حوار حول إرادة الله تعالى ومفهوم الدعاء (2)

كتب بعضهم في بعض وسائل التواصل هذه الكلمات:

[من القضايا الأساسية والتي يجاب عنها غالبا بطريقة طفولية لا تخلو من السطحية مفهومان أساسيان:

المفهوم السائد في قضية ربط الأمور وتفاصيلها بإرادة الله *المباشرة*؟؟

ومفهوم الدعاء لإنفاذ امر دنيوي؟؟

وباختصار، فإن القضايا التي تجري في الكون تجري وفق سَنَن الله ومراده من خلال القوانين التي وضعها سبحانه وتعالى، وتكمن إرادة الله وتدبيره هنا فقط، وبالتالي فإن عزو المصائب والحروب والدمار والتهجير والتقتيل الى إرادة الله المباشرة في ذلك هو اتهام خطير، وادعاء لا يخلو من جهل بالله.

اما الدعاء؛ فلا يمكن بأي حال ان يحقق أمرا دنيويا بذاته لا بصورة معجلة

ولا مؤجلة لا في الدنيا ولا في الآخرة، كما المفهوم السائد!!! إنما هو وسيلة ليتفتق العقل الإنساني عن ابداع الوسائل وإيجاد الأسباب لتحقيق مراده

بصورة مطلقة].

نشرت في الحلقة الأولى السابقة عددًا من الردود التي تدحض هذه الدعاوى الباطلة، وأتابع في هذه الحلقة ذكر بعض ما وصلني من ردود على هذه الأباطيل:

أجاب الأخ الكريم الدكتور عبد الرحمن حللي: 

إن لم يكن المعترض مؤمنًا فلا تنفع معه الإجابة على أمر هو فرع عنه، وإن كان مؤمنا لعل في هذه الإجابة ما يعالج تساؤله:

إنَّ كل ما في الكون يسير وفق قوانين إلهية وضعها الله سماها القرن: "سنة الله" لا فرق فيها بين الكون أو الأنفس. كلٌّ يجري وَفْق سنَّته التي يمكن أن يعبَّر عنها بإرادة الله التي لا يخرج عنها  شيء.

ومعنى إرادة الخالق هنا لا يفهم بمعنى الإرادة لدى المخلوق الخاضع للتكليف فتصنيف تعلقات إرادة الله بالخير والشر والحسن والسيء مرتبط بتصورنا للإرادة وتعلقها، وهذا لا ينطبق على الخالق سبحانه. 

أما بالنسبة للدعاء فهو بالنسبة للمؤمن تعبير عن تطلعه إلى آفاق غير محدودة لتحقيق طموحه..

فنظر الإنسان بمقادير استطاعته يعود عليه باليأس والقنوط عندما يرى محدوديَّة قدرته. 

أما إن علق طموحه بقدرة الله، فهذا يعزِّز لديه القوة المتاحة، ويبعد عنه اليأس الذي تفرضه حدود الاستطاعة. 

لذا لا معنى للدعاء من غير عمل بالأسباب. فالدعاء يمدُّ الأسباب بحبل جديد للنجاح وفِي أدناه الفأل الحسن والشعور بالقدرة على الإنجاز.. وهذا لا يتأتى بغير الإيمان بأن الله يمكن بعون منه.

وأجاب الأخ الدكتورالشيخ موفق الغلاييني على تلك الكلمات بهذا الجواب: 

الحمد لله والصلاة والسلام على نبيِّنا محمد وآله وسلم

يبدو أن الكاتب الكريم مصاب بالإحباط لما آل إليه حال المسلمين من كسل وتواكل هما من جملة أسباب تخلفنا وتأخر إنجاز ما نصبو إليه من نهضة ونصر وكرامة. وأنا لا ألوم الكاتب في شعوره هذا، بل ربما أشاطره فيه لأن ديننا الحنيف بريء من هذه المفاهيم والسلوكيات التي ورثناها عن فترات الانحطاط والتخلف. ولكن ما طرحه بعد هذا ما هو - في نظري- إلا ردة فعل متسرعة على الحالة المرضية التي نعاني منها.

لا أريد الخوض في تعريف قدرة وإرادة المولى سبحانه بوصفهما صفتين ثابتتين لله جل جلاله، وما يلزم المسلم حيالهما من اعتقاد، فهذا بحث نجده بشرحه في أيِّ كتاب من كتب التوحيد أو العقيدة كما تسمَّى في عصرنا. 

ولا أظن الكاتب يجادل في وجوب اعتقاد المسلم لهذا.

ولكني أطرح الأمر بطريقة أخرى لعلي أصل مع الكاتب إلى أمر سواء وهي أنه في نهاية المطاف عندما يحدث في هذا الكون ما يحدث سواءً أكان خيراً أم شراً هل نستطيع أن نقول: إن شيئاً ما منه قد حصل بمعزل عن إرادة الله؟؟ 

أظن أن جواب كل مسلم سيكون بالنفي، بل سيعقب هذا باستغفار الله سبحانه لأن طرح السؤال بهذه الطريقة يليق بالبشر لا بربهم سبحانه. 

ومشكلة المسلمين اليوم أنهم لا يأخذون بالأسباب ويدّعون أن ما يحصل لهم من ويلات هو إرادة الله، وكأن الله سبحانه قد أطلعهم على غيبه! ومن هنا قال علماؤنا استنتاجا من مفاهيم القرآن الكريم: (الاحتجاج بالقدر لتبرير المعصية لا يجوز شرعاَ) قال تعالى في سورة الأنعام منكراً على من نهج هذا المسلك: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ ? كَذَ?لِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّى? ذَاقُوا بَأْسَنَا ? قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ.) (148)

أما بالنسبة للدعاء فمسلمو عصرنا كما في عصور انحطاط المسلمين عبر التاريخ يستخدمونه للتعويض عن عجزهم وضعفهم. فهم لا يفعلون ما أمروا به شرعاَ ويكتفون بالدعاء. 

وأكبر رد عليهم هو سلوك قدوتنا عليه الصلاة والسلام الذي لم يكن يترك أمراً متاحاً له إلا أخذ به ثم يلجأ للدعاء.

وما علينا سوى تنبيههم لهذا لا أن نقلل من شأن الدعاء. فالدعاء هو من جملة الأسباب، ولكن يجب أن يسبقه العمل ويكتنفه الصدق والإخلاص في النية وعندها يستجيب المولى سبحانه. قال تعالى في سورة النمل: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ? أَإِلَ?هٌ مَّعَ اللَّهِ ? قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} (62).

اللهم ألهمنا مراشد أمورنا وأعنّا على طاعتك وحسن عبادتك.

كتبه: موفق الغلاييني

وأجاب الأخ الشيخ محمد فوزي بن الحفناوي الحميدي السوفي

هذه أهم الانتقادات كتبتها على عجل:

قوله: "... فإن القضايا التي تجري في الكون تجري وفق سَنَن الله ومراده من خلال القوانين التي وضعها سبحانه وتعالى، وتكمن إرادة الله وتدبيره هنا فقط ..."

أظن أن هذا المدَّعي يقصد بهذه العبارة نظرية الحياد الإلهي: "أن الله خلق الكون وجعل له قوانين تحكمه ثم تركه يدير نفسه" كما يقوله ديكارت وكثير من الفلاسفة والفيزيائيين المجازفين...

ونحن المسلمون نؤمن أن الله "الحيّ القيوم" يدبِّر شؤون خلقه ولا يغفل عنهم، بل كثيرا ما نشاهد أن الله يبطل نتيجة القانون-أي حدوث الأمور على غير القانون المطَّرد- لحكمة ... وكل ذلك لا يخرج عن علم الله وتقديره.

وسوف ندلل عن ذلك بدليل مختصر قاطع لكل معاند عند التعرض لأهمية الدعاء.

قول المجادل: "وبالتالي فإن عزو المصائب والحروب والدمار والتهجير والتقتيل الى إرادة الله المباشرة في ذلك هو اتهام خطير، وادعاء......."

لا شك أن هذه الأمور السيئة هي من خلق الله تعالى:" والله خلقكم وما تعملون"، لكن حدثت بمشيئته لا برضاه، فالله تعالى يقول:(ولا يرضى لعباده الكفر، وإن تشكروا يرضه لكم)، ويقول:(فعَّال لما يريد). وهذه شرحها يطول، وإنما قلنا: إنها من فعل الرب سبحانه حتى لا نثبت مدبّرا آخر للكون.

قوله: "أما الدعاء؛ فلا يمكن بأيِّ حال أن يحقق أمرا دنيويا بذاته لا بصورة معجلة ولا مؤجلة لا في الدنيا ولا في الآخرة ...."

الدعاء هو طلب دفع ضر أو جلب نفع من الله، ويكون بالقلب قبل اللسان...

فالدعاء من قدر الله ومن القوانين التي تحكم عباده، ولو سألنا هذا المجادل:

لماذا أخرجت من جملة القوانين الإلهية قانون: "تغيير الله لأحوال عباده إذا دعوه" الذي سطره الله في القرآن، ودلت عليه آلاف الحوادث التي وقعت لخلقه، ودلَّ عليه العقل بأدلة كثيرة منها: دليل ما يسمى بالصدفة، ودليل إبطال نتائج القانون الكوني المطَّرد.

فقد حدث ويحدث كثيرا أن تتحطم سفينة، ويعلق بشر في وسط البحر، حيث يستحيل الوصول إلى الساحل على بعد 200 كلم مع وجود الحيتان، فيطلبون- الدعاء- من قوة كونية قادرة أن تنجيهم، وبعد مدة يسيرة تمر بهم سفينة وتنتشلهم وينجون.

فنحن هنا أمام ثلاثة أطراف:

1- الإنسان العالق الذي بحكم قانون الطبيعة أنه هالك لا محالة، لانعدام كل أسباب النجاة المتاحة له.

2- أصحاب السفينة الذين خرجوا إلى ذلك المكان دون إرادتهم لإنقاذه، وكانوا سببا في نجاته.

3- طرف ثالث هو الذي أراد إنقاذ هذا الشخص، فأنشأ كل الأسباب التي تجعل السفينة تقصد هذا المكان في ذلك الوقت، ويسميه أهل الإلحاد في الدين بـ “الصدفة" ويسميه أهل الفيزياء "بالمزامنة بين قوانين الطبيعة" وأبطلوا مبدأ الصدفة بقانون الاحتمالات، لكنهم قالوا نجهل قانون المزامنة فأحالوا على مجهول، لأن حسابيا كما اتفق علماء الفيزياء أن احتمال حدوث الصدفة يساوي 1 من 1000000, اي حسابيا ينبغي للصدفة ان تحدث مرة في مليون سنة على أقل تقدير، عكس ما نشاهده نحن من تكرر للصدف الحسنة والسيئة باستمرار. لكن أهل الفيزياء مع رفضهم لمبدأ الصدفة، قالوا: إننا نجهل قانون المزامنة فأحالوا على مجهول.

ونحن المسلمون نقول: إن هذا الطرف الثالث هو رب العباد القائم على خلقه في كل آن.

فباختصار: إن قانون الطبيعة بهلاك هذا الشخص أبطله الطرف الثالث المعروف عندنا بأنه الرب والذين سمَّوه الصدفة أو المزامنة.

ولعل المدَّعي يقول: إن هذا الشخص العالق بالبحر قد يكون كافرا لا يوحِّد الله إن كان مشركا، أو ينكر وجوده إن كان ملحدا، ومع ذلك قد ينجو؟

فأقول: القانون الإلهي الذي دل عليه الواقع والعقل والنقل: إن أي شخص مسلما أو كافرا، لما يفقد أسباب النجاة يطلب بقلبه قبل لسانه-وهذا حقيقة الدعاء- أن تتداركه قدرة كونية كبيرة تنجيه مما فيه، وهذه الفطرة التي تجري على كل البشر، كما قال الشيخ ابن تيمية استنباطا من قوله سبحانه: {وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم} فإن هذه خاصة بالكفار، وبالمسلمين أولى.

فالله يستجيب دعاء الكفار اذا أقروا له بالربوبية ولو اضطرارا، وكذلك يستجيب الله لدعوةالمظلوم في الدنيا ولو كان كافرا، كما جاء في الحديث الذي رواه أحمد وغيره من طريق أنس رضي الله عليه، لكن هذه الاستجابة للكفار تنجيهم في الدنيا من الغرق أو الموت أو غير ذلك؛ لحكمة إلهية، لكن لا تزيد في أجرهم أو تنجيهم يوم القيامة. فهنا أردت أن أقول: إن استجابة الدعاء من الله لطلب دنيويٍّ ليس خاصا بالمسلمين  حتى نبطل به صحة استجابة الدعاء للمسلمين كما فعل هذا المعاند.

فإن قال المَدعي: قد ينجي الله هؤلاء الكفار ولو لم يدعوه ويقروا له بالربوبية، فالأمر لا يتعلق باستجابة دعاء هؤلاء المسلمين أو الكفار؟

قلنا: نعم، وقد ينجي الله ناسا ولو لم يدعوه ويطلبوا منه، وذلك لحكمة منه أو إملاء لهم، كما قال تعالى: {من كان يريد العاجلة عجَّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا} . 

وقال تعالى: {كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا}

لكن هذه الآية حجة على المجادل المعاند لو تأملها، لأنه: 

إذا كان الله تدخل وأبطل قانون الطبيعة -الذي حكم على هذ الشخص بالهلاك- ونجاه بلا أيِّ سبب فعليٍّ أو قوليٍّ قدَّمه هذا الشخص بين يدي الله،  فكيف تمنع تدخل الله تعالى لإبطال قانون الطبيعة وإنجاء عبد قدم لله أسباب النجاة وهو الدعاء والتضرع له؟!!

إذا هذا الشخص المجادل أخطأ في ثلاث أفكار كبيرة: 

أولا: عندما نفى قيوميَّة الله تعالى على خلقه بفعله وتدبيره، ونسب الأمر إلى قوانين الطبيعة، ونزع دليل التدبير لاستحقاق الله بالعبادة وحده، على حدِّ حجة كارل ساجان عندما قال: "ليس من المنطق أن نصلي لقانون الجاذبية".

ثانيًا: عندما أخرج الدعاء من القانون الطبيعي أي من الأسباب كما قال أبو حامد الغزالي.

فالدعاء كالدواء للشفاء، فكل ما يعترض به المجادل على الدعاء، يرِد الاعتراض به أيضا على جدوى الدواء.

ثالثا: عندما أخرج الدعاء من القدر الإلهي الأزلي كما أقرَّه الغزالي أيضا في الإحياء، ثم ذهب المعاند يعارض الدعاء بالقدر، وإبطال أهمية الدعاء في الاستجابة الإلهية.

فنحن في الحقيقة "نعارض أقدار الله بأقدار الله" حسب القاعدة العمريَّة، ومنها مدافعة الأقدار بقدر الدعاء.

أما قول المجادل: "إنما- أي الدعاء- هو وسيلة ليتفتق العقل الإنساني عن إبداع الوسائل وإيجاد الأسباب لتحقيق مراده بصورة مطلقة".

فيصدق فيها قول المتنبيّ:

وكم ذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكاء. 

تنظر الحلقة الأولى هـــنا 

وينظر أيضا : الرد على متعالم ينكر نفع الدعاء ويستهجن دعاء الداعين للشيخ محمد رجب حميدو هـــــنا 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين