يا ساجدًا لربك؟ 

يا ساجدا لربك مسلِّما نفسك له خاشعا، ساميًا بروحك آفاقها، واضعا جبهتك بين يديه، متذللا مستكينا، مبتغيا رضاه، غير آوٍ إلى غيره ولا ملتجئ التجاء! إن رأسك أغلى من رؤوس الفلاسفة والنظارين وعلماء الطبيعة المخترعين، وإن جبهتك أعلى من جباه الملوك والسلاطين والجبابرة المستبدين، ويا خاليا بمولاك راضيا به، ضارعا إليه عانيا، مخضلَّة العينين من طول البكاء، إن دموعك على خديك أصفى من الماء القراح، وأشد تألقا ولمعانا من الشهب الطالعة والدرر واللآلي الساطعة، مطهرة لأحشائك، شافية لأسقامك، تثلج ببردها صدرا واغرا وجوانح مسجورة الرمضاء، وإن قلبك التقي النقي لساجد معك سجود الملائكة المقربين والنبيين والصديقين، قيل لبعض العارفين: أيسجد القلب؟ فقال: نعـم، سجدة لا يرفع رأسه منها أبدا. 

يا ساجدا لربك متبتلا إليه، منقطعا عن الدنيا وما فيها، منزويا عن الساعين في جمع الدنانير والدراهم، عاشقين للدنيا، وعشاقها منها في جهد وبلاء، حلاوتها ممزوجة بمرارة وراحتها ممزوجة بعناء، وهم مخدوعون بنماء دنياهم، وللنقص تنمو كل ذات نماء، يحلبون الدهر در أشطره، وما لهم فيما حلبوا منتفع، أنت في إحسان من الله وعطاء، أنت أغنى العالمين، وليس الغنى نشب في يد ولكن غنى النفس كل الغنى، تسعى للباقي، وبنو الأرض منغمسون فيما لم يخلق إلا للفناء، يفنى ولا تبقى إلا أحاديث وأسماء، والدهر روَّاغ بأبنائه يغرهم بحلوائه، وأنت تعلو أن تشكو همًّا من هموم الحياة أو رزءا من أرزائها، غير ناظر إلى مواس أو معين، معتزا بعزة الجبار، وباقيا بالملك القهار. 

يا حائزا في سجودك شبرًا من الأرض، نفسك في فضاء الله ومنفسح آفاقه، يسع ملكك السموات والأرضين، ويا آنسًا بالدياجير والدجى! قد كسف ضياؤك المتوهج الكواكب والنجوم المشرقة الزهراء، جاليًا سدفات الغياهب والظلماء، باسطًا أجنحة نورانية بيضاء، أو كأن ليلك البهيم ضحى يقله صبح من اللهب، أو كأن جلابيب الدجنة يوشِّيها بريق من الذهب، ويا عامرا بسجودك النهار، متنكبا تنافس ذوي النهمات والشهوات متزاحمين عليها متكالبين، نهارهم أظلم من الليل الداكن والسواد المدلهم الغاسق، مقتحمة بهم دواعي النفوس والأهواء المغرِّرة ورطات المعاصي والمهالك، ومُرخية بينهم وبين النور حجبا كثيفة وحواجز سادَّة، وموضع سجودك يبهر الشمس في منتصف نهارها خجلة مطرقة الرأس واجمة، وبين أيامك اللاتي تجثو فيها على ركبتيك قانتا لله مخبتا وبين آية النور وبدور السماء وشموسها أقرب نسب وأمتن سبب. 

يا أليفا في سجودك للجوع والسغب، والطوى والفاقة، لا بسا ثوبًا باليًا صفيقا، في جسد شاحب نحيل، غاضًّا بصرك عن الفكاهات المملولة والمتع الزائلة، خائفا يوما ينغمس فيه المالئون بطونهم في لجة الفاقة الكبرى، ويتعرض فيه الماشون في ثياب المخيلة في أجساد معجبة لعري ونار وسموم، ويا محبا للخمول، وصامًّا عن العتاب والعواذل وزاهدا في التعاشر، والتعاشر فيه القلى، إن كان العالم لا يعرفك ولا يقدرك فإن رب العالمين يعرفك ويقدرك، جازيا إياك دار سعادة يدوم فيها الفرح والسرور، وأنت في غرف الجنان عائما في بحر النعم والحبور. 

يفرض الحبيب على الحبيب قيودا وشروطا صارمة شاقة بل مستحيلة غير محتملة، كما فعلت شيرين بفرهاد معسِّرة عليه مبذولها، ومضاعفة سقم أحشاء ذي اللوعة المتيم، فشقي فرهاد بطلبها شقاء في تعس ونكد، ولقي دون بلوغ مناه الردى والتلف، وحبيبك قد يسَّر سبيلك إليه مرحبا بك ترحيبا، مواصلا لك غير منغِّص الوصل بفترة أو انقطاع. ويفرق الدهر بين الحبيب والحبيب، وما شأن قيس وليلاه عنك ببعيد، ويقصي المرء أخاه عند ميتته، وكل من مات أقصاه الإخوان والأقربون، وإذا ما حل خليل في برزخ البلى فحسب الخليل به نأيا وبعد لقاء، وما أسعدك وأهناك! فحبيبك معك في حلك وترحالك، وفي حياتك وآجالك، متقربا إليك ومقرِّبا إليه إياك، فطوبى لمن ظفر بمن يهوى، ويا له من يُمن وابتهاج، ويا لها من نعمة واغتباط. 

يا ساجدا لربك، غير متخذ سواه خليلا ولا صابيا إليه مستحسنا إياه، ومغردا في سجودك بنغمات العبودية والولاء فلُذ به تحظ من فضله بنيل عطاء، عائشًا بجواره، وفائزا بمناجاته ومرضاته، وإن ساعة تقضيها مع مولاك تفوق جميع لذات العيش ومسرات الحياة نفاسة وقيمة، وقد همس جبريل الأمين في أذني وأنا في خلوة وصفاء قلب وشفافية روح: أتدري ما الذي يغبط عليه الملأ الأعلى أهل الأرض السافلة؟ يغبطون المؤمن الصالح في سجداته، فما تعدلها شوكة النماردة والفراعنة، ولا أبهة القياصرة والأكاسرة، ولا قوة عاد وثمود، ولا كنوز قارون وسائر المدخرين، ولا يبلغ مداها أصحاب بيض الصفائح وشهب الأرماح، ولا ذوو سود الصحائف ولوامع الألواح، إن السجدة قربى إلى ذي الملك والملكوت، وذي العزة والعظمة والقدرة والجبروت، فاسجد واقترب، واذكر ما أخرجه مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين