من علَّمك الجدل؟

قالوا: ما معنى الجدل؟ 

قلت: هو عند المنطقيين: القياس المؤلَّف من المشهورات والمسلَّمات إلزامًا للخصم وإقحامًا لمن هو قاصر عن إدراك مقدمات البرهان. وهو عند عامة العلماء: التحاور مغالبة ومنازعة، أو مقابلة حجة بحجة ودليل بدليل، أو المراجعة بين اثنين إحكاما من كل واحد منهما لقوله وتجلية، ودفعا لقول صاحبه ودحرا.

قالوا: ما أدب الجدل؟ 

قلت: أن يقصد به كل واحد منهما مكاشفة الحق وإبرازه لا طمسه ولبسه، وأن يطهِّر قلبه من هوى التغلب على غيره والهيمنة عليه، وأن يتوقى تسفيه صاحبه والضحك منه وتحقيره والازدراء به.‏

قالوا: من تعلمت منه الجدل؟ 

قلت: تعلمته من شيخنا ناصر علي الندوي رحمه الله، قالوا: ترجمه لنا.

قلت: هو الشيخ الصالح العلامة الأصولي النظار الفقيه المحدث ناصر علي بن عاشق علي الندوي اللكنوي، ولد سنة أربع وخمسين وثلاثمائة وألف في خرم نجر من أرياف لكنؤ، والتحق بدار العلوم لندوة العلماء سنة سبع وستين وثلاثمائة وألف مواصلا الدراسة بها إلى أن تخرج منها سنة ست وسبعين وثلاثمائة وألف، وأخذ العلوم من شيوخها ملازما للعلامة الكبير الزاهد إسحاق السنديلوي الندوي، والشيخ الفقيه أسباط الندوي، وكان الشيخ أسباط قد عمي في آخر عمره، فكان يساعده في مطالعاته وإعداد دروسه، ويقرأ له مما يحتاج إليه من استذكار النصوص ومراجعة الكتب، وبذَّ زملاءه في كل مرحلة من مراحل دراسته، وشيوخه لجهوده وتفوقه مقدرون، ولتميزه عارفون غير منكرين.

وتولى وظيفة التدريس بدار العلوم سنة تسع وسبعين وثلاثمائة وألف مؤانسا النجاح والتقدم حتى أصبح رئيس قسم الحديث بها، ودرَّس صحيح البخاري تسع عشرة سنة، وعمل مفتيًا وقاضيًا ومدربًا للطلاب على الفتوى والقضاء، وعرف بدقته في الفتاوي والأقضية، متبعًا لمنهج ندوة العلماء في الوسطية والاعتدال والبعد عن العصبيات المذهبية، والتيسير على عامة الناس في الجزئيات والفروع، منزِّها نفسه عن تهييج الفتن وإثارة الغرائب، ومترفِّعًا عن تضييق المتزمتين وكودنة الجامدين.

قرأت عليه علم أصول الفقه للعلامة الفقيه عبد الوهاب خلاف، والفوز الكبير في علم التفسير للإمام ولي الله الدهلوي، وأبوابا من هداية الفقه للمرغيناني، وأخذت منه دروسا في الأحوال الشخصية الإسلامية، واستفدت منه كثيرًا، وشرَّفنا بحضور مؤتمر الإمام البخاري في سمرقند سنة ثلاث عشرة وأربعمائة وألف في جمع من أصحاب الحديث والفقه، وعلى رأسهم شيخنا الإمام أبو الحسن علي الندوي، وشيخنا الحافظ عبد الفتاح أبو غدة رحمهم الله تعالى.

توفي في الخامس عشر من جمادى الأولى سنة ثمان وعشرين وأربعمائة وألف عن عمر يناهز ثلاثا وسبعين سنة، ودفن في مقبرة دالي كنج في لكهنؤ.

ولم يكن همه إلا التدريس والاشتغال بأمور الفتوى والقضاء، وكان مستوحشا من الحفلات والاجتماعات، ونافرا من الندوات والمؤتمرات، وهو من أشد الناس مواظبة على أوقاته ومثابرة على مسؤولياته وواجباته، رافضًا أي تفريط فيها أو نوع تهاون، وأنعم الله عليه بالحج والزيارة سنة عشر وأربعمائة وألف، وعرف بحسن الخلق والصبر وتورع عن لغو وفضول، وكان من الصالحين الزهاد القانعين، لم نره يغتاب الناس أو يؤذي أحدا بلسانه ويده، وإذا اعتدى عليه معتدٍ احتمل ذلك في صبر وعفاف.

قالوا: صف لنا جدله.

قلت: كان سمحا للطلاب مداريا لهم جابرا لخاطرهم في ملاينة وملاطفة، مشجعا لهم على أسئلتهم ومراجعاتهم، وكلما استفهمه طالب عن قضية من قضايا العلم والفقه أسهب في إيضاحها ورد الأقوال ودحض الشبهات وإبطال الآراء، وأفاض الطلاب في مناقشته والرد عليه قوله، وسرعان ما تتحول الحصة كلها إلى مناظرة وجدال، والطلاب في دار العلوم منتمون إلى مذاهب فقهية وعقدية مختلفة، فلا يقوي الشيخ رأيا مرجحا له إلا وفي الفصل من يستشكل كلامه ويتصدى له معارضة ومعاكسة، وتشتد المراجعات والمناقشات وتحتد احتدادا، وهو ملتزم سيرته في حسن التعامل مع تلاميذه والتهلل في وجوههم والصبر على أذاهم ولا يضمر لأحد حقدا أو كراهية، وكان محببا لدى الطلاب كلهم الحنفية والشافعية وأهل الحديث، يجلونه إجلالا كبيرا لعلمه وفقهه ومكارمه وفضائله.

قالوا: هل غضب قط؟ 

قلت: لا، رغم تكاثر دواعي الغضب وتوافر أسباب الاهتياج، فقد كان بعض الطلاب من جنوب الهند من الشافعية وأهل الحديث ممن لا يجيد اللغة الأردية يخاطبونه بكلمات تستهجن بين يدي الشيوخ والكبار، ولكنه لم ينكرها ولا امتعض في وجوههم ولا نبههم على سوء أدبهم ولا ذكرهم بشنيع فعلهم، وما رأيناه منتقما أو كارها أو حاقدا، وإنما عهدناه دمثا باسم الثغر وضاح المحيا.

قالوا: ما فائدة الجدل؟ 

قلت: هي النظر في الوجوه المختلفة في المسائل العلمية والعملية وأدلتها وتمحيصها، ثم الكشف عن وجه الحق فيها والصواب. 

قالوا: ما مضرته؟

قلت: سوء الطوية وفساد النية من ورائه، كدحض الحق وإظهار الباطل، وكسر المُناظر والخصم، وانتقاصه والتقليل من شأنه، و طلب غرض من أغراض الدنيا كالشهرة والعلو والمال والجاه والمنصب.

قالوا: هل ترى أن نتعلمه ونحسنه إحسانا؟ 

قلت: لا بأس أن تمارسوه في الدرس والتدريس لتحقيق غرضه النزيه، ولكن إياكم والجدل والمراء في عامة المحافل والمجامع وعلى رؤوس الأشهاد، فإنه يورث الشكوك والشبهات في النفوس، ويحمل الناس على التحاقد والتباغض، والتفاخر والاستكبار، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه ابن ماجه أنه قال: من تعلم العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله جهنم. 

وأخرج ابن ماجه وابن حبان والبيهقي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا لتماروا به السفهاء ولا تخيَّروا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار النار.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين