كيف نتعامل مع الموروث التربوي؟ (3)

الأسس المنهجية للتعامل النقدي مع الموروث التربوي:

في الوقت الذي تعاني فيه أمتنا من اكتساح واضح لما يصعب حصره من مفردات الفكر التربوي الغربي مما ساعد على تغييب الذاتية التربوية الإسلامية، نرى العديد ممن هربوا من هذا الاكتساح بالاختباء في عباءة التراث التربوي، يأخذونه كما هو دون أن يعوا بأن الفكر له أبعاده الزمانية والمكانية، وأن إغفال هذه الحقيقة إنما يعنى ردة إلى الوراء. وإذا كان التقهقر التاريخي أمراً غير وارد، فإن المأساة تصبح خطيرة؛ لأن هذا المنهج في التفكير يجعل أصحابه وقد انعزلوا عن مجرى التطور، في الوقت الذي استحال فيه عليهم أن يكونوا مثل أسلافهم الذين يتغذون بفكرهم كما هو.

من هنا فإننا نؤكد على ضرورة التعامل المنهجي مع الموروث التربوي، بحيث تتحول عملية استقرائه ومحاولة الإفادة منه إلى قوة تطوير وطاقة تجديد، لا إلى قيود تعوق حركة الفكر التربوي عن أن يقوم بدوره المأمول من حيث الإسهام في بناء شخصية المواطن بالصورة والدرجة التي تفعّل قدراته في عمليات البناء المجتمعي.

وفيما يلي بعض المؤشرات التي يمكن اقتراحها لتحقيق هذا المطلب:

1- لعل الخطوة الأولى التي تفرض نفسها هنا هي اصطناع المنهجية العلمية في التعامل البحثي مع التراث. ولسنا هنا في مجال يسمح لنا بتفصيل مثل هذه المنهجية، فأصولها وقواعدها وأسسها مبثوثة في العديد من المراجع، وفضلاً عن ذلك فإن ما سوف يلي من نقاط هو كشف لبعض قواعد وأصول هذه المنهجية، وغاية ما نود أن نؤكد عليه في النقطة الحالية هو أن الأمر لم يعد يحتمل السير العشوائي، وإلا ظللنا ندور في طريق دائري لا يخطو بنا إلى الأمام، وهو الأمر الذي غلب على الكثير من خطواتنا السابقة، وأساء إلى الموروث التربوي نفسه، إذ ترك الأمر للنزعات الشخصية، والخطوات غير المحسوبة، فغلبت اللفظية وتحكم أسلوب الوعظ والإرشاد الذي يصبح عديم الجدوى ما دام في غير موضعه، وترسخت نزعات غرور كاذب، حيث تنطق معطيات الواقع بما يتناقض تماماً مع المزعوم على صفحات الورق، وتصور كثيرون أنه بإبرازه صفحات مشرقة من الموروث، وأن العالم والمفكر العربي المسلم (س) قد سبق العالم والمفكر صلى الله عليه وسلم من مفكري الغرب في القول بكذا وكذا، أنه قد أبرأ ذمته في الدفع بالأمة إلى الأمام، وحل مشكلات الحاضر، واستشرف المستقبل.

2- أما الخطوة الثانية فهي الوعي بأن الفكر يخضع في ظهوره وفي تطوره إلى نفس السنة الإلهية التي تحكم ظهور ونمو مختلف الكائنـات الحيَّة؛ لأن الفكر نفسه هو نتاج أشرف وأعقد وأعظم الكائنات الحية، ألا وهو الإنسان.

ولو نظرنا إلى أبسط الكائنات الحية، إلى النبات مثلاً، فسوف نجد أنه لا يظهر إلا في ضوء معطيات البذور التي أنبتته بخصائصها المعروفة، ويتحدد بنوع التربة التي ينبت فيها، ولا يستمر إلا في مناخ بعينه، فضلاً عن نوعية الغذاء الذي يتغذى به.

كذلك الفكر، هو نبت بيئة ثقافية لها خصائصها ومحدداتها وعوامل نموها وعوامل انحدارها، حتى وهو ينسب عادة إلى هذا الفرد أو ذاك من المفكرين والعلماء والباحثين، يحمل خصائصه التي ينفرد بها عن غيرها، إلا أنه يظل منتمياً إلى سياق حضاري يمده بمقومات الوجود، ويغذيه بعوامل النمو، قوة أو ضعفاً، وهو ما عبرنا عنه بأن لكل فكر أبعاده الزمانية والمكانية.

ومن ثَمَّ فإننا عندما نتوقف أمام فكرة تربوية ما، مما هو موروث، يجب أن نضعها في سياقها المجتمعي الحضاري، ذلك أن مثل هذا الأمر يعتبر أمراً ذا قدرة حاسمة فيما نأخذ ونترك من الموروث، فقد يكون الفكر نتاج فترة ضعف وتخلف، مما ينعكس على نوعيته وتوجهاته، فيصبح من المؤكد أنه غير مرغوب فيه في حاضرنا فضلاً عن مستقلبنا.

ومن العجيب حقّاً تلك العبارات التي تشير إلى عبقرية ابن خلدون، فهو يعبر عن هـذا الذي نقـــول بعبارات دالة [18]:

(حقيقة التاريخ أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات، وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال).

فكأن ابن خلدون قد سمع تلك الصيحات التي تعالت منذ عقود، ناقدة هؤلاء الذين يتصورون أن حركة التاريخ مجرد تسلسل في الحوادث يمكن رصدها وتسجيلها بغير النظر إلى علاقتها بما سماه (الاجتماع الإنساني)، وهو (العمران)، وهو التعبير الخلدوني لما نعبر عنه بالسياق الحضاري.

3- ولعل من أبرز الأخطاء التي تشيع في التعامل مع الموروث هو اعتباره من الناحية الزمنية كتلة واحدة، وهو خطأ يترتب على ما يكون من قصور في النظر إلى السياق المجتمعي لحركة الفكر التربوي، فما توافر لدينا من موروث تربوي هو نتاج قرون عدة قد لا تقل عن سبعة قرون، وعلى مساحة تمتد من بلدان المغرب والأندلس على شاطئ الأطلنطي إلى تخوم الصين والهند. ووفقاً لسنن التطور، يستحيل افتراض التماثل التام بين مكونات هذا الكم الكبير من الإنتاج الفكري التربوي، صحيح أن الجميع سعى إلى أن يستقى ما يكتب وما يقول من مصدري الإسلام الأساسيين: القرآن الكريم والسنة النبوية، وصحيح أن الحدود بين البلدان العربية والإسلامية لم تكن قائمة، وهذا وذاك مما يوفر فرص التماثل والتشابه في ظروف النشأة والنمو، لكن يظل الأمر قائماً، وهو الاختلاف بين منطقة وأخرى، وبين زمن وغيره، حتى لقد أُثِرَ عن القرافي تأكيده على كل من يفتي ألا يفتي من يسأله الفتوى إلا وَفْق العرف السائد في بلد المستفتي، بعد استقراء القرآن والسنة.

إن التعامل مع الموروث التربوي في جملة قرون الحضارة الإسلامية، وجملة البلدان الإسلامية يبعدنا عن النهج العلمي، إذ يوقع الباحث في تعميمات خاطئة، فقد تكون العينة التي يفحصها لمفكر أو عالم من منطقة تزدهر بأسباب الحضارة والنمو، فيؤكد على ما يترتب على هذا من أحكام، مستنتجاً بأن الحضارة الإسلامية قد وعت كذا وكذا من الاتجاهات التربوية الجيدة، بينما تكون هناك مناطق أخرى، وربما تكون هي الأكثر مساحة جغرافية، والأطول مساحة زمانية، على غير ذلك. وقد يحدث العكس، أي أن تكون العينة من مناطق متخلفة، جامدة، فيكون الحكم على الموروث التربوي ظالماً، وهذا ما يحدث بالفعل بين الخصوم والأنصار للاستعانة بالموروث، فالخصوم بالفعل يجدون أمثلة وشواهد تؤكد رأيهم، والأنصار يجدون كذلك أمثلة وشواهد تؤيدهم.

4- كذلك فإن من أهم القواعد التي ينبغي الالتزام بها في التعامل مع الموروث، أن يتحلى الباحث بروح النقد، فلا تقديس إلا لكلام الله المتضمن في القرآن الكريم. والأحاديث النبوية نفسها كثيراً ما خضعت للنقد من حيث التأكد من صدق صدورها عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن هنا كان قيام علم الحديث، وما عرف باسم الجرح والتعديل الذي قوامه النزعة النقدية.

إن عمل الباحث في الموروث التربوي يجب أن يكون أشبه بعمل المستنطق في الدوائر القضائية الذي يأتي بالشهود والرواة فيستنطقهم ويدقق في شهاداتهم ويحقق في إفاداتهم ويقدم تدقيقاته وتحقيقاته ليستند إليها في الحكم على ما جرى، ولكن الباحث الناقد في الموروث التربوي لا يقف عند عمل المستنطق، بل يتجاوزه إلى عمل المدعي العام، وإلى عمل المحامي - متخذاً وجهة الادعاء تارة ووجهة الدفاع أخرى - ثم يصل أخيراً إلى عمل القاضي الذي يثبت واقع الحادث قبل أن يُقَّدِم على الحكم أنفيه [19].

حقّاً إن اكتساب هذا الحس النقدي وضبط قواعده وتطبيقها بروية واتزان لمن أهم ثمار الثقافة، ومن أبرز مميزات الحضارة الناهضة النامية، ولكنها ثمرة لا تحصل إلا بفعل جهود وافرة شاقة تبذل في اقتلاع الأشواك ونسف الصخور وتمهيد الأرض وحرثها ورعايتها رعاية مستمرة، فإذا قل تقدير مجتمع من المجتمعات لهذه الثمرة أو ضعف اهتمامه بها أو تراخى سعيه في سبيلها، جفت أسرع جفاف وسقطت وضاعت وضاع معها الكثير من نتاج الحضارة ومفاخر المدنية. هذا ما نراه في سير الأمم المتعاقبة وفي أدوار الرقي والانحطاط في سيرة الأمة الواحدة. فعندما يكون حس الأمة النقدي نافذاً جريئاً، ويكون في الوقت نفسه عارفاً حدوده ضابطاً ذاته كما يضبط سواه، تتقدم الأمة في مجالات النهوض وتحقق خيرات ثقافية ومآثر حضارية، ويصبح لها فعلها الإيجابي وذكرها الباقي [20].

5- ولقد سبق الفيلسوف الإنجليزي الشهير (فرنسيس) بيكون أن حذر الباحثين من الوقوع في براثن مصدرين من مصادر الأوهام التي تميل بالبحث بعيداً عن جادة الحقيقة والحق، أحدهما ما سماه بأوهام الكهف، والثاني، أوهام القبيلة، ذلك أن في الإنسان ميلاً فطريّاً لأن يتأثر لا إراديّاً بما يكون عليه من تربية وشخصية وميول واتجاهات، وكذلك أن يتحيز إلى الجماعة أو المذهب الذي ينتمى إليه، فكأنه يضع على عينيه نظارة ملونة ترى الأمور بلونها.

إن هذا هو ما يسمى (بالتعصب) و(التحيز) وهو أخطر ما يكون على عملية البحث العلمي، وخاصة بالنسبة للموروث، وذلك لارتباط الموروث بالتاريخ القومي والوطني، وبالعقيدة الدينية والنزعة المذهبية، سواء بالسلب أو الإيجاب، وخاصة بالنسبة للعقيدة والمذهبية، ولو تأملنا جيداً فيما يثار من مناقشات حول الموروثات فسوف نجد أن الموقف المذهبي يطل بوضوح برأسه ويوجه المناقشة.

ونحن هنا لا نتصور إمكان أن (ينخلع) الباحث من مثل هذه المؤثرات، ولكننا ننشد الوعي بتأثيرها، سواء من الباحث نفسه، أو من السامع أو القارئ للكتابة والمناقشة، ومن هنا فإن البعض يرى أن الموضوعية إذا كانت مستحيلة، فإن أضعف الإيمان أن يعلن الكاتب أو الباحث عن هويته الفكرية حتى يكون القارئ على بينة من توجهات ما يقرأ.

لقد خسر التاريخ الفكري العربي والإسلامي الكثير نتيجة خضوع البعض لهوى النزعات العرقيَّة والمذهبية والسياسيَّة، حتى لقد أدى هذا بالبعض إلى الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفنا ما سُمّي (بالوضع) في الأحاديث، أي اختلاق أحاديث نبوية لتأييد هذا أو ذاك أو الهجوم على هذا وتجريحه أو ذاك، فما بالنا بما كتب في التربية والتعليم؟

6- وإذا كان التجرد من النزعات التعصبية يصور الجانب السلبي، فإن هناك جانباً إيجابيّاً نتطلبه من الباحث في الموروث التربوي، ويتمثل ذلك في محاولة النفاذ إلى أعماق الأفراد والجماعات في الماضي فيتحسس أحاسيسهم، ويتلمس أهواءهم، ويختبر ميولهم ورغباتهم، وآمالهم وأمانيهم، والظروف التي كانت تحيط بهم، وتأثرهم بهذه الظروف وتأثيرهم فيها، وبذلك يصبح كأنه واحد منهم، ينطق بلغتهم، بل بلغاتهم جميعاً، لا يلتزم أي فرد منهم أو أية شيعة أو أمة دون سواها، فالماضي حصيلة ميول وإرادات، ومطامع ومعتقدات، وتفاعلات حيَّة دائماً بين الفرد والمجتمع وبين المجتمعات المختلفة.

ولابدَّ للباحث في الموروث التربوي من أن ينفذ إلى كل هذا إذا أراد أن يفهم هذا الموروث على حقيقته، وهو يجد فيها ما يحب وما يكره، ما يقر وما ينكر، ما يثير في نفسه الرضى والإعجاب وما يبعث الأسى والازدراء، وواجبه أن يسعى دوماً إلى إثبات هذا وذاك كما تجليا له بالضبط، دون أن يجعل لحبه أو كرهه أثراً في هذا الإثبات، واجبه أن يصور الأهواء دون هوى، ويمثل الميول دون ميل، ويستخرج العوامل المحيطة والتفاعلات البشرية ولا يفرضها - كل ذلك لأنه يعيش الماضي ويختبره في نفسه وينطق بروحه، دون أن يذوب فيه [21].

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين