الدولة المتوحشة 

منذ بداية الثورة السورية كان ثمة إرادة منظمة في رفض الاعتراف بها عبر السعي - من قبل النظام وممثليه وإعلامه - إلى وصمها بأنها فعلُ "جماعات إرهابية تكفيرية" تارةً و"طائفية" تارةً أخرى، ومع تحوُّل الثورة السلمية إلى ثورة مسلحة بفَضل عنف النظام الفائق تَوَارى تعبير "ثورة" في الإعلام الدولي لصالح تعبير "الحرب الأهلية"، وهو تعبيرٌ سيطر على مقاربة المسألة السورية، خصوصًا بعد الانقلاب العسكري في مصر وصعود الثورة المضادّة ومكاسبها.

لم تكن التسمية مجرد مسألة لفظية أو اصطلاحية؛ فقد عكست حالة النكران التي قوبلت بها الثورة اليتيمة رغم وضوح عدالتها المتمثلة في نظامٍ جمهوري عائلي وراثي سيطر على الحكم لأكثر من أربعة عقود، وارتكب الكثير من المجازر، وقتل ودمَّر وعذَّب ما يفوق الوصف والعد، ولكن القضية بقيت في منظور السياسة الدولية وصحافتها "حربًا أهلية" ومشكلة إنسانية هي من أعراض تلك الحرب الأهلية.

تختزل التسمية هنا جوانب متعددة:

أولها: أنها تعكس موازين القوى، فالتسمية هي نتاج استراتيجية القوة والهيمنة.

وثانيها: أنها تعكس غياب الإرادة السياسية من أجل الحلّ الذي يتمثل - فقط - في التغيير السياسي والاعتراف بالشعب السوري وحقوقه. وثالثها: أنها تحتال على جوهر المشكلة التي هي النظام السياسي الذي تَحول إلى نظام احتلال وتُحيلها إلى الشعب (الأهل/الأهلي)، وهي كلها عوامل تُبقي النظام السوري ضمن منظومة النظام الدولي كممثل شرعي للدولة السورية.

أفلح النظام السوري وحلفاؤه طيلة سنوات الثورة السبع في تثبيت قضية مركزية هي العنف والإرهاب عبر البلطجة والقوة القهرية من جهة، وعبر آليات النظام الدولي من جهة أخرى، فكل الإدانات والتنديدات لم تَتَعدّ المظاهر اللفظية، وهو يعكس عمق المأزق الأخلاقي الذي يعاني منه النظام الدولي نفسه؛ إذ يفتقر إلى أيِّ مرجعية أخلاقية مُلزِمة، أو ثوابت إنسانية تخضع لها الدول بعيدًا عن حق الفيتو غير الأخلاقي وغير الإنساني.

والمشكلة المركزية هنا تتمثل في غياب أيِّ إطار سياسي أو قانوني فعَّال يحدِّد متى تنخرم شرعية نظام سياسي بعينه، فالدولة بوصفها جهازًا سياسيًّا حديثًا يملك من الأدوات والإمكانات الهائلة ما يجعله مجرد أداة قابلة للاستعمال والتوظيف بحسب من يستولي عليه إذا ما أتقن لعبة النظام الدولي وآلياته.

أي أن الدولة تمنح المستولين عليها (خاصة إذا كانوا طغاة مجرمين) مزايا هائلة من شأنها أن تَحول دون كبح جماح عنف الدولة المنفلت من أيِّ قانون أو قيد. فمبدأ السيادة - مثلاً - هو أحد أهم تلك الأدوات التي يتم توظيفها ضد أي محاولة لوضع حدٍّ لعنف طاغية مجرم يحمل لقب "رئيس دولة"، وبموجب السيادة نفسها يتم التنازل عن السيادة لدول حليفة داعمة للعنف والإجرام كروسيا وإيران مثلاً.

خُوّل للدولة حق احتكار ممارسة "العنف المشروع"، ولكن لم يتم - فعليًّا - تحديد مرجعية شرعية عنف الدولة ومتى يتحول إلى عنف غير مشروع حتى لو صدر عن الدولة ومؤسساتها.

فالنظام السوري قتل ما يقارب مليون شخص، واستخدم كل أنواع الأسلحة المحظورة والكيماوية، وهجّر الملايين ونزّح الملايين على أسس طائفية ومذهبية (وبدعم إيراني روسي وميليشيات طائفية عراقية ولبنانية)، ومع ذلك لم يتحدث النظام الدولي ولا الإعلام الدولي عن "إرهاب الدولة"، وبقي الأسد ممثلاً شرعيًّا للدولة - سياسيًّا وقانونيًّا - في عرف النظام السياسي الدولي، على حين بقي "الإرهاب" مصطلحًا خاصًّا بالعنف الصادر عمن هم خارج سلطة الدولة بغض النظر عن قضيتهم وحقوقهم!

هذا العنف الوحشيُّ لنظام الأسد ليس جديدًا، فقد مرّت "الدولة المتوحشة" بجولات عدة، أولاها: كانت في الفترة بين 1979-1982 وقد جرت في غياب "الصورة"، ولكن وثّقها بتفاصيلها الفرنسي ميشيل سورا في كتابه "الدولة البربرية" (تُرجم بعنوان: الدولة المتوحشة)، ودفع المؤلف نفسه حياتَه ثمنًا لهذا التوحش سنة 1985 حين اغتيل في بيروت. الجديدُ في موجة التوحش الحالية والمستمرة منذ سنوات، أنها تتم على مرأى ومسمع من العالم أجمع صوتًا وصورة وبقدرٍ يفوق قدرة المشاهد على احتماله فكيف بمن يَعيشه ويعانيه!.

الأهم في هذا التوحُّش الصاخب والمصوَّر أنه يتم بدعم دول كبرى وإقليمية وبتواطؤ دولي، وهو توحُّشٌ يأخذ أشكالاً متعددة، كان بعضها في المرحلة الأولى من الثورة بهدف التشفِّي والإمعان في الإذلال والإخضاع لمن شبُّوا عن طوق المِلكية والعبودية لنظام قائم على عصبية طائفية عائلية، ولكنه الآن توحُّشٌ أداتيٌّ؛ بهدف تهجير الأكثرية السنيَّة الثائرة وإخلاء مناطقها من السكان كما حصل في مدن ومناطق عديدة وبرعاية أممية، وقد كان وزير خارجية روسيا صريحًا حين قال: إنه يمكن في غوطة دمشق تطبيق السياسة نفسها التي اتُّبعت في حلب، وهو الذي سبق له قبل سنوات أن صرح بأنه لن يسمح للسنة (الأكثرية) بأن يَحكموا سوريا!.

وإذا كان أبو بكر ناجي أحد منظِّري تنظيم الدولة الإسلامية قد استعمل "التوحش" عنوانًا لكتابه "إدارة التوحش" للإحالة إلى حالة غياب الدولة والحلول محلّها، فإن التوحُّش الذي نشهده في سوريا يتم من قبل ما يُفتَرض أنه "الدولة" وبمساندة دول كبرى كروسيا وإيران هم أعضاء في النظام الدولي، وهو ما يفرض علينا إعادة التفكير في طبيعة هذه الدولة والنظام الذي تنتمي إليه بغضِّ النظر عن الصفة التي تَسِم نفسَها بها، علمانية كانت أم إسلامية أو يهودية.

اللافت هنا أن "الحرب الأهلية" المفتَرَضة في سوريا يشارك فيها دول كبرى وإقليمية وصغرى، وتنظيمات وميليشيات دون الدولة: شيعية وكردية ومرتزقة، وتتحالف جميعًا على سَحق الأكثريَّة السنية وتدمير مناطقها وتهجيرها، وهو ما يدفعنا إلى مساءلة مفهوم الدولة نفسها والنظام الذي تنتمي إليه والذي يسمح بمثل هذه الممارسات من دون أي سقف أخلاقي أو قانوني حقوقي، بل إنه يعرّي مأزقًا مركزيًّا في أطروحة حقوق الإنسان التي ليس لها محل في العلاقات بين الدول، بل ليس لها قانون مضْطرد داخل الدول نفسها؛ لأن الدولة التي تحتكر ممارسة العنف داخل حدودها هي التي تعرف "الإنسان" الذي يستحق هذه الحقوق، وتملك من الأدوات ما يمكّنها من التحايل على الإنسان لو كان مسلمًا كما في حالة أمريكا وفرنسا مثلاً، كما أنها تتورط فيما يشبه التمييز العنصريّ حين تَقصر الحقوق على "المواطن" الذي هو بالتعريف القانوني من يحمل الجنسية، ما يعني أن سيادة الدولة تنعكس في تحديد من هو الإنسان/المواطن الذي تثبت له الحقوق، أما إنسان الدولة الأخرى الذي يشاء له حظه العاثر أن يكون مواطنًا في دولة يحكمها مجرم حرب وتتحالف معه دول أخرى، فإن فكرة حقوق الإنسان تقف عاجزة عن أن يكون لها مصداقية في الواقع الفعلي.

إنه من المفارقة أنّ تَوَحش الدولة المُوضح سابقًا يفوق - بأضعاف - تَوَحش "تنظيم الدولة الإسلامية" الذي أُحيل إلى "القرون الوسطى" (وهو في الأصل اصطلاحٌ مرتبط بالتاريخ الغربي)، في حين أن توحش الدولة الفائق يظهر بمظهر عنف الدولة المشروع في مواجهة الإرهابيين والإرهابيين المحتَمَلين (وفيهم جمهرة من الأطفال والنساء والمدنيين)، كما أن الحداثة المفتَرَضة لتوحش الدولة تقف عند حدود الأدوات والتقنيات الروسية وغيرها (رغم أن نظام الأسد طالما استعمل "البراميل المتفجرة" التي هي بدائية الصنع!).

إن هذه المقارنة تُحيل إلى أنَّ المشكلة مع تنظيم الدولة وأمثاله هي فقط مسألة قانونية في محصلة الأمر، وهي أنه توحش من خارج السيستم (نظام الدولة) وبقواعد مختلفة للعبة المعترف بها، رغم أن مثل هذه التنظيمات هي في محصلة الأمر نتاجُ السيستم نفسه الذي يُنتج نقيضه، أي أن التوحش المشروع (لأنه صادر عن الدولة ومسنود بالقوة وَفْق قواعد اللعبة المقررة) له أن يتواطأ مع التوحش غير المشروع أحيانًا؛ لأنه يدعم شرعيته من جهة وتتحدد به هُويته عبر إيجاد نقيضه من جهة أخرى.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين