الدعوة إلى وحدة الأديان بين التصور والإمكان (3)

الناشطون اليوم في الدعوة إلى " وحدة الأديان " يمهدون لفكرتهم بكلام يوهم أنه ليس في الإسلام ثابت ، وأن المتغير فيه هو الأصل . فلا يـَمَلُّون من الإشارة إلى كثرة الناسخ والمنسوخ في نصوص القرآن ، ولا يَكِلُّون من التمترس خلف مقولة المصالح المرسلة ، ومقاصد الشريعة ، والعدول عن ظاهر النص إلى روحه ، ويتغنون صباح مساء بعبارة تبدل الأحكام بتبدل الأزمان .. إلى غير ذلك من العبارات المطاطة ، التي لا يراد بها سوى تمييع المواقف الثابتة ، والتلاعب بالنصوص القطعية ، للتحرر من القيود الدينية ، آخذين في ذلك كله ؛ بتحكيم العقل وفرض سلطانه على النقل . معلنين مخالفتهم لجمهور علماء الأمة في ثوابت الدين ، التي لا ينبغي أن يختلف فيها اثنان ، ولا ينتطح عنزان ..من ذلك مثلا :

1 – عدم القول بتكفير أهل الكتاب .. والزعم بأن كلمة ( كافر ) لا يصح إطلاقها على يهودي أو نصراني أو بوذي أو هندوسي أو لا ديني ... إلا إذا كانوا حربيين .. وهذا قيد مخترع ، لا أساس له في الدين ، وليس له ما يؤيده من الكتاب أو السنة . ولكن دعاة الوحدة والتقارب الديني ، يداهنون أهل الكتاب ، ويجنحون إلى عدم تكفيرهم ، ويؤولون النصوص التي تصرح بكفرهم ؛ تأويلات ليس لها زمام ولا خطام ، كقولهم إن القول بتكفير اليهود والنصارى والمجوس ؛ يتنافى مع الإيمان برحمة الله التي وسعت كل شيء ، ويلزم القائل بتكفيرهم أن يحكم على مليارات كثيرة بالخلود في النار.. استنادا إلى نصوص سياسية لا اعتقادية .. ولست أدري من أين أتوا بهذه القسمة الثنائية للنصوص ، وماذا يقصدون بالنصوص السياسية منها .؟ ولست أدري كيف يؤولون الآيات القرآنية التالية : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } المائدة/17 وقوله تعالى { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ } المائدة /73 وقوله تعالى { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } براءة /30 وقوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّة } البينة /6 وقوله تعالى { إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا } النساء / 140 

فهذه النصوص صريحة في تكفيرهم ، وهي قطعية الثبوت قطعية الدلالة ، وهي مجمعة كما نرى على أن أهل الكتاب والمشركين والمنافقين كفرة مخلدون في النار . ومن ثمَّ أجمع جمهور علماء المسلمين على تكفير كل من اتبع دينا غير دين الإسلام بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : إن عدم تكفير المشركين والكفار والمنافقين ، أو الشك في كفرهم ، أو تصحيح دينهم .. هو من نواقض الإسلام .. 

وهؤلاء الأصناف الثلاثة هم إما مشركون جهلوا الإسلام وأقاموا على عبادة أوثانهم كفرا وعنادا ، وإما أهل كتاب يعرفون أن محمدا هو خاتم الأنبياء ، ولكنهم كفروا حسدا وعنادا ، وإما منافقون أبطنوا الكفر وأظهروا الإسلام خداعا وعنادا .. والجامع المشترك بينهم جميعا هو أنهم مكذبون معاندون . يصدق عليهم وصف الكفر ، الذي عرفه العلماء بقولهم" هو معرفة الحق، والإصرار على خلافه، والتكذيب به "

2 – ومما خالفوا فيه وصفهم بعض النصوص الدينية بأنها من خطاب الكراهية :

كقوله تعالى : { وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ } البقرة /191 وقوله تعالى { وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً } التوبة /36 وقوله تعالى { فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ } محمد / 5 وقوله تعالى { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } التوبة /73 وقوله تعالى { فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِير } الشورى /7

فهم يرون أن مثل هذه النصوص القرآنية ، التي تُحرّضُ على قتال المشركين ، وتأمر بقتلهم، وتدعو إلى الغلظة على المنافقين، هي مما يندرج تحت خطاب الكراهية ، الذي يجب تجاوزه ، وعدم العمل به بين الأمم والشعوب في عصرنا الحاضر .. 

وهم يهدفون من دعوتهم هذه إلى : (1) إلغاء الجهاد في سبيل الله ، (2) وتعطيل العمل بكل الآيات التي تخص جهاد الطلب وجهاد الدفع ، (3) وإلغاء العمل بمئات الأحاديث التي تحث على الجهاد ، أو تَعِدُ بالثواب الجزيل على المرابطة في سبيل الله، كالحديث الذي رواه عَبْد اللهِ بن مسعود، قَالَ :[ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ قَالَ الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا قَالَ ثُمَّ أَيُّ قَالَ ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ قَالَ ثُمَّ أَيّ قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ ] وقوله صلى الله عليه وسلم «عَيْنَانِ لاَ تَمَسُّهُمَا النَّارُ عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ »

3 – ومما خالفوا فيه قولهم بأن الإيمان معرفة بالقلب ، لا يحتاج صاحبه إلى عمل :

ليتسنى لهم القول بأن من عرف أن الله موجود ، وأن محمدا نبي يكفيه أن يكون مؤمنا ناجيا ، سواء أعمل بمقتضى هذا الإيمان أم لم يعمل .. وهذا الكلام هو بمثابة التمهيد إلى زندقة ، مغلفة بقشور التجديد الديني في الفكر المعاصر .. والحقيقة إنهم لم يخترعوا ذلك اختراعا ، وإنما كانوا فيه خلفاً لسلف من زنادقة مروا على هذه الأمة قبل ألف ومائتي عام وما تلاها ، وقاموا بنشر أفكار تخرج من الملة، وتزعزع عقائد المسلمين.. نذكر منهم ( الجهم بن صفوان ، المقتول عام 128هـ ) : وهو جبري ، يتهم الله تعالى بالظلم ويقول :[ ألقاه في اليم مكتوفا وقال له : إيّاك إياك أن تبتل بالماءِ ]، وكان أخذ مقالته من الجعد بن درهم الزنديق . وأخذها الجعد من أبان بن سمعان ، وأخذها أبان من طالوت بن أخت لبيد بن الأعصم اليهودي ، وأخذها طالوت عن خاله لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم وآذاه .. 

ومنهم ( ثمامة بن أشرس النميري ت213هـ ) الذي يقول فيه الذهبي : هو من كبار المعتزلة ومن رؤوس الضلالة ). ميزان الاعتدال 1/371 .

ومنهم ( ابن الراوندي ) الذي يقول فيه ابن حجر العسقلاني : هو الزنديق الشهير ، كان أولاً من متكلمي المعتزلة تم تزندق واشتهر بالإلحاد . ( ت 298هـ) .

لقد زعم هؤلاء أن الإيمان هو المعرفة بالقلب فقط ولا حاجة معه إلى العمل ، فمن عرف الله وعرف نبوة محمد فهو مؤمن ، عمل بأحكام الإسلام أم لم يعمل .. وبناء على هذا التعريف المزيف فقد حكم هؤلاء في زمانهم بإيمان أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، وقالوا بدخولهم الجنة مع المؤمنين . واحتجوا بقوله تعالى [الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) البقرة ] فهم يعرفون أن محمدا نبي ، ولا يضرهم الكتمان ، طالما أن لديهم هذه المعرفة .. ولكنْ بناء على هذا القول يكون إبليسُ عندهم مؤمناً ، لأنه يعلم أن الله حق وأن محمدا حق .. ولا يقول هذا مسلم قط . 

وقد علمنا في مقال سابق أن ( وحدة الأديان ) هي بنت ( وحدة الوجود ) التي دعا إليها ابن عربي والحلاج ورفاقهما , ثم عرفنا أنهم لم يخترعوا تلك البدعة من عند أنفسهم ، وإنما ترسموا فيها خطا ابن الراوندي ورفاقه ، حذو النعل بالنعل ، فقالوا كمقالتهم بأن اليهود والنصارى والمسلمين هم على دين واحد ، وأنهم ناجون جميعا ، لأنهم في الإيمان سواء .. 

واليوم نحن نرى أن دعاة وحدة الأديان ، يسيرون على نفس الطريق ، فهم يسوون بين الأديان الثلاثة ، ويحاولون ليَّ أعناق النصوص للتقريب بين هذه الأديان ، وكل نصٍّ حال دون فكرتهم أوّلُوه وأخرجوه عن معناه ، أو نَسَخُوه بدعوى الأخذ بروح النص ، أو بدعوى تحقيق مصالح العباد .. أو قالوا إنه في واقعة خاصة لا يتعداها ، ليصلوا في نهاية المطاف إلى الزندقة التي سبقهم إليها أسلافهم ..

4 – ومن أهداف أصحاب هذه الدعوة أيضا [عزل الدين عن الحياة ] أو فصل الدين عن الدولة ، وقصر التدين على العلاقة بين الإنسان وربّــه فقط ، دون زج الدين في أروقة السياسة ودهاليزها . ليكون ما لله لله ، وما لقيصرَ لقيصر .. أو بتعبير آخر أكثر وضوحا : إنها" دعوة إلى مصالحة بين الحاكمين والمحكومين على عزل الدين عن الحياة عزلا كاملا ، وتسليم زمام الشؤون الدنيوية إلى من لا يؤمن بآخرة ولا حساب ولا ثواب ولا عقاب ولا جنة ولا نار ..

و هذه الفكرة أيضا هي مما يخدم الدعوة إلى " وحدة الأديان " كما يحقق رغبات المستبدين ، وقد تبناها عدد من المستشرقين والمستغربين ، وأول ما راجت في الغرب المسيحي ، بعد صراع طويل مرير بين رجال الكنيسة ، وعلماء النصارى في القرون الوسطى ، أعقب ذلك الصراع قيام محاكم التفتيش ، وحز رقاب العلماء بتهمة الهرطقة ، ثم اصطلح العلم والكنيسة على عزل الدين عن الحياة .

ولكن إذا صح هذا بالنسبة للدين المسيحي الذي يحارب العلم ويتناقض مع حقائقه ، فإنه لا يصح بالنسبة للإسلام ..فلماذا نقلدهم بعزل ديننا الذي لا يتعارض مع العلم ولا يناقضه ولا يعاديه ، وإنما يوزن فيه مداد العلماء بدم الشهداء .؟

5 – هل تُقدَّمُ المصالح المرسلة على النصوص .؟

نختم ببيان المغالطة التي يتمسك بها الحبش وأشباهه حين يتغنون بالمصالح المرسلة ، ويتلطَّون في ذلك خلف الإمام الشاطبي ، فيفترون عليه الكذب ، ليتوصلوا إلى تعطيل أحكام الإسلام باسم الأخذ بمبدأ المصالح المرسلة ، والعمل بروح النص .!!! 

نسأل الحبش : ما هي المصالح المرسلة ؟ سيقول : هي كل ما يحقق للناس مصلحة دينية أو دنيوية .. ونسأله ثانية : وإلى من يعود تقدير هذه المصلحة .؟ سيقول للناس أصحاب المصلحة ؟ فيلزم على هذه الإجابة تقديم رأي الناس على نصوص الشريعة. 

ثم نقول له : إن البشر مختلفو الآراء والرغبات والمصالح ، فما هي المصلحة التي يجب أن تكون معيارا في التقدير .؟ فما يصلح للغربي لا يصلح للشرقي ، وما يصلح للأعجمي لا يصلح للعربي .. وما يصلح لأهل هذا الدين لا يصلح لغيرهم .. إذن فالأخذ برأي الناس في تقدير المصلحة عبث ، لا ينتهي بهم إلا إلى شقاق واختلاف ، والأمور بمقاصدها ، وما أدى إلى الشقاق ليس بدين .. مما يحتم أن يكون الشرع الإلهي هو المرجع في تقدير مصالح العباد .. وقد علمنا مما سبق أن الشرع لا يقول بوحدة الأديان ، وإنما يقول بأن الإسلام نسخ ما قبله من الأديان ، وأن شريعته نسخت ما قبلها من الشرائع .. وواجب على أهل الأرض أن يؤمنوا بهذا الدين الذي أكمله الله وأتم به النعمة ورضيه دينا للأمة .. 

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ « وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَسْمَعُ بي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلاَ نَصْرَانيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ».

الحلقة السابقة هــــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين