الإنسانُ بين الرَّفع والمسخ

ذُكر المسخُ في كتاب الله تعالى ثلاثَ مرَّاتٍ، مرَّتين إلى القردة في سورتي البقرة والأعراف، ومرَّةً إلى الخنازير في سورة المائدة، وقد اختلف العلماءُ قديماً وحديثاً في حقيقة المسخ وطبيعته، فمن قائلٍ بأنَّه مسخُ صورةٍ وشكلٍ وهم الجمهور، ومن قائلٍ بأنَّه مسخُ طباعٍ وسلوكٍ فقط، ويمثِّل هذا الفريقَ من السَّلف الإمام مجاهدٌ تلميذ ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه مخالفاً شيخه، ومن الخَلَف الإمامان محمَّد عبده ومحمَّد رشيد رضا رحمهما الله تعالى.

وبعيداً عن هذا الخلاف فإنَّ فهم قضيَّة المسخ ينبغي أن ينطلق من فهمنا وتدبُّرنا لسببه الذي صرَّح به القرءان الكريم ضمن تسليمنا المطلق بعدل الله تعالى المطلق في تسيير حركة الكون.

إنَّ (الاعتداء) على منهج الله تعالى و(العتوَّ) عن نظامه القويم وصراطه المستقيم جريمتان منكرتان ارتكبهما بنو إسرائيل فاستحقُّوا المسخَ لطائفةٍ منهم.

وإنَّ عدل الله تعالى الذي قرَّر أن تكون هذه العقوبةُ نازلةً بقريةٍ نكالاً لما بين يديها وما خلفها ليأبى ويتعالى أن تُنسخ وتُحجب عن أمثالهم في الجُرم وأقرانهم في التمرُّد إلى قيام السَّاعة. 

إنَّ القلوب التي أدمنت الظُّلم وعشقت الجريمة أحطُّ من قلوب القردة، وإنَّ النُّفوس التي عاشت على محاربة الطُّهر وأهله أسفلُ من نفوس الخنازير.

ولستُ أدري كيف يُطلب منَّا أن نصدِّق أنَّ من قتل شعباً أو سحق كرامةً أو باع وطناً أو انتهك عرضاً أو ظلم ضعيفاً أو وقف حياته على صنع الرَّذيلة ونشرها مثلاً يمكن أن ينتسب لحظةً إلى مقام الإنسانيَّة المكرَّم.

وكم هو خطأٌ فادحٌ أن نظنَّ طرفةَ عينٍ بأنَّ سنن الله قد تتخلَّف عن قومٍ مهما اختلفت عصورهم وتغيَّرت مسمَّياتهم وهم يكرِّرون ذات الجريمة ويجترُّون أسبابها، وقد أخبرنا المعصوم صلى الله عليه وسلم فقال: "يكون في آخر هذه الأمَّة خسفٌ ومسخٌ وقذف" أخرجه التِّرمذي.

{فَقُلنَا لَهُم كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِ‍ئينَ} (البقرة: 65)، خاسئين: أي مبعدين صاغرين أذلَّاء مهانين، وإنَّني أفهم المسخ أنَّه طردٌ من رتبة الإنسانيَّة إلى رتبة البهيميَّة، إنَّه إعلانٌ بعدمِ استحقاق هؤلاء لحمل الرِّسالة والتَّشبُّع بالمنهج.

إنَّه مسخُ الإنسانيَّة والفطرة والأخلاق والقيم، وربَّما كان مسخُ الخُلُق أشدَّ وأنكى من مسخ الخَلْق، ويكفينا في تعليل هذه الجزئيَّة أن نعلم بأنَّ الله تعالى لم يجعل لمسخٍ نسلاً ولا عقباً كما ثبت في صحيح مسلم، بينما يستمرُّ خَبَثُ الممسوخين فكريَّاً وأخلاقيَّاً باستمرار نسلهم، وقديماً قال نبيُّ الله نوحٌ في تعليل دعائه على الكافرين: {إِنَّكَ إِن تَذَرهُم يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُواْ إِلَّا فَاجِرا كَفَّارا} (نوح: 27). 

لقد رُفع أبو البشر فوق مرتبة الملائكة يوم حمل أمانة الخلافة، ونزل قومٌ إلى مستوى الحيوانات يوم تمرَّدوا على منهج الله ومكروا برسله وأوليائه، وكم من آيةٍ في كتاب الله تعالى تنزل ببعض البشر إلى مرتبة الأنعام ونحن نراهم يعطِّلون عقولهم ومداركهم عن قبول الحقِّ والسَّير في طريقه، {أُوْلَئِكَ كَالأَنعَامِ بَل هُم أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ} (الأعراف: 179).

إنَّها باختصارٍ رحلة الإنسان بين مرتبة الرَّفع والكرامة ومرتبة المسخ والإهانة، قال تعالى: {لَقَد خَلَقنَا الإِنسَانَ فِي أَحسَنِ تَقوِيم ثُمَّ رَدَدنَاهُ أَسفَلَ سَافِلِينَ  إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَلَهُم أَجرٌ غَيرُ مَمنُون} (التين: 4- 5 - 6). 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين