجواز سفره، وقد آن الأوان لإحياء آمال الإنسانية المتعبة بمنهج إنساني يتعامل مع الإنسان كإنسان قبل أي اعتبار آخر، المنهج الذي يستند إلى رحمة الخالق الرحيم الرحمن {وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعالَمِينَ}.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين