نواقض الإيمان في ميزان الكتاب والسنة(24)

 

اللتدرج في تطبيق الشريعة

 

مسألة التدرج في تطبيق الأحكام الشرعية 

ـ قد يقول قائل: المجالس النيابية المنتخبة لا تستطيع أن تطبق شرع الله دفعة واحدة!. فأقول: هذا صحيح، ولكن الواجب على الحاكم المسلم ـ بعد عهود تضييع الأحكام وتعطيل الشريعة ـ هو التطبيق المتدرج، تأسيا بما اختاره الله جل وعلا لرسوله صلى الله عليه وسلم من التدرج. 

يظن كثير من الناس أن التدرج في تطبيق الأحكام الشرعية على الناس هو التدرج في التطبيق زمن التشريع، وهو الذي كان في زمن النبوة فقط، ويغفـُلون عن الجانب الآخر، وهو التدرج في الدعوة والتطبيق حتى في حالة اكتمال التشريع: 

فأما الأول وهو التدرج في التطبيق زمن التشريع فهو متفق عليه ولا لـَبْس فيه، حيث كان المطلوب من المسلمين في بداية الدعوة هو تحقيقَ الإيمان والمعاني الإيمانية، ثم بدأتْ ـ بعد ذلك ـ تتنزل الأوامر والنواهي يتبع بعضها بعضا. 

وأما الثاني وهو التدرج في الدعوة والتطبيق في حالة اكتمال التشريع فقد شرَعه صلى الله عليه وسلم وأمر به معاذ بن جبل رضي الله عنه عندما أرسله إلى اليمن لدعوة أهل الكتاب في أواخر العهد المدني، وذلك فيما رواه الشيخان في صحيحيهما عن ابن عباس أنه قال: لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذا نحو اليمن قال له "ادعهم إلى شهادة أنْ لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تـُؤخذ من أغنيائهم وتـُرد على فقرائهم". 

فلم يأمره ـ إذا استجابوا لكلمة التوحيد ودخلوا في دين الإسلام ـ أن يخبرهم بكل ما كان قد نزل من الأحكام من الأوامر والنواهي، واكتفى أولا بالأوامر وأجَّل موضوع النواهي، ثم إنه اكتفى بادئ ذي بدء بخصلة واحدة من الأوامر فقط وهي فريضة الصلاة، حيث إنها هي الصلة بين المرء وربه، وأمره أن ينتقل ـ بعد تحقيق القيام بها ـ إلى أداء الزكاة، حيث إنها هي صلة التكافل بين الغني والفقير، ولم يأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم معاذا بأن يضيف إلى أي من هذين الركنين ـ قبل اكتمال تطبيقهما ـ لا أمرا من الأوامر الأخرى ولا وجوبَ اجتناب أي واحد من المناهي، وذلك على الرغم من أن الأحكام التشريعية في الأوامر والنواهي كان قد اكتمل نزولها وقت بعث معاذ إلى اليمن. 

ـ ظن بعض الناس أن العمل بالتدرج في تطبيق الأحكام لم يعمل به الخلفاء الراشدون!. 

أقول: بل عمل به خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى، فقد روى البسوي في كتاب المعرفة والتاريخ وابن عساكر في تاريخ دمشق عن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز أنه قال: قلت لأبي في بعض ما رأيته يتردد عنه من رد أموال أهل بيته: يا أبة امضِ لما تريد. فقال: "أي بني، والله ما أروضُ الناسَ إلا رياضة الصعب، إني لأريد أن أبدأ بخُطة من الحق فأخشى أن تـُرَد علي حتى أظهـِر معها طمعا في الدنيا، فإن تغيَّروا عن هذه لا يَنـُوا في هذه، فإن أعشْ أمضي لما أريد، وإن أمُتْ فقد علم الله نيتي". []. لا يَنـُوا: أي لا يضعُفوا. 

رواه البسوي عن يحيى بن عبد الله بن بكير عن الليث بن سعد عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون عن عبيد الله بن عمر العمري عن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون عن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز. وهذا سند صحيح. وأما عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز فقد كان رجلا صالحا ليس بأقلَّ من أبيه في العبادة والحرص على رد المظالم، ومات قبل موت أبيه رحمهما الله تعالى. 

ورواه أبو نعيم في الحلية من طريق آخر، ولفظه أنه قال لأبيه: يا أبت، ما منعك أن تمضي لما تريد من العدل؟!. فقال: "يا بني، إنما أنا أروض الناس رياضة الصعب، إني لأريدُ أن أحييَ الأمر من العدل فأؤخرُ ذلك حتى أخرِج معه طمعا من طمع الدنيا، فينفروا من هذه ويسكنوا لهذه". []. 

رواه أبو نعيم من طريق الإمام أحمد عن معمر بن سليمان الرقي عن فرات بن سلمان الرقي عن ميمون بن مهران الجزري عن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز. وهذا سند جيد. 

ورواه أبو نعيم في الحلية من طريق آخر، ولفظه أنه قال لأبيه: يا أمير المؤمنين، ما أنت قائل لربك غدا إذا سألك فقال رأيتَ بدعة فلم تمتـْها أو سنة فلم تحيها؟!. فقال له: "يا بني، إن قومك قد شدوا هذا الأمر عقدة عقدة وعروة عروة، ومتى ما أريد مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم لم آمَنْ أن يفتقوا علي فتقا تكثر فيه الدماء، واللهِ لزوالُ الدنيا أهون علي من أن يُهراق في سببي محجمة من دم، أوَما ترضى أن لا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا إلا وهو يميت فيه بدعة ويحيي فيه سنة حتى يحكم الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الحاكمين؟!". []. 

رواه أبو نعيم عن عبد الله بن محمد بن جعفر عن أحمد بن الحسين الحذاء عن أحمد بن إبراهيم الدورقي عن منصور بن أبي مزاحم عن شعيب بن صفوان عن محَدِّث حدثه عن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز به نحوه. وسنده جيد إلى شعيب، وشعيب لين، وشيخه مبهم، فهذا الطريق ضعيف. هذا وكان أخي الشيخ محمد نجيب عطار جزاه الله خيرا قد أوقفني على هذا الطريق من كتاب الحلية، ثم بحثت عن هذه الرواية فوجدت لها الطرق الأخرى. 

ورواه ابن عساكر كذلك من طريق عفان بن مسلم عن جويرية بن أسماء عن نافع مولى ابن عمر عن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز به نحوه. ورواه البسوي وأبو نعيم وابن عساكر من طريقين عن سعيد بن عامر عن جويرية بن أسماء عن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز به نحوه. سعيد بن عامر ثقة فيه لين مات سنة 208. جويرية بن أسماء صدوق مات سنة 173، ولم يدرك عبدَ الملك بن عمر بن عبد العزيز الذي توفي سنة 100. وإذا صح طريق عفان بن مسلم عن جويرية عن نافع فيكون قد سقط اسم نافع من هذا الطريق. 

ورواه ابن عساكر بسنده عن خالد بن يزيد بن معاوية أنه قال: دخل عبد الملك على عمر بن عبد العزيز فقال: يا أمير المؤمنين، ماذا تقول لربك إذا أتيته وقد تركت حقا لم تحْيِه وباطلا لم تمِتـْه!. فقال: "اقعد يا بني، إن آباءك وأجدادك خدعوا الناس عن الحق، فانتهت الأمور إلي وقد أقبل شرها وأدبر خيرها، ولكن أليس حسبي جميلا أن لا تطلع الشمسُ علي في يوم إلا أحييتُ فيه حقا وأمَتُّ فيه باطلا حتى يأتيني الموت وأنا على ذلك؟!". 

فهذا عمر بن عبد العزيز رحمه الله ـ وهو خامس الخلفاء الراشدين ومن خيار التابعين وفضلائهم ـ لما ولي الخلافة لم يقم برد المأخوذ من بيت المال بغير حق دفعة واحدة، وربما رأى أشياء من البدع ومن الباطل فلم يمِتْها دفعة واحدة، وأشياءَ من السنن الميتة والحق الضائع فلم يحْيها كذلك دفعة واحدة، ويكفيه أن يميت في كل يوم بدعة ويحييَ فيه سنة، وأن يميت فيه باطلا ويحيي فيه حقا، فإن يعشْ فإنه ماضٍ في تحقيق ما يريد، وإن يمُتْ فقد علم الله نيته، ويستخلفُ من بعده من يتابع مسيرة الإصلاح. وهذا من فقه خامس الخلفاء الراشدين، فرحمه الله رحمة واسعة. 

ـ وثَمَّة حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه إشارة إلى مسألة تأجيل إنفاذ أمر ما إذا كانت الأحوال غير ملائمة، وهو ما رواه البخاري ومسلم من طرق عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "يا عائشة، لولا أن قومك حديثُ عهدٍ بجاهلية لأمرت بالبيت فهُدم فأدخلتُ فيه ما أخرِج منه وألزقته بالأرض وجعلت له بابين بابا شرقيا وبابا غربيا فبلغتُ به أساس إبراهيم". []. 

صحيح البخاري: 2/ 147. صحيح مسلم: 2/ 969. 

وذكْر هذا الحديث هنا هو للتنبيه على أن هنالك فرقا بين هذا وبين مسألة التدرج في تطبيق الأحكام الشرعية، لأن إعادة بناء الكعبة المشرفة على قواعد إبراهيم عليه السلام أو تركها على ما هي عليه هي مسألة تصحيح تاريخي، وليست مسألة أحكام تشريعية. 

سن القوانين المنظمة للأحكام الشرعية 

من الغني عن البيان أن سن القوانين المنظمة للأحكام الشرعية لا يقوم به إلا ثلة من العلماء الأفذاذ الذين قضوا نفائس الأوقات في الدرس والبحث والاجتهاد، ممن يجمعون بين علوم القرآن والسنة والفقه وأصوله والقواعد الفقهية، مع التعمق في دراسة السيرة النبوية التي هي المرشد في فهم واقعية التطبيق للأحكام الشرعية في العصر الذي يُراد تطبيقها فيه، ولا ينبغي أن يخوض فيه بعض طلبة العلم الذين حصلوا طرفا من مسائل العلم نقلا وتقليدا. والله الموفق.

الحلقة السابقة هــنا 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين