المسلمون والثورة الإدارية

إنَّه لمن أكثر الأشياء حزناً خُلو عصرنا من رجل كالإمام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية! 

إنَّ ظهور مثل هذا الرجل أملٌ من آمالنا في القرن الخامس عشر، فهذا المصلح العبقري مفكر ومجاهد من الطراز النادر. 

وأكثر ما يحزن أنَّ أكثر الناس لا يفهمونه، وحتى هؤلاء الذين لا يقصرون إطلاقاً في تكريمه والإشادة به ونشر فكره، فإنهم – فيما يبدو – يسقطون على فكره من همود إرادتهم وجزئية تصورهم الشيء الكثير!

والمسلمون بعامَّة من طنجة إلى جاكرتا – يعمل فيهم عمل السم داء خبيث يشرب إليهم من قرون الانحطاط. 

إنَّ هذا الداء الخبيث هو داء (التخلف الإداري) أو (البيروقراطية) الإجرائيَّة! إنَّ عقول أكثرهم لا تعرف القيمة العظمى لركنين أساسيين لا تقوم حضارة إلَّا بهما: إنهما: 1 – الإنسان، 2 – الوقت.

وفي رأينا أنَّ الوقت جزء من الحقيقة الإنسانية، فما الإنسان إلا تلك الأيام التي يقضيها في حركة الزمان على هذا الكوكب الأرضي.

لقد فُرضت التعقيدات نفسها على الإدارة حتى أصبحت سمة من سمات (العظمة الإدارية) بحيث أصبح (فن القيود) هو الفن الذي يسيطر على حركة إنجاز مصالح الأمة.

وإن (ماء الوجه) أو (الصبر القاتل) هما الطريق الوحيد لإنجاز المعاملات لدى أمَّة قال نبيها صلى الله عليه وسلم: (لا دين لمن لا عهد له)رواه أحمد. وقال – كذلك – في أروع قانون إنساني إداري: (لا يبيع في سوقنا إلا من تفقه في الدين) رواه الترمذي، وورد في الأثر: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفَّ عرقه) وليس قبل أن يجفَّ ماءُ وجهه، أو قبل أن يجف دمه!

وقال نبينا عليه الصلاة والسلام أيضاً: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كُربة فرَّج الله عنه بها كربةً يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة) مُتفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم كذلك: (من نفَّس عن مؤمنٍ كُربةً من كُرَب الدنيا نَفَّس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على مُعْسر يَسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سَهَّل الله له طريقاً إلى الجنة...) وللحديث بقية (رواه مسلم).

والظاهرة الغريبة أنَّ تفشِّي البيروقراطية وعبودية الإجراءات – وهي نوع من عبودية الإنسان لأخيه الإنسان – مع أنَّها ظاهرة عامة تنتظم المجتمعات الإسلامية كلها إلا أنها مع ذلك تتفاوت في الدرجة – وليس في النوع – من مؤسسة إلى مؤسسة، ومن شخص إلى آخر.

والمقياس الذي أشيع – إن صدقاً أو كذباً – أنه بمقدار ما يكون في المؤسسة من أتقياء أمناء فضلاء... يكون عدم المرونة، وعدم القدرة على اتخاذ القرارات، وتحمُّل المسؤولية في إنجاز مصالح الناس وتسهيل أمورهم، وعدم الوفاء بالمواعيد المحددة!

ولسنا هنا بصدد تمحيص مدى صحة هذا المقياس الشائع، أو عدم صحته! لكن – مهما يكن الأمر – فإنَّ الدلالة الخطرة المستفادة هنا هي أنَّ طائفة الملتزمين – وهي مناط الأمل في مستقبل الأمة – ليست على مستوى الإسلام في إدارة الأمور وتيسيرها.

كما أنها – من جانب آخر – تعطي صورة يستخدمها أعداء الإسلام، الذين يقارنون بين الأساليب الإجرائية المعقدة هنا، والأساليب الإجرائية الميسرة – كل التيسير – في بلاد النصارى واليهود!

ما قيمة الوزير أو الوكيل أو المدير... إذا كان أميناً، لكنه عاجز ضعيف، تتكدس مصالح الناس على مكتبه دون أن يتخذ القرار المناسب؟! وما قيمة المهندس المعماري الأمين إذا كان ينجز في عام كامل ما ينجزه غيره من المهندسين النصارى، والمسلمين غير الأمناء في شهر واحد؟! وما قيمة الناشر المسلم (الأمين) إذا كان يطبع الكتاب بعد خمس سنوات من الاتفاق، ولا يعطيك ما يسمى بحقوق التأليف إلا بعد عشر سنوات، وبعد عشرات المحاولات. بينما ينجز الناشر النصراني والناشر المسلم (غير الملتزم) كل شيء في موعده؟!

وأين التاجر المسلم الصدوق الأمين الذي: 

1 – إذا حدَّث صدق.

2 – وإذا وعد وفّى.

3 – وإذا اؤتمن أدَّى الأمانة!؟

أين هذا من (التاجر المسلم المعاصر) الذي أصبحت (المساومة) مبدأ أساسياً في التعامل الناجح معه، بينما يسود العالم المتقدم كله، مبدأ الأسعار المحددة التي تخضع لنسب ثابتة في الربح؟!!

***

ونعود إلى المُصلِح المفكِّر المجاهد ابن تيمية - رحمه الله تعالى - الرجل الذي يتعطَّش قَرنُنا إلى مثله، نعود إليه نستفتيه في هذا الموقف الإسلامي العام من أساليب إدارة مصالح الناس، وفي هذه المعادلة الصعبة؛ المعادلة التي تضع المتدينين في صف المعوقين، وتضع غيرهم في صف الميسرين الملتزمين. إن الرجل يتكلم، وكأنه يصف واقعنا الأسيف، وكأن عالم القرن الثامن الهجري هو عالم القرن الخامس عشر.

يقول الإمام بن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه العظيم (السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية): الفصل الثالث، قلَّة اجتماع الأمانة والقوة في الناس: (اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: اللهم أشكو إليك جَلَدَ الفاجر، وعَجْز الثقة، فالواجب في كل ولاية، الأصلح بحسبها، فإذا تعيَّن رجلان أحدهما أعظم أمانة، والآخر أعظم قوة، قُدِّم أنفعهما لتلك الولاية، وأقلهما ضرراً فيها، فيقدم في إمارة الحروب الرجل القوي الشجاع، وإن كان فيه فجور فيها، على الرجل الضعيف العاجز، وإن كان أميناً، كما سئل الإمام أحمد رحمه الله تعالى: عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو، وأحدهما قوي فاجر والآخر صالح ضعيف، مع أيهما يغزى؟ فقال: أما الفاجر القوي فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف، فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين فغزى مع القوي الفاجر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر) وروي (بأقوام لا خلاق لهم) فإذا لم يكن فاجراً كان أولى بإمارة الحرب ممن هو أصلح منه في الدين إذا لمن يسد مسده، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يستعمل خالد بن الوليد رضي الله عنه على الحرب منذ أسلم وقال (إن خالداً سيف سَلَّه الله على المشركين) مع أنَّه أحياناً كان يعمل ما يكره النبي صلى الله عليه وسلم حتى أنه مَرَّة رفع يديه إلى السماء وقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد) لما أرسله إلى خزيمة فقتلهم، وأخذ أموالهم بنوع شبهة، ولم يكن يجوز ذلك، وأنكر عليه بعض من معه من الصحابة حتى وادهم النبي صلى الله عليه وسلم وضمن أموالهم، ومع هذا فما زال يقدمه في إمارة الحرب لأنه كان أصلح في هذا الباب من غيره، وفعل ما فعل بنوع تأويل، وكان أبو ذر رضي الله عنه، أصلح منه في الأمانة والصدق ومع هذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً) وإني أحب لك ما أحب لنفسي: (لا تَأَمرنَّ على اثنين) (ولا توليَنَّ مالَ يتيم) رواه مسلم، نهى صلى الله عليه وسلم أبا ذر رضي الله عنه عن الإمارة والولاية، لأنه رآه ضعيفاً مع أنه قد روي (ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر) وأمر النبي صلى الله عليه وسلم مرة عمرو بن العاص رضي الله عنه في غزوة (ذات السلاسل) استعطافاً لأقاربه الذين بعثهم إليهم على من هم أفضل منه، وأمّر أسامة بن زيد رضي الله عنه لأجل ثأر أبيه، ولذلك كان يستعمل الرجل لمصلحة، مع أنه قد كان يكون مع الأمير من هو أفضل منه في العلم والإيمان).

 ***

إنَّ هذا النص حريٌّ أن يُكتب بأطهر مِداد وأن يُعلَّق في مكاتب الإداريين وغيرهم من الذين تتعلق أعمالهم بمصالح الناس الماليَّة والاجتماعيَّة والإنسانية الهامّة.

ولو أن رجلاً غير ابن تيمية قال هذا الكلام لما قبله كثيرون أما وصاحبه ابن تيمية، الرجل الذي أثبت لنفسه مكانة رفيعة في تراثنا وحضارتنا فإن أحداً من الناس لا يستطيع أن يطعن فيه!

إن فقيهنا المجدد صاحب أكبر موسوعة للفتاوى في تاريخنا – فيما نعلم – يفتي المسلمين في صدق الرائد الذي لا يَكْذب أهله، بأنَّ التقوى وحدَها لا تكفي وليست هي المؤهَّل الوحيد للقيادة، ولصناعة الحضارة ولتيسير مصالح العباد، ولتحقيق النفع لهم، بل إنه ليفتيهم اعتماداً على سلوك النبي صلى الله عليه وسلم إمام حضارة المسلمين عليه الصلاة والسلام بأن التقوى ما لم تصحبها قوة فإن ضررها لن يكون أكثر من نفعها بالنسبة للأمة.

ومن منا يرتاب في تقوى أبي ذر رضي الله عنه ؟! ذلك العَلَم الفذّ الذي يَموت وحدَه ويعيش وحده!

لكن هذه التقوى قد تكون غير مصحوبة بقلب قوي، وعقل عملي، ورؤية شاملة متجددة للوقائع المتطورة، وبالتالي قد تكون آثارها محصورة في إطار صاحبها، لا تستطيع أن تمنح وقفة التغيير المناسبة.

إنَّ تجربة الأمَّة الإسلامية في قرون انحطاطها تؤكِّد أنَّ من أكبر مظاهر الرقي والسعادة انتظام الجهاز الإداري في الدولة (بحيث يؤدي غايته من تأمين العدالة، وتوفير الأمن، وردع العدوان، ونشر السلام، وإيصال كل ذي حق إلى حقه، وإنما يتم ذلك بأمرين اثنين:

1 – رئاسة حازمة عادلة لا تغفل عن مكافئة المحسن ومعاقبة المسيء من الموظفين.

2 – وموظفين أكْفَاء يملؤون وظائفهم بعلمهم وخلقهم وأمانتهم ونشاطهم، فإذا توفَّر للدولة هذان الأمران كان جهازها الإداريُّ من أقوى عوامل الرخاء والعزَّة لشعبها) [د. مصطفى السباعي، أخلاقنا الاجتماعية 190 طبع المكتب الإسلامي].

إنَّ هؤلاء الموظفين والإداريين مهما عَلَت مكانتهم إنما هم خدمٌ للأمة، وإن ما يَتَقاضَوْنه إنما هو من كدح الأمَّة وسعيها، وقد دخل أبو حازم على معاوية وحوله كبار رجال الدولة فقال له: السلام عليك أيها الأجير! فعجب الحاضرون وقالوا: إنما هو أمير المؤمنين، فكرَّر نداءه، ثم التفت إلى معاوية رضي الله عنه وقال له: اعلم يا معاوية أنك أجير لهذه الأمَّة، استأجرك ربُّك لرعايتها، فإذا أنت أحسنت الرعاية وفَّاك ربُّك أجرَك، وإن أنت أسأت عاقبك وشدَّد عقوبتك.

ومن المؤسف أنَّ كثيراً من الموظفين يَنْسون أنهم كمعاوية رضي الله عنه أُجراء عند الأمَّة، فترى أحدهم يأتي إلى دائرته في الصباح فيأخذ قسطاً كبيراً من الوقت في شُرب القهوة وقراءة الصحف والتحدث إلى زملائه بينما يكون أصحاب الحاجات وقوفاً على بابه على أحرَّ من الجمر ينتظرون إنهاء المعاملات، حتى إذا فرغ من ذلك استقبل أصحابه في الدائرة، وقضى معهم وقتاً طويلاً في الأحاديث التي لا صلة لها بوظيفته وعمله، فما يكاد يدخل عليه صاحب الحاجة حتى ينتهره ويقول له: ارجع غداً، إنها كلمة هينة يقولها هذا الموظف لا تكلفه إلا تحريك شفتيه، ولكنها تكلف صاحب الحاجة المسكين كثيراً – فكثيراً ما يكون غريباً عن البلد – فيتكبَّد نفقة الفندق والطعام وعُطلة العمل، عدا عن القلق النفسي الذي يشعر به كل من له حاجة في دَوائر الحكومة) [د. مصطفى السباعي، أخلاقنا الاجتماعية 194 طبع المكتب الإسلامي].

هذا قد يكون موظفاً في مصلحة أخرى... ففي حضوره غياب عن عمله وتعطيل لمصالح آخرين وتدور العجلة هكذا، دون أن تجد من يوقفها، وينظِّم حركتها، ويحول دون استمرار هذا النزيف، نزيف العمر الضائع والكرامة المهدرة!

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة المسلم المعاصر، رجب، شعبان و رمضان 1402 - العدد 31).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين