الرد على شبهة حول الدعاء والفعل الإلهي

إنَّ هناك خلطاً واضحاً في فهم مسألة الفعل الإلهي والفعل الإنساني، ولعل ذلك سبَّب نوعاً من التخبط في مسألة الدعاء، فالكلام عن أنَّ الدعاء لا ارتباط له بالفعل الإلهي المباشر هو انسياق وراء فكرة أخلاقية بمعزل عن الدليل العقلي والشرعي، ويمكن توضيح ذلك بنقطتين أساسيتين:

- الله تعالى خالق لكل شيء بمقتضى الألوهية والربوبية وصفات الكمال.

- الدعاء هو سبب شرعي لوقوع القدر الإلهي، وإجابة الدعاء من الله تعالى تكون وفق الفعل الإلهي والسنن الإلهية.

وشرح ذلك في مسألتين:

الأولى: العلاقة بين الفعل الإلهي والأسباب: 

1- مع إيماننا بأنَّ الله تعالى بيده كل شيء خلقاً وتكويناً وبمقتضى الربوبية له، وأنه قدرّ الأشياء قبل وقوعها بعلمه وإرادته، إلا أنَّ ذلك لا يعني نوعاً من أنواع الإلزام المحتم لمصير الإنسان بعيداً عن سعيه وإرادته وتكليفه، فالأسباب لها نتائج تؤثر في حياتنا وفي مصيرنا، وقد أمرنا الله تعالى أن نجتهد ونعمل ولا نتقاعس أو نفتر، وأن نسعى ونبذل، وأن نتنافس في فعل الخير والأعمال الصالحة التي تقربنا لله تعالى ورضاه، والدعاء له، والأخذ بكل الأسباب.

2- الدعاء هو من قدر الله تعالى، ونتائجه أيضا ترتبط بالفعل الإلهي، فجميعُ الحوادثِ كائنةٌ بقضاءِ الله وقدره، فكما أن الله تعالى أمرنا أن ندعوه أمرنا أن نأخذ بأسباب إجابة الدعاء، وقد أمرنا الله أيضاً أن نزيل الشرَّ بالخير، ونزيلَ الكفرَ بالإيمانِ، والبدعةَ بالسنَّةِ، والمعصيةَ بالطاعةِ، وكل إنسان مكلَّف بأن يأمرَ غيره بالمعروف وينهاه عن المنكر، وأن يبذل جهده ويسعى في اكتساب رزقه والأخذ بأسباب النجاح والتوفيق.

3- الدعاء لا يعني ترك تعاطي الأسباب، أو أن الدعاء موجب للإجابة بمعزل عن الأسباب الشرعية التي شرعها الله تعالى، والعمل بالسنن الكونية التي ربط الله تعالى بها أسباب الإجابة، ولعل حياة النبي صلى الله عليه وسلم أوضح دليل على ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم أفضل المتوكلين على الله تعالى وأعلم الناس بقدر الله تعالى، وكان يتعاطى الأسباب النافعة ويتخذ كل أسباب الوقاية وموجبات النصر والنجاح والرزق، فكان يلبس لباس الحرب، ويمشي في الأسواق للاكتساب، وعندما هاجر اتخذ كل الأسباب من التخفي والزاد والمال والدالّ وغيرها، وهو منهج يستقيم مع قدر الله تعالى ومنهج المسلم في حياته.

4-إنَّ تعاطي العبد للأسباب النافعة، ليس إيجادا لنتائجها، بل ربط الله تعالى بين الدعاء وتعاطي الأسباب، فما يخلقه الله تعالى مرتبط بالدعاء وتحقق شروط القبول والانسجام مع السنن الإلهية.

6-الله تعالى قدَّر الأشياء وقدَّر أسبابها، فالمقدور لم يقدَّر مجرداً عن أسبابه ، فكما أنَّ الله تعالى قدَّر ‏الشبعَ بالأكلِ، والرِّيّ بالشربِ، ‏وقدَّرَ الولد بالزواج، وقدَّرَ حصولَ ‏الزرع بالبذرِ، كذلك قدّرَ دخولَ ‏الجنَّة بالأعمال والأخذ بالأسباب الصالحة، وقدر النصر بالاستعداد له، وإجابة الدعاء بتحقق شروطه المرتبطة بالداعي والسنن الإلهية.

الثانية: الموقف من المحن والابتلاءات والحروب وأثر الدعاء في ذلك

هناك مسألة ترتبط بالدعاء وعقيدة المسلم سعى من خلالها بعضُ المنحرفين أو المشككين لإثارة أسئلة وشبهات لتكونَ مدخلاً للطعن في عقيدة المؤمن، بما يخص الفعل الإلهي والإرادة الإلهية، وهنا نفرق بين صنفين:

الأول: مؤمن، موقنٌ باللهِ تعالى، مصدّق بعدلهِ وحكمتهِ، ولكن يريد أن يجدَ طمأنينة من خلال معرفة الحكمة من عدم إجابة الله تعالى لدعاء المؤمنين، أو لفهم كثرة وقوع الابتلاءات والمحن عليهم مع أنهم مؤمنون ويدعون الله تعالى، وقد ذكر لنا القرآن ما يوضح مرادهم من خلال قصة إبراهيم عليه السلام كيف طلبَ من الله تعالى أن يطَّلع على كيفية إحياء الموتى لا استنكاراً وتكذيباً؛ ولكن طلباً لزيادة الطمأنينة، ومعرفة وجوه الحكمة الإلهية، قال تعالى حكاية عن ذلك:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيم}[البقرة:260]

الثاني: منكرٌ مكذّب، يسعى جاهداً من خلال عرض نماذج من الابتلاءات والمحن التي تقع على المسلمين؛ ليجعل منها مادة للتشكيك بإرادة الله تعالى أو تخلي الله تعالى عن المؤمنين.

ولتوضيح هذه المسألة والإجابة عن الشبهات التي تثار حولها نذكر ما يبطلها بمقتضى العقيدة الصحيحة للمسلم:

فاللهُ تعالى عدلٌ حكيم، ليس بظلام للعبيد، وهو أصل عقلي وشرعي، فمقتضى الألوهية أن الإله له صفات كمال، وليست أفعاله عبثاً ، بل كل أفعاله عدل وحكمة، قال تعالى نافياً عن نفسه الظلم: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيد}[آل عمران:182]، {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء:40] { فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُون}[التوبة:70] .تَذَكَّرُون}[النحل:90] .

فالأدلةُ واضحةٌ وصريحة في إثبات العدالة الإلهية، وأنَّ الله تعالى منزَّه عن الظلم، ولو كان مثقال ذرة، وأنَّ الله تعالى أمرَ عباده بالعدلِ والإحسان، ونهى عن الظلم بكلِّ أنواعه ومظاهره.

ولكن يبقى السؤال عن كيفية فهم العدالة الإلهية في ظل الظروف التي نرى فيها مظاهر القتلِ والتشريد والفقر والجوع والحروب والآلام والمصائب، وما نراه من مظاهر الظلم التي تقع على المسلمين مع أنهم يرفعون أيديهم بالدعاء والطلب من الله تعالى أن يرفع عنهم الظلم وأن يوقف الحروب التي تقع على بلادهم ؟.

نلخص ذلك في عدَّة نقاط ترتبط بسنن الله تعالى وبعقيدة المسلم:

1-إنَّ الدعاء هو مظهر من مظاهر الإيمان بخالقية الله تعالى وأنه مسبب الأسباب ونتائجها، وهو التزام إيماني، وتعبير عن ثقة المؤمن ويقينه بأن الخالقية والتأثير لا تكون إلا لله تعالى، والدعاء سبب شرعي، وعدم إجابة الله تعالى للمسلم لا يعني أن الله تعالى غافل عنه، بل هناك أسباب ترتبط بقانون الامتحان الإلهي، وبسنن الله تعالى في القوة والعجز والنصر والهزيمة وأسباب كل ذلك.

2- إن خالقية الله تعالى للأسباب ومسبباتها أعطت للإنسان ما يمكِّنهُ من الفعل والعمل بالأسباب وفق قانون التكليف وما يلزم عنه من مسؤولية، فالله تعالى خلقَ الإنسانَ وزوَّدهُ بالإرادة الحرَّة التي هي مناط المسؤولية والمحاسبة، فحملُ الإنسان للأمانة والتكليف واحد بين البشر، لا فرق بين المؤمن وغيره، فكلهم سواء، وهذا من أبرز مظاهر العدالة الإلهية، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً}[الأحزاب:72]

3- وضعَ الله تعالى الإنسان في ميدان الامتحان والاختبار وأعطاه أدواتِ الامتحان وجعله قادرا على الكسب والعمل والسعي والتمييز، ولم يسلبهُ شيئاً من أدوات الفعل أو موجبات الامتحان، قال تعالى: {ألم نجعلْ له عينينِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْن وهديناه النجدين}[البلد:8-10].

4- قانونُ العدالةِ الإلهيةِ لا ينظرُ إلى الخَلقِ - بالفتح- بل إلى الخُلق -بالضم-، ولا ينظر إلى الجسد، بل إلى القلب، ولا ينظر إلى مظاهر التكوين؛ بل إلى السعي والعمل، ولا يحاسب على شيء لم يفعله الإنسان ، أو شيئاً لا يستطيعُ أن يفعله؛ لنقص في الأدوات قال تعالى:{ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا}[الطلاق:7] أو عجز في الوسع والإمكانيات، قال تعالى:{لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا }[البقرة:233] أو اضطرار في بعض الحالات، قال تعالى:{ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ }[البقرة:173].

5-إنَّ مظاهرَ البلاء والحروب والآلام والمصائب سنة إلهية ملازمة لطبيعة الحياة الدنيا التي جعلها الله تعالى دارَ ابتلاءٍ وامتحان وليستْ دار قرارٍ، ودار تكليف وليست دار جزاء، فكل مظهر من مظاهر الآلام والمصائب مرتبط بالغاية الأساسية والحكمة الإلهية لهذه الدنيا وهي الابتلاء والتمحيص، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ }[الأنعام:165] وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً }[هود:7] وقال تعالى:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً }[المُلك:2]

6- ليست الحياة الدنيا وحدها بقصر مدتها هي المعبرة عن كمال العدالة الإلهية، أو الجزاء والثواب؛ بل هناك امتداد لحياة أخرى تتجلى فيها العدالة الإلهية التي تجزي كل نفس بما كسبت أو اكتسبت، قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}[البقرة:286]، وقال تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَاب}[ غافر:17]، فالله تعالى يقيم القسط والعدل يوم القيامة ويعطي كل صاحب مصيبة أو بلاء ما يعوضه عن ذلك.

7 - إنَّ وجود الظالمين والمجرمين لا يتضمن إقراراً بما فعلوه، أو أنَّ العدالة الإلهية غافلة عن ذلك؛ بل سيكون لكل ظالم جزاء يقابل ظلمه، وحساب على كل ما فعله، قال تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَار}[إبراهيم:42]، فمن الجهل بالله تعالى وصفاته أن ننظر للعدالة الإلهية من خلال مظاهر الآلام والابتلاءات والمظالم والمصائب دون النظر إلى ما يرتبط بها من حساب وجزاء، وحكمة وسنن، فالنظر إلى العدالة من خلال زاوية واحدة أو لقطة واحدة أو مشهد واحد، لا يوضح معنى العدالة الإلهية، بل لا بدَّ من النظر لذلك من خلال كون الحياة الدنيا دار امتحان واختبار يتنافس فيها الناس في فعل الخيرات والأعمال الحسنة، ويتدافع أهل الحق والباطل، ثم يكون هناك يوم حساب وجزاء يثيب الله فيه الطائعين الصالحين، ويحاسب المجرمين والظالمين، ويعوض أصحاب المصائب والابتلاءات.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين